العبادات التي جاءت على وجوه متنوعة
 
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ‏:‏
فصــل
العبادات التي جاءت على وجوه متنوعة
قد تقدم القول في مواضع‏:‏ أن العبادات التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم على أنواع يشرع فعلها على جميع تلك الأنـواع، لا يكـره منها شـيء، وذلك مثـل أنـواع التشهدات، وأنـواع الاستفتاح، ومثل الوتر أول الليل وآخره، ومثل الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة، وأنواع القراءات التي أنزل القرآن عليها، والتكبير في العيد، ومثل الترجيع في الأذان وتركه، ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها‏.‏
وقد بسطنا في جواب مسائل الزرعية وغيرها أن ما اختلف فيه العلماء وأراد الإنسان أن يحتاط فيه فهو نوعان‏:‏
أحدهما‏:‏ ما اتفقوا فيه على جواز الأمرين، ولكن تنازعوا‏:‏ أيهما أفضل‏؟‏
/والثاني‏:‏ ما تنازعوا فيه في جواز أحدهما، وكثير مما تنازعوا فيه قد جاءت السنة فيه بالأمرين، مثل الحج‏.‏ قيل‏:‏ لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة، بل قيل‏:‏ ولا تجوز المتعة، وقيل‏:‏ بل ذلك واجب، والصحيح أن كليهما جائز‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة في حجة الوداع بالفسخ، وقد كان خيرهم بين الثلاثة، وقد حج الخلفاء بعده ولم يفسخوا، كما بسط في موضعه‏.‏ وكذلك الصوم في السفر قيل‏:‏ لا يجوز، بل يجب الفطر، والصحيح الذي عليه الجمهور جواز الأمرين‏.‏
ثم قال كثير منهم‏:‏ إن الصوم أفضل‏.‏ والصحيح أن الفطر أفضل إلا لمصلحة راجحة، وما قال أحد‏:‏ إنه لا يجوز الفطر، كما يظنه بعض الجهال، وهذا مبسوط في مواضع‏.‏
والمقصود هنا أن ما جاءت به السنة على وجوه ـ كالأذان، والإقامة وصلاة الخوف، والاستفتاح ـ فالكلام فيه من مقامين‏:‏
أحدهما‏:‏ في جـواز تلك الوجوه كلها بلا كراهة، وهذا هو الصواب، وهو مذهب أحمد وغيره في هذا كله‏.‏ ومن العلماء من قد يكرِّه، أو يحرم بعض تلك الوجوه؛ لظنه أن السنـة لـم تـأت به، أو أنه منسوخ‏.‏ كما كره طائفة الترجيع في الأذان، وقالوا‏:‏ إنما قاله لأبي/ محذورة تلقينًا للإسلام لا تعليما للأذان‏.‏ والصواب أنه جعله من الأذان وهذا هو الذي فهمه أبو محـذورة، وقـد عمل بذلك هو وولده والمسلمون يقرونهم على ذلك بمكة وغيرها‏.‏
وكره طائفة الأذان بلا ترجيع، وهو غلط ـ أيضًا ـ فإن أذان بلال الثابت ليس فيه ترجيع، وكره طائفة ترجيعها، وكره طائفة صلاة الخوف إلا على حديث ابن عمر، وكره آخرون ما أمر به هؤلاء‏.‏
والصواب في هذا كله أن كل ما جاءت به السنة فلا كراهة لشيء منه، بل هو جائز، وهذا مبسوط في مواضع‏.‏
والمقصود هنا هو‏:‏ المقام الثاني‏.‏ وهو أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع متنوعة‏.‏ وإن قيل‏:‏ إن بعض تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين، وهجر الآخر، وهذا مثل الاستفتاح‏.‏ ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏قلت‏:‏ يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول‏؟‏ قال‏:‏ أقول‏:‏‏(‏اللهم بعد بيني وبين خطاياي، كما بعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد‏)‏ ولم يخرج البخاري في الاستفتاح شيئا إلا/هذا، وهو أقوي الحجج على الاستفتاح في المكتوبة، فإنه صريح في ذلك بقوله‏:‏ أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة‏؟‏ وهذا سؤال عن السكوت، لا عن القول سرًا، ويشهد له حديث سمرة،وحديث أبي بن كعب، أنه كان له سكتتان‏.‏
