فأفضل أنواع الاستفتاح ما كان ثناء محضا
 
فَصْـــل
إذا تبين هذا الأصل‏:‏ فأفضل أنواع الاستفتاح ما كان ثناء محضا، مثل‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏الله أكبر كبيرًا، والحمد للَّه كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا‏)‏ ولكن ذاك فيه من الثناء ما ليس في هذا، فإنه تضمن ذكر ‏[‏الباقيات الصالحات‏]‏ التي هي أفضل الكلام بعد القرآن، وتضمن قوله‏:‏ ‏(‏تبارك اسمك، وتعالى جدك‏)‏‏.‏ وهما من القرآن أيضًا‏.‏ ولهذا كان أكثر السلف يستفتحون به وكان عمر بن الخطاب يجهر به يعلمه الناس‏.‏
/وبعده النوع الثاني‏:‏ وهو الخبر عن عبادة العبد‏.‏ كقوله‏:‏ ‏(‏وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، إلخ‏.‏ ‏)‏ وهو يتضمن الدعاء، وإن استفتح العبد بهذا بعد ذلك، فقد جمع بين الأنواع الثلاثة وهو أفضل الاستفتاحات‏.‏ كما جاء ذلك في حديث مصرحًا به، وهو اختيار أبي يوسف، وابن هبيرة -الوزير- من أصحاب أحمد، صاحب ‏[‏الإفصاح‏]‏، وهكذا أستفتح أنا‏.‏
وبعده النوع الثالث كقوله‏:‏ ‏(‏اللهم باعد بيني وبين خطاياي‏.‏ كما باعدت بين المشرق والمغرب‏.‏‏.‏ ‏.‏ إلخ‏)‏، وهكذا ذكر الركوع والسجود، والتسبيح فيهما، أفضل من قوله‏:‏ ‏(‏لك ركعت، ولك سجدت‏)‏‏.‏ وهذا أفضل من الدعاء‏.‏ والترتيب هنا متفق عليه -فيما أعلم- فإني لم أعلم أحدًا قال‏:‏ إن الدعاء فيهما أفضل من التسبيح، كما قيل مثل ذلك في الاستفتاح‏.‏
فإن قلت‏:‏ هذا الترتيب عكس الأسانيد، فإنه ليس في الصحيحين حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح الفريضة إلا هذا الدعاء ‏(‏اللهم باعد بيني وبين خطاياي‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وجهت وجهي‏)‏ في صحيح مسلم‏.‏ وحديث ‏(‏سبحانك اللهم‏)‏ في السنن‏.‏ وقد تكلم فيه، وقد روي أن هذا كان في قيام الليل‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏وجهت وجهي‏)‏‏.‏
/قلت‏:‏ كون هذا مما بلغنا من طريق أصح من هذا، فهذا ليس في صفة الذكر نفسه فضيلة توجب فضله على الآخر، لكنه طريق لعلمنا به، والفضيلة كانت ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمنه قبل أن يبلغنا الأمر‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يجهر بسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، يعلمه الناس، فلولا أن هذا من السنن المشروعة، لم يفعل هذا عمر، ويقره المسلمون عليه‏.‏
وحديث أبي هريرة دليل على أن الاستفتاح لا يختص بسبحانك اللهم، ووجهت وجهي وغيرهما، بل يستفتح بكل ما روي، لكن فضل بعض الأنواع على بعض، يكون بدليل آخر، كما قدمنا‏.‏
وأيضًا، فإن قوله‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم‏.‏‏.‏ ‏.‏ إلخ‏)‏ يتضمن الباقيات الصالحات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن، كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن‏:‏ سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏)‏‏.‏
وأيضًا، ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل‏:‏ / أي الكلام أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما اصطفى الله لملائكته‏:‏ سبحان الله وبحمده‏)‏ فهذه الكلمة هي أول ما في الاستفتاح، وهي أفضل الكلام‏.‏
وأيضا، فاللَّه قد أمر بالتسبيح بحمده، وعبر بذلك عن الصلاة‏.‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏، فكان ابتداء الامتثال بهذا الذكر أولي‏.‏ وقد قال طائفة من المفسرين كالضحاك في تفسير هذه الآية‏:‏ هو قول المصلي‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وقد بسطت الكلام على معني هذه الكلمة في غير هذا الموضع، وبينت أنها تشتمل على التنزيه والتحميد والتعظيم بصفات البقاء والإثبات‏:‏ وأفعاله كلها ـ سبحانه وبحمده‏.‏
فَصْـل
التكبير مشروع في الأماكن العالية، وحال ارتفاع العبد، وحيث يقصد الإعلان، كالتكبير في الأذان، والتكبير في الأعياد، والتكبير إذا علا شرفا، والتكبير إذا رقي الصفا والمروة، والتكبير إذا ركب الدابة، والتسبيح في الأماكن المنخفضة، وحيث ما نزل العبد، كما في السنن عن جابر قال‏:‏ ‏(‏كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك‏)‏‏.‏
/والحمد مفتاح كل أمر ذي بال من مناجات الرب، ومخاطبة العباد بعضهم بعضًا‏.‏ والشهادة مقرونة بالحمد وبالتكبير، فهي في الأذان، وفي الخطب خاتمة الثناء، فتذكر بعد التكبير‏.‏ ثم يخاطب الناس بقول المؤذن‏:‏ حي على الصلاة، حي على الفلاح‏.‏ وتذكر في الخطب، ثم يخاطب الناس بقول‏:‏ أما بعد‏.‏ وتذكر في التشهد، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه، فالحمد والتوحيد مقدم في خطاب الخلق للخالق، والحمد له الابتداء‏.‏
فإن الله لما خلق آدم ـ عليه السلام ـ أول ما أنطقه بالحمد، فإنه عطس، وقال‏:‏ الحمد للَّه رب العالمين، فقال الله‏:‏ يرحمك ربك، وكان أول ما نطق به الحمد‏.‏ وأول ما سمع من الله الرحـمة، وبه افتتح الله أم الـقرآن، والتشهد هو الخاتمة‏.‏ فأول الفاتحـة ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ‏}‏ وآخـر ما للرب ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏‏.‏
وكذلك التشهد‏.‏ والخطب فيها التشهد بعد الفاتحة‏.‏ فإن يتضمن إلهية الرب، وهو أن يكون الرب هو المعبود، هذا هو الغاية التي ينتهي إليها أعمال العباد، و‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏، لكن قدم الحمد؛ لأن الحمد يكون من الله، ويكون من الخلق‏.‏ وهو باق في الجنة‏:‏ فـ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏10‏]‏ بخلاف العبادة‏.‏ فإن العبادة إنما تكون في الدنيا بالسجود ونحوه، وتوحيده وذكره باق في الجنة يلهمه أهل الجنة، كما يلهمهم النفس‏.‏
/وهذه الأذكار هي من جنس الأقوال ليست من العبادات العملية كالسجود والقيام والإحرام، والرب تعالى يحمد نفسه، ولا يعبد نفسه فالحمد أوسع العلوم الإلهية، والحمد يفتح به، ويختم به‏.‏ فالسنة لمن أكل وشرب أن يحمد الله‏.‏ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها‏)‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏75‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏45‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏10‏]‏‏.‏