فأما صفة الصلاة ومن شعائرها مسألة البسملة
 
فَصْــل
فأما صفة الصلاة ومن شعائرها مسألة البسملة، فإن الناس اضطربوا فيها نفيًا وإثباتًا، في كونها آية من القرآن، وفي قراءتها، وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع جهل وظلم، مع أن الخطب فيها يسير‏.‏
وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها، فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنها‏.‏ إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفترقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدًا، لولا ما يدعو /إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة‏.‏
فأما كونها آية من القرآن، فقالت طائفة كمالك‏:‏ ليست من القرآن، إلا في سورة النمل‏.‏ والتزموا أن الصحابة أودعوا المصحف ما ليس من كلام الله على سبيل التبرك، وحكي طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه، وربما اعتقد بعضهم أنه مذهبه‏.‏
وقالت طائفة منهم الشافعي‏:‏ ما كتبوها في المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف، عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة، مع أدلة أخري‏.‏
وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة فقالوا‏:‏ كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن، للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن، لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة، بل تكون آية مفردة أنزلت في أول كل سورة، كما كتبها الصحابة سطرًا مفصولًا، كما قال ابن عباس‏:‏ كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ‏}‏‏.‏ فعند هؤلاء هي آية من كتاب الله في أول كل سورة، كتبت فيه‏.‏ وليست من السور‏.‏ وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع‏.‏ ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك، وهو قول عبد الله بن المبارك، وغيره‏.‏ وهو أوسط الأقوال وأعدلها‏.‏
/وكذلك الأمر في تلاوتها في الصلاة‏.‏ طائفة لا تقرؤها لا سرًا ولا جهرًا‏.‏ كمالك والأوزاعي‏.‏
وطائفة تقرؤها جهرًا، كأصحاب ابن جريج والشافعي‏.‏
والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث، مع فقهاء أهل الرأي يقرؤونها سرًا، كما نقل عن جماهير الصحابة، مع أن أحمد يستعمل ما روي عن الصحابة في هذا الباب، فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة، حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها، فقال بعض أصحابه؛ لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها‏.‏
ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متمًا‏.‏ وقال‏:‏ الخلاف شر‏.‏
وهذا، وإن كان وجهًا حسنًا، فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرؤونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة، وقال‏:‏ لتعلموا أنها سنة، وكما جهر عمر/ بالاستفتاح غير مرة، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالآية أحيانًا، في صلاة الظهر والعصر‏.‏
ولهذا نقل عن أكثر من روي عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة، فكأنهم جهروا لإظاهر أنهم يقرؤونها، كما جهر بعضهم بالاستعاذة ـ أيضًا‏.‏ والاعتدال في كل شيء، استعمال الآثار على وجهها، فإن كون النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها دائمًا ـ وأكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك، ولم يفعلوه ـ ممتنع قطعًا‏.‏ وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعارض ذلك خبر ثابت إلا وهو محتمل، وكون الجهر بها لا يشرع بحال ـ مع أنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة ـ نسبة للصحابة إلى فعل المكروه، وإقراره، مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض، كما تقدم‏.‏
وكراهة قراءتها مع ما في قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الصحابة كتبتها في المصحف وأنها كانت تنزل مع السورة، فيه ما فيه، مع أنها إذا قرئت في أول كتاب سليمان، فقراءتها في أول كتاب الله في غاية المناسبة، فمتابعة الآثار فيها الاعتدال والائتلاف، والتوسط الذي هو أفضل الأمور‏.‏
ثم مقدار الصلاة يختار فيها فقهاء الحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم/ التي كان يفعلها غالبًا، وهي الصلاة المعتدلة المتقاربة، التي يخفف فيها القيام والقعود، ويطيل فيها الركوع والسجود، ويسوي بين الركوع والسجود، وبيَّن الاعتدال منهما‏.‏ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع كون القراءة في الفجر بما بين الستين إلى المائة، وفي الظهر نحو الثلاثين آية، وفي العصر والعشاء على النصف من ذلك، مع أنه قد يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف، لما أعلم من وجد أمه به‏)‏‏.‏
كما أنه قد يطيلها على ذلك لعارض كما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بطولي الطوليين، وهي الأعراف‏.‏ ويستحب إطالة الركعة الأولي من كل صلاة على الثانية، ويستحب أن يمد في الأوليين، ويحذف في الأخريين، كما رواه سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وعامة فقهاء الحديث على هذا‏.‏
ومن الفقهاء من لا يستحب أن يمد الاعتدال عن الركوع والسجود، ومنهم من يراه ركنا خفيفًا، بناءً على أنه يشرع تابعًا لأجل الفصل، لا أنه مقصود‏.‏ ومنهم من يسوي بين الركعتين الأوليين، ومنهم من يستحب ألا يزيد الإمام في تسبيح الركوع والسجود على ثلاث‏.‏ إلى أقوال أخر قالوها‏.‏