وأيضًا، فللناس في الصلاة أقوال‏:‏
أحدها‏:‏ أنه لا سكوت فيها كقول مالك، ولا يستحب عنده استفتاح، ولا استعاذة، ولا سكوت لقراءة الإمام‏.‏
والثاني‏:‏ أنه ليس فيها إلا سكوت واحد للاستفتاح‏:‏ كقول أبي حنيفة، لأن هذا الحديث يدل على هذه السكتة‏.‏
والثالث‏:‏ أن فيها سكتتين، كما في حديث السنن‏.‏ لكن روي فيه أنه يسكت إذا فرغ من القراءة، وهو الصحيح‏.‏ وروي إذا فرغ من الفاتحة، فقال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ يستحب ثلاث سكتات‏.‏
وسكتـة الفاتحـة جعلها أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد ليقرأ المأموم الفاتحة‏.‏ والصحيح أنه لا يستحب إلا سكتتان، فليس في الحديث إلا ذلك، وإحدي الروايتـين غلط، وإلا كانت ثلاثًا،/ وهذا هو المنصوص عن أحمد‏.‏ وأنه لا يستحب إلا سكتتان، والثانية عند الفراغ من القراءة للاستراحة، والفصل بينها وبين الركوع‏.‏
وأما السكوت عقيب الفاتحة، فلا يستحبه أحمد، كما لا يستحبه مالك وأبو حنيفة، والجمهور لا يستحبون أن يسكت الإمام ليقرأ المأموم‏.‏ وذلك أن قراءة المأموم عندهم إذا جهر الإمام ليست بواجبة، ولا مستحبة، بل هي منهي عنها، وهل تبطل الصلاة إذا قرأ مع الإمام‏؟‏ فيه وجهان في مذهب أحمد، فهو إذا كان يسمع قراءة الإمام فاستماعه أفضل من قراءته، كاستماعه لما زاد على الفاتحة، فيحصل له مقصود القراءة، والاستماع بدل عن قراءته، فجمعه بين الاستماع والقراءة جمع بين البدل والمبدل؛ ولهذا لم يستحب أحمد وجمهور أصحابه قراءته في سكتات الإمام إلا أن يسكت سكوتًا بليغًا يتسع للاستفتاح والقراءة‏.‏
وأما إن ضاق عنهما، فقوله وقول أكثر أصحابه‏:‏ إن الاستفتاح أولي من القراءة، بل هو في إحدي الروايتين يأمر بالاستفتاح مع جهر الإمام، فإذا كان الإمام ممن يسكت عقيب الفاتحة سكوتًا يتسع للقراءة، فالقراءة فيه أفضل من عدم القراءة، لكن هل يقال‏:‏ القراءة فيه بالفاتحة أفضل للاختلاف في وجوبها أو بغيرها من القرآن؛ لكونه قد استمعها‏؟‏ هذا فيه نزاع‏.‏ ومقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن/ القراءة بغيرها أفضل، فإنه لا يستحب أن يقرأ بها مع استماعه قراءتها وعامة السلف الذين كرهوا القراءة خلف الإمام هو فيما إذا جهر‏.‏ ولم يكن أكثر الأئمة يسكت عقب الفاتحة سكوتًا طويلا‏.‏ وكان الذي يقرأ حال الجهر قليلا‏.‏ وهذا منهي عنه بالكتاب والسنة، وعلى النهي عنه جمهور السلف والخلف، وفي بطلان الصلاة بذلك نزاع‏.‏
ومـن العلماء مـن يقـول‏:‏ يقـرأ حال جهـره بالفاتحة‏.‏ وإن لم يقرأ بها ففي بطلان صـلاته أيضا نزاع، فالنزاع من الطرفين، لكن الذين ينهون عن القراءة مع الإمام هم جمهور السلف والخلف، ومعهم الكتاب والسنة الصحيحة، والذين أوجبوها على المأموم في حـال الجهـر هكذا‏.‏ فحـديثهم قـد ضعفـه الأئمـة، ورواه أبو داود‏.‏ وقـولـه في حـديث أبي موسي‏:‏ ‏(‏وإذا قرأ فأنصتوا‏)‏ صححه أحمد وإسحاق ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعلله البخاري بأنـه اختلف فيـه، وليس ذلك بقادح في صحته‏.‏ بخلاف ذلك الحديث، فإنه لم يخـرج في الصحيح، وضعفه ثابت من وجوه‏.‏ وإنما هو قول عبادة بن الصامت، بل يفعـل في سكـوته ما يشرع من الاستفتاح والاستعاذة، ولو لم يسكت الإمام سكوتًا يتسع لذلك، أو لم يدرك سكوته، فهل يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام‏؟‏ فيه ثلاث روايات‏:‏
