فصل في البسملة
 
فصـل
وكذلك ‏[‏صلاة الخوف‏]‏ إذا صلى مرة على وجه، ومرة على وجه، كان أتبع من حفظ وجه وترك آخر، وقد يكون على وجه/ أفضل في وقت لمناسبة حاله حال ذلك الوقت، وربما كان بعض الذكر والدعاء في بعض الأوقات أفضل‏.‏ كذلك، فقد يكون في حال يكون الاستغفار أنفع له، وفي حال يكون إقراره للَّه بالتوحيد أفضل له، وفي حال يكون تسبيحه وتحميده وتهليله وتكبيره أفضل له‏.‏ والذين يستحبون بعض المشروع ويكرهون بعضه، فإن الله ـ سبحانه ـ يقيم طائفة تقول هذا وطائفة تقول هذا، وطائفة تقول هذا، ويتنازعون‏.‏ فإن بسبب النزاع تظهر كل طائفة من السنة ما قالت به وتركته الأخري، كالمختلفين في البسملة، هل تجب ويجهر بها‏؟‏ أم تكره قراءتها سرًا وجهرًا‏؟‏ يحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها من القرآن آية مفردة تبعًا للسور، ويحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها ليست من السور، ولا تجب قراءتها، وكلا القولين حق‏.‏
وسورة ‏[‏اقرأ‏]‏ هي أول ما نزل من القرآن، وقد احتج بها كل من الطائفتين، وفيها حجة لما معه من الحق، فالذين قالوا‏:‏ ليست من السور،قالوا‏:‏ إن جبريل لما أتي النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بقراءتها، بل أمره أن يقرأ‏:‏ ‏{‏بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ ولو كانت هي أول السورة لأمره بها، وهذا ثابت في الصحيحين من حديث عائشة‏.‏ والذين قالوا بقراءتها قالوا‏:‏ قد قال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، فهذا أمر لكل قارئ أن يقرأ باسم ربه‏.‏ فإذا قيل‏:‏ اذبح بسم الله ،/ وكل بسم الله ، واركب بسم الله ، فمعناه اذكر اسم الله إذا فعلت ذلك فلما قال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ كان أمرًا للقارئ أن يذكر اسم الله ، فيقول‏:‏ بسم الله ، وهذا أولي من ذكر اسم ربه عند الذبح والأكل والشرب‏.‏
وهنا قد أمر بالاستعاذة ـ أيضا ـ عند القراءة‏.‏ وهو إذا قال‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، فقد امتثل ما أمر به فذكر اسم ربه إذا قرأ، وإنما لم يذكرها جبريل ابتداء؛ لأنه بعد لم يتعلم شيئًا من القرآن، لكن علمه هذا وأمره فيه بذكر اسم ربه إذا قرأ، فكان بعد هذا إذا قرأ السورة، يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، كما ثبت في صحيح مسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏قد أنزل علي آنفًا سورة‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏.‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏.‏ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ‏}‏ ‏[‏ سورة الكوثر‏]‏‏.‏
ولكن هذه تدل على أنها تبع للقرآن المقصود؛ لما فيها من ذكر الله؛ ولهذا كتبت في المصاحف مفردة عن السورة لم تخلط بها، فهي قرآن مكتوب في المصاحف، لكن أنزل تبعًا لغيره، والمقصود غيره، فلهذا أفردت في الكتابة والتلاوة، ففي الكتابة تكتب مفردة، وفي التلاوة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجهر بها، ولم يجعلها من القرآن المفروض في الحديث الصحيح بقوله‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالي‏:‏ قسمت الصلاة/ بيني وبين عبدي نصفين‏:‏ نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، قال الله‏:‏ حمدني عبدي، فإذا قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}‏، قال‏:‏ أثني على عبدي، فإذا قال‏:‏ ‏{‏مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏، قال‏:‏ مجدني عبدي‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخر الحديث‏.‏
وهذا قول جمهور العلماء في البسملة أنها آية من القرآن مفردة وليست من السورة، وأنه يقرأ بها في الصلاة سرًا، فلا تخرج من القرآن وتهجر، ولا تشبه بالقرآن المقصود فتجهر، وهي تشبه الاستعاذة من بعض الوجوه، لكن الاستعاذة ليست بقرآن، ولم تكتب في المصاحف وإنما فيه الأمر بالاستعاذة، وهذا قرآن‏.‏ والفاتحة سبع آيات بالاتفاق‏.‏ وقد ثبت ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏87‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏فاتحة الكتاب هي السبع المثاني‏)‏ ‏.‏
وقد كان كثير من السلف يقول‏:‏ البسملة آية منها، ويقرؤها، وكثير من السلف لا يجعلها منها، ويجعل الآية السابعة ‏{‏أَنعَمتَ عَلَيهِمْ‏}‏ كما دل على ذلك حديث أبي هريرة الصحيح، وكلا القولين حق، فهي منها من وجه، وليست منها من وجه، والفاتحة سبع آيات‏.‏ من وجه تكون البسملة منها، فتكون آية‏.‏ ومن وجه لا تكون منها فالآية السابعة ‏{‏أَنعَمتَ عَلَيهِمْ‏}‏؛ لأن البسملة أنزلت تبعًا للسور‏.‏
