وأما الأكل واللباس، فخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم‏
 
فصــل
وأما الأكل واللباس، فخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم‏.‏ وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه، ولا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، فكان إن حضر خبز ولحم، أكله‏.‏ وإن حضر فاكهة وخبز ولحم، أكله‏.‏ وإن حضر تمر وحده أو خبز وحده، أكله‏.‏ وإن حضر حلو أو عسل طَعِمَه ـ أيضًا ـ وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القِثَّاء بالرطب‏.‏ فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول‏:‏ لا آكل لونين، ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة‏.‏
وكان ـ أحيانا ـ يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء‏.‏ وأحيانا، يربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان لا يعيب طعامًا، فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه‏.‏ وأكل على /مائدته لحم ضب فامتنع من أكله، وقال‏:‏ ‏(‏إنه ليس بحرام، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه‏)‏ ‏.‏
وكذلك اللباس، كان يلبس القميص والعمامة، ويلبس الإزار والرداء ويلبس الجبة
والفَرُوج، وكان يلبس من القطن والصوف، وغير ذلك‏.‏ لبس في السفر جبة صوف، وكان يلبس مما يجلب من اليمن وغيرها، وغالب ذلك مصنوع من القطن، وكانوا يلبسون من قباطي مصر، وهي منسوجة من الكتان‏.‏ فسنته في ذلك تقتضي أن يلبس الرجل ويطعم مما يسره الله ببلده، من الطعام واللباس‏.‏ وهذا يتنوع بتنوع الأمصار‏.‏
وقـد كـان اجتمع طائفـة من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه، وعلي الامـتناع مـن تزوج النساء، فـأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائـدة‏:‏ 87، 88‏]‏،
وفي الصحيحين عنه أنه بلغه أن رجالاً قال أحدهم‏:‏ أمـا أنا، فأصوم لا أفطر‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما أنا، فأقوم لا أنام‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا أتزوج النساء‏.‏ وقـال الآخر‏:‏ أمـا أنا، فـلا آكل اللحـم‏.‏ فقـال‏:‏ ‏(‏لكني أصوم وأفطر، وأقـوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكـل اللحم، فمـن رغب عـن سنتي فليس مني‏)‏ ، وقـد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏172‏]‏ فأمـر بأكل الطيبات، والشكر صلى الله عليه وسلم، فمن حرم الطيبات كان معتدياً، ومن لم يشكر كان مفرطًا مضيعًا لحق الله‏.‏ وفي صحيـح مسلم عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله ليرضى عـن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها‏)‏‏.‏ وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الطاعم الشاكر، بمنزلة الصائم الصابر‏)‏ ‏.‏
فهذه الطريقة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعدل الطرق وأقومها‏.‏ والانحراف عنها إلى وجهين‏:‏
قوم يسرفون في تناول الشهوات، مع إعراضهم عن القيام بالواجبات، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏59‏]‏‏.‏
وقوم يحرمون الطيبات، ويبتدعون رهبانية، لم يشرعها الله ـ تعالي ـ ولا رهبانية في الإسلام‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏،
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏‏.‏
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله أمر المؤمنين/بما أمر به المرسلين، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏‏.‏ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء‏:‏ يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأني يستجاب لذلك‏.‏ وكل حلال طيب، وكل طيب حلال‏.‏ فإن الله أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، لكن جهة طيبه، كونه نافعًا لذيذًا‏.‏
و الله حرم علينا كل ما يضرنا، وأباح لنا كل ما ينفعنا، بخلاف أهل الكتاب فإنه ـ بظلم منهم ـ حرم عليهم طيبات أحلت لهم، فحرم عليهم طيبات عقوبة لهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يحرم علينا شيئًا من الطيبات، والناس تتنوع أحوالهم في الطعام واللباس والجوع والشبع، والشخص الواحد يتنوع حاله، ولكن خير الأعمال ما كان صلى الله عليه وسلم أطوع، ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين، وقد يكون أشدهما‏.‏ فليس كل شديد فاضلا، ولا كل يسير مفضولا، بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد، فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة، لا لمجرد تعذيب النفس‏.‏ كالجهاد الذي قال فيه تعالي‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏216‏]‏‏.‏
/والحج هو الجهاد الصغير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة ـ رضي الله عنها ـ في العمرة‏:‏ ‏(‏أجرك على قدر نَصَبِك‏)‏ وقال تعالى في الجهاد‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 210‏]‏‏.‏
وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة، فليس هذا مشروعًا لنا، بل أمرنا الله بما ينفعنا، ونهانا عما يضرنا‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين‏)‏ وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن‏:‏ ‏(‏يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا‏)‏ ،وقال‏:‏ ‏(‏هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا‏)‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة‏)‏ ‏.‏
فالإنسان إذا أصابه في الجهاد والحج أو غير ذلك حر أو برد أو جوع، ونحو ذلك‏.‏ فهو مما يحمد عليه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏‏.‏
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكفارات‏:‏ إسباغ الوضوء / على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط‏)‏ ‏.‏
وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد بلا منفعة شرعية، واحتفاؤه وكشف رأسه، ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس، فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان، وطاعة صلى الله عليه وسلم، فلا خير فيه‏.‏ بل قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً قائمًا في الشمس، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه‏)‏ ‏.‏
ولهذا نهي عن الصمت الدائم، بل المشروع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن ب الله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت‏)‏‏.‏ فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خير من التكلم به‏.