إحداها‏:‏ يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام وإن لم يقرأ؛ لأن/ مقصود القراءة حصل بالاستماع، وهو لا يسمع استفتاحه واستعاذته إذ كان الإمام يفعل ذلك سرًا‏.‏
والثانية‏:‏ يستفتح ولا يستعيذ؛ لأن الاستعاذة تراد للقراءة، وهو لا يقرأ، وأما الاستفتاح فهو تابع لتكبيرة الافتتاح‏.‏
والثالثة‏:‏ لا يستفتح ولا يستعيذ، وهو أصح، وهو قول أكثر العلماء، كمالك والشافعي، وكذا أبو حنيفة ـ فيما أظن ـ لأنه مأمور بالإنصات والاستماع، فلا يتكلم بغير ذلك؛ ولأنه ممنوع من القراءة، فكذا يمنع من ذلك‏.‏ وكثير من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم يقول‏:‏ منعه أولى؛ لأن القراءة واجبة، وقد سقطت بالاستماع؛ لكن مذهب أحمد ليس منعه من القراءة أوكد‏.‏ فإن القراءة عنده لا تجب على المأموم لا سرًا ولا جهرًا، وإن اختلف في وجوبها على المأموم، فقد اختلف في وجوب الاستفتاح والاستعاذة‏.‏ وفي مذهبه في ذلك قولان مشهوران‏.‏
ومن حجة من يأمر بهما عند الجهر أنهما واجبان لم يجعل عنهما بدل، بخلاف القراءة فإنه جعل منها بدل وهو الاستماع، لكن الصحيح أن ذلك ليس بواجب، والاستعاذة إنما أمر بها من يقرأ، والأمر باستماع قراءة الإمام والإنصات له مذكور في القرآن، وفي السنة الصحيحة، وهو/إجماع الأمة فيما زاد على الفاتحة، وهو قول جماهير السلف من الصحابة وغيرهم في الفاتحة وغيرها، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من حذاق أصحابه‏:‏ كالرازي، وأبي محمد بن عبد السلام، فإن القراءة مع جهر الإمام منكر مخالف للكتاب والسنة، وما كان عليه عامة الصحابة‏.‏ ولكن طائفة من أصحاب أحمد استحبوا للمأموم القراءة في سكتات الإمام‏.‏ ومنهم من استحب أن يقرأ بالفاتحة وإن جهر، وهو اختيار جدي‏.‏ كما استحب ذلك طائفة منهم الأوزاعي وغيره، واستحب بعضهم للإمام أن يسكت عقب الفاتحة ليقرأ من خلفه، وأحمد لم يستحب هذا السكوت، فإنه لا يستحب القراءة إذا جهر الإمام؛ وبسط هذا له موضع آ خر‏.‏
والمقصود هنا أن سكوت الاستفتاح ثبت بهذا الحديث الصحيح‏.‏ ومع هذا، فعامة العلماء ـ من الصحابة ومن بعدهم ـ يستحبون الاستفتاح بغيره كما يستحب جمهورهم الاستفتاح بقوله‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم‏)‏ وقد بينا سبب ذلك في غير هذا الموضع، وهو أن فضل بعض الذكر على بعض هو لأجل ما اختص به الفاضل، لا لأجل إسناده‏.‏
والذكر ثلاثة أنواع أفضله ما كان ثناء على الله ، ثم ما كان إنشاء من العبد، أو اعترافا بما يجب للَّه عليه، ثم ما كان دعاء من العبد‏.‏
/فالأول‏:‏ مثل النصف الأول من الفاتحة، ومثل‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك‏)‏ ، ومثل التسبيح في الركوع والسجود‏.‏
والثاني‏:‏ مثل قوله‏:‏ ‏(‏وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض‏)‏ ، ومثل قوله في الركوع والسجود‏:‏ ‏(‏اللهم لك ركعت ولك سجدت‏)‏ وكما في حديث على الذي رواه مسلم‏.‏