/والمقصود أن يبتدأ القرآن بذكر اسم الله ، فهي أنزلت في أول السورة تبعًا لم تنزل في أواخر السور، وكتبت في المصاحف مفردة لكن تبعًا لما بعدها، لا لما قبلها‏.‏ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد أنزلت على آنفًا سورة‏)‏ وقرأ ‏:‏‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏.‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏.‏ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ‏.‏‏}‏ ‏[‏ سورة الكوثر ‏]‏‏.‏
وفي السنن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم فصل السورة حتى ينزل عليه ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ فمن جهة كونها تابعة للسورة تجعل منها، ومن جهة كون المقصود أن يقرأ بسم الله كما يفعل سائر الأفعال بسم الله‏.‏ والقرآن المقصود غيرها لم تكن آية من السورة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأعلم سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ‏}‏‏)‏ ‏.‏
والقراء منهم من يفصل بها بين السورتين، ومنهم من لا يفصل؛ لكون القرآن كله كلام الله ، فلا يفصلون بها بين السورتين، كمن سمي إذا أكل، ثم أكل أنواعًا من الطعام‏.‏ ومنهم من يسمي في أول كل سورة، وهذا أحسن لمتابعته لخط المصحف، وهو بمنزلة رفع طعام، ووضع طعام‏.‏ فالتسمية عنده أفضل‏.‏
/وكذلك من ذبح شاة بعد شاة فالتسمية على كل شاة أفضل‏.‏ وأما تلاوتها في أول الفاتحة فهو ابتداء بها للقرآن، ولهذا اختلف كلام أحمد، هل قراءتها في أول الفاتحة واجبة فرض لا تصح الصلاة إلا به‏؟‏ على روايتين‏.‏ وذكر عنه روايتان في الاستعاذة والاستفتاح، فالبسملة أولي بالوجوب، ثم وجوبها قد يبتني على أنها من الفاتحة، وقد يقال بوجوبها وإن لم تكن من الفاتحة، كما يوجب الاستعاذة والاستفتاح؛ ولهذا لا يجعل الجهر بها تبعًا لوجوبها، بل يوجبها ويستحب المخافتة بها، ولو كانت من الفاتحة من كل وجه، لكان الجهر ببعض الفاتحة دون بعض بعيدًا عن الأصول، فإذا جعلت منها من وجه دون وجه، اتفقت الأدلة والأصول، وأعطي كل شيء من ذلك صفة، ولم يقل‏:‏ إنها من القرآن في أول الفاتحة، ولو كقول من لم يجعلها من القرآن في حال إلا في سورة النمل‏.‏
وقد قال طائفة‏:‏ إنها من القرآن في قراءة دون قراءة، لتواتر هذه القراءات، فيقال‏:‏ المتواتر هو الأمر الوجودي، وهو ما سمعوه من القرآن من الصحابة، وبلغوه عن الرسول، والقرآن في زمانه لم يكتب، ولا كان ترتيب السور على هذا الوجه أمرًا واجبًا، مأمورًا به من عند الله ، بل الأمر مفوض في ذلك إلى اختيار المسلمين؛ ولهذا كان لجماعة من الصحابة لكل منهم اصطلاح في ترتيب سوره غير/ اصطلاح الآخر‏.‏ وحينئذ، فيكون الذين لا يقرؤونها، قد أقرأهم الرسول ولم يبسمل، وأولئك أقرأهم وبسمل‏.‏ فهذا يدل على جواز الأمرين، وإن كان أحدهما أفضل لا يدل على أنها في أحد الحرفين ليست من القرآن، وأنه نهي عن قراءتها، فإن هذا جمع بين النقيضين، كيف يسوغ قراءتها والنهي عن قراءتها‏؟‏ بل هذا يدل على جواز الأمرين كالحروف التي ثبتت في قراءة دون قراءة مثل ‏(‏من تحتها‏)‏ ، ومثل ‏(‏إن الله هو الغني‏)‏ فالرسول يجوز إثبات ذلك، ويجوز حذفه، كلاهما جائز في شرعه‏.‏
وبهذا يتبين أن من قال من الفقهاء‏:‏ إنها واجبة على قراءة من أثبتها أو مكروهة على قراءة من لم يثبتها فقد غلط، بل القرآن يدل على جواز الأمرين‏.‏ ومن قرأ بإحدي القراءات لا يقال‏:‏ إنه كلما قرأ يجب أن يقرأ بها، ومن ترك ما قرأ به غيره لا يقول‏:‏ إن قراءة أولئك مكروهة، بل كل ذلك جائز بالاتفاق‏.‏ وإن رجح كل قوم شيئًا، وبهذا يتبين أن من أنكر كونها من القرآن بالكلية إلا في سورة النمل، وقطع بخطأ من أثبتها بناء على أن القرآنية لا تثبت إلا بالقطع، فهو مخطئ في ذلك، ويقال له‏:‏ ولا تنفي إلا بالقطع ـ أيضا‏.‏
ثم يقال له‏:‏ من أثبتها يقطع بأنها ثابتة، ويقطع بخطأ من نفاها، بل التحقيق أن كون الشيء قطعيًا أو غير قطعي، أمر إضافي، والقراءات/ تدل على جواز الأمرين، ولكن القراءة بها أفضل‏.‏ وهذا قول جمهور العلماء يجوزون هذا، ويرجحون قراءتها، ويخفونها عن غيرها من القرآن؛ لأنها تابعة لغيرها‏.‏ و الله أعلم‏.‏ والحمد للَّه رب العالمين‏.‏ وصلي الله على سيدنا محمد‏.‏ وآله وصحبه وسلم‏.‏ وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