والثالث‏:‏ مثل قوله‏:‏ ‏(‏اللهم بَعِّد بيني وبين خطاياي‏)‏ ومثل دعائه في الركوع والسجود‏.‏ ولهذا أوجب طائفة من أصحاب أحمد ما كان ثناء، كما أوجبوا الاستفتاح‏.‏ وحكي في ذلك عن أحمد روايتان، واختار ابن بطة وغيره وجوب ذلك، وهذا لبسطه موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن النوع المفضول مثل الاستفتاح الذي رواه أبو هريرة، ومثل الاستفتاح بوجهت، أو سبحانك اللهم، عند من يفضل الآخر، فِعْلُه ـ أحيانًا ـ أفضل من المداومة على نوع، وهجر نوع، وذلك أن أفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول في خطبة الجمعة‏:‏ ‏(‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏ ولم يكن يداوم على استفتاح واحد قطعًا‏.‏ فإن حديث أبي هريرة يدل على أنه كان يستفتح بهذا‏.‏ /فإن قيل‏:‏ كان يداوم عليه، فكانت المداومة عليه أفضل، قلنا‏:‏ لم يقل هذا أحد من العلماء ـ فيما علمناه ـ فَعُلِم أنه لم يكن يداوم عليه‏.‏
وأيضًا، فقد كان عمر يجهر‏:‏ ‏(‏بسبحانك اللهم وبحمدك‏)‏ يعلمها الناس‏.‏ ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها في الفريضة، ما فعل ذلك عمر‏.‏ وأقره المسلمون‏.‏ وكما كان بعضهم يجهر بالاستعاذة، وكذلك قيل في جهر جماعة منهم بالبسملة‏:‏ إنه كان لتعليم الناس قراءتها، كما جهر من جهر منهم بالاستعاذة والاستفتاح، وكما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ ولهذا كان الصواب هو المنصوص عن أحمد أنه يستحب الجهر ـ أحيانا ـ بذلك، فيستحب الجهر بالبسملة ـ أحيانًا ـ ونص قوم على أنه كان يجهر بها إذا صلى بالمدينة، فظن القاضي أن ذلك لأن أهل المدينة شيعة يجهرون بها، وينكرون على من لم يجهر بها؛ لأن القاضي لما حج كان قد ظهر بها التشيع، واستولى عليها وعلى أهل مكة العبيديون المصريون، وقطعوا الحج من العراق مدة وإنما حج القاضي من الشام‏.‏
والصواب أن أحمد لم يأمر بالجهر لذلك، بل لأن أهل المدينة على عهده كانوا لايقرؤون بها سرًا ولا جهرًا، كما هو مذهب مالك، فأراد أن يجهر بها كما جهر بها من جهر من الصحابة تعليمًا للسنة، وأنه يستحب قراءتها في الجملة‏.‏ وقد استحب أحمد ـ أيضًا ـ لمن صلى بقوم لا يقنتون/بالوتر، وأرادوا من الإمام ألا يقنت لتأليفهم‏.‏ فقد استحب ترك الأفضل لتأليفهم، وهذا يوافق تعليل القاضي‏.‏ فيستحب الجهر بها إذا كان المأمومون يختارون الجهر لتأليفهم، ويستحب ـ أيضا ـ إذا كان فيه إظهار السنة، وهم يتعلمون السنة منه ولا ينكرونه عليه‏.‏
وهذا كله يرجع إلى أصل جامع‏:‏ وهو أن المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة، وإذا كان المحرم كأكل الميتة قد يصير واجبًا للمصلحة الراجحة، ودفع الضرر، فلأن يصير المفضول فاضلا لمصلحة راجحة أولي‏.‏
وكذلك يقال في أجناس العبادات كالصلاة‏:‏ جنسها أفضل من جنس القراءة، والذكر‏.‏ ثم إنها منهي عنها في أوقات النهي، فالقراءة والذكر والدعاء في ذلك الوقت أفضل من الصلاة، وكذلك الدعاء في مشاعر الحج بعرفة ومزدلفة ومني والصفا والمروة أفضل من القراءة ـ أيضا ـ بالنص والإجماع‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعًا وساجدًا‏)‏ وهذا في الصحيح من حديث ابن عباس، ومن حديث على ـ أيضا ـ أنه نهاه عن ذلك، ولو قرأ هل تبطل صلاته‏؟‏ فيه وجهان في مذهب أحمد، فالنهي عن الصلاة والقراءة في المشاعر الفضيلة‏.‏‏.‏‏.‏
/فإن الطهارة شرط في الصلاة، ولا يشترط له الطهارة، ولكل مكان عبادة تشرع، وكذلك ترك الصلاة وقت النهي مشروع في كل زمان‏.‏ وأما الطواف فهل تكره فيه القراءة‏؟‏ فيه قولان مشهوران للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، والرخصة مذهب الشافعي، بل هو يستحب فيه القراءة، ولا يستحب الجهر بها، وللأخري مصنف‏.‏
وإذا كان هذا من أجناس العبادات التي ثبت فضل بعضها على بعض بالنص والإجماع، فكيف في أنواع الذكر لاسيما فيما فيه نزاع‏؟‏‏!‏ فالأصل ـ بلا ريب ـ هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنه كان يستفتح بهذا الاستفتاح الذي في حديث أبي هريرة، فالأفضل أن يستفتح به أحيانا، ويستفتح بغيره أحيانا‏.‏
وأيضًا، فلكل استفتاح حاجة ليست لغيره، فيأخذ المؤمن بحظه من كل ذكر‏.‏
وأيضًا، فقد يحتاج الإنسان إلى المفضول، ولا يكفيه الفاضل‏.‏ كما في‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏، فإنها تعدل ثلث القرآن، أي يحصل لصاحبها من الأجر ما يعدل ثواب ثلث القرآن في القدر، لا في الصفة‏.‏ فإن ما في القرآن من الأمر والنهي والقصص والوعد والوعيد لا يغني عنه/‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ وليس أجرها من جنس أجرها‏.‏ وإن كان جنس أجر ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ أفضل، فقد يحتاج إلى المفضول حيث لا يغني الفاضل‏.‏ كما يحتاج الإنسان إلى رجله حيث لا تغني عنها عينه‏.‏
وكذلك المخلوقات لكل مخلوق حكمة خلق لأجلها، فكذلك العبادات، فجميع ما شرعه الرسول له حكمة ومقصود ينتفع به مقصوده فلا يهمل ما شرعه من المستحبات‏.‏ وإن قيل‏:‏ إن جنس غيره أفضل فهو في زمانه ومكانه أفضل من غيره‏.‏ والصلوات التي كان يدعو فيها بهذا الاستفتاح، كان دعاؤه فيها بهذا الاستفتاح أفضل من غيره وهو دعاؤه بالطهارة والتنقية من الذنوب والتبعيد عنها من جنس الاستغفار في السحر، وكاستغفاره عقب الصلاة، وقد كان يدعو بمثل هذا الدعاء في آخر قيام الاعتدال بعد التحميد، فكان يفتتح به القيام تارة، ويختم به القيام ـ أيضًا‏.‏
وقد روي عنه في الاستفتاح أنواع وعامتها في قيام الليل، كما ذكر ذلك أحمد‏.‏ ويستحب للمصلي بالليل أن يستفتح بها كلها، وهذا أفضل من أن يداوم على نوع ويهجر غيره، فإن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يقال ـ أيضًا ـ‏:‏ هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل، ومن الناس من لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول/ أنفع‏.‏ كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع، فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه ويرغب فيها ويحبها، أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة‏.‏ كالغذاء الذي يشتهيه الإنسان وهو جائع‏:‏ هو أنفع له من غذاء لا يشتهيه، أو يأكله وهو غير جائع‏.‏
فكذلك يقال هنا‏:‏ قد تكون مداومته على النوع المفضول أنفع لمحبته وشهود قلبه وفهمه ذلك الذكر‏.‏ ونحن إذا قلنا‏:‏ التنوع في هذه الأذكار أفضل، فهو ـ أيضًا ـ تفضيل لجنس التنوع‏.‏ والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس لمناسبته له، كما قد يكون جنسه في الشرع أفضل في بعض الأمكنة والأزمنة والأحوال، فالمفضول تارة يكون أفضل مطلقًا في حق جميع الناس، كما تقدم‏.‏ وقد يكون أفضل لبعض الناس؛ لأن انتفاعه به أتم‏.‏ وهذه حال أكثر الناس قد ينتفعون بالمفضول لمناسبته لأحوالهم الناقصة ما لا ينتفعون بالفاضل الذي لا يصلون إلى أن يكونوا من أهله‏.‏