وَسُئِلَ‏:‏ عن هذا الذى يفعله الناس بعد كل صلاة من الدعاء‏:‏ هل هو مكروه‏؟‏
 
وَسُئِلَ‏:‏ عن هذا الذى يفعله الناس بعد كل صلاة من الدعاء‏:‏ هل هو مكروه‏؟‏ وهل ورد عن أحد من السلف فعل ذلك‏؟‏ ويتركون ـ أيضا ـ الذكر الذى صح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقوله، ويشتغلون بالدعاء‏؟‏ فهل الأفضل الاشتغال بالذكر الوارد عن النبى صلى الله عليه وسلم أو هذا الدعاء‏؟‏ وهل صح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه ويمسح وجهه أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للَّه رب العالمين، الذى نقل عن النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك بعد الصلاة المكتوبة، إنما هو الذكر المعروف؛ كالأذكار التى فى الصحاح، وكتب السنن والمساند، وغيرها، مثل ما فى الصحيح‏:‏ أنه كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثاً، ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام‏)‏ وفى الصحيح أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، /اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت‏.‏ ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏‏.‏
وفى الصحيح أنه كان يهلل هؤلاء الكلمات فى دبر المكتوبة‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير‏.‏ لا حول ولا قوة إلا باللَّه لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون‏)‏‏.‏
وفى الصحيح أن رفع الصوت بالتكبير عقيب انصراف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏ وفى الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏من سبح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر‏)‏ وفى الصحيح ـ أيضا ـ أنه يقول‏:‏ ‏(‏سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثاً وثلاثين‏)‏، وفى السنن أنواع أخر‏.‏
والمأثور ستة أنواع‏:‏
/أحدها‏:‏ أنه يقول‏:‏ هذه الكلمات عشراً عشراً‏:‏ فالمجموع ثلاثون‏.‏
والثانى‏:‏ أن يقول كل واحدة إحدى عشر، فالمجموع ثلاث وثلاثون ‏.‏
والثالث‏:‏ أن يقول كل واحدة ثلاثاً وثلاثين، فالمجموع تسع وتسعون ‏.‏
والرابع‏:‏ أن يختم ذلك بالتوحيد التام، فالمجموع مائة ‏.‏
والسادس ‏:‏ أن يقول كل واحد من الكلمات الأربع خمساً وعشرين،فالمجموعة مائة‏.‏
وأما قراءة آية الكرسى، فقد رويت بإسناد لا يمكن أن يثبت به سنة ‏.‏
وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة، فلم ينقل هذا أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل عنه أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة‏:‏ ‏(‏اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏)‏ ونحو ذلك‏.‏ ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة‏.‏ كما يراد بدبر الشئ مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها، كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَدْبَارَ السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏40‏]‏، وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث/ يفسر بعضاً لمن تتبع ذلك وتدبره‏.‏ وبالجملة، فهنا شيئان‏:‏
أحدهما‏:‏ دعاء المصلى المنفرد، كدعاء المصلى صلاة الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلى وحده، إماما كان أو مأموماً‏.‏
والثانى‏:‏ دعاء الإمام والمأمومين جميعاً، فهذا الثانى لا ريب أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يفعله فى أعقاب المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك؛ ولهذا كان العلماء المتأخرون فى هذا الدعاء على أقوال‏:‏
منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبى حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم، ولم يكن معهم فى ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما‏.‏
ومنهم من استحبه أدبار الصلوات كلها، وقال‏:‏ لا يجهر به، إلا إذا قصد التعليم‏.‏ كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعى، وغيرهم، وليس معهم فى ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعاً، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة‏.‏ وهذا الذى ذكروه قد اعتبره الشـارع فى صلب الصلاة، فالدعاء فى آخرهـا قبل الخروج، مشروع مسنون/ بالسنة المتواترة،وباتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء فى آخرها واجب،وأوجبوا الدعاء الذى أمر به النبى صلى الله عليه وسلم آخر الصلاة بقوله‏:‏ ‏(‏إذا تشهد أحدكم فليستعذ باللَّه من أربع‏:‏ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏ رواه مسلم‏.‏ وغيره، وكان طاووس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة، وهو قول بعض أصحاب أحمد، وكذلك فى حديث ابن مسعود‏:‏ ‏(‏ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه‏)‏‏.‏ وفى حديث عائشة وغيرها، أنه كان يدعو فى هذا الموطن، والأحاديث بذلك كثيرة‏.‏
والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة‏.‏ فإن المصلى يناجى ربه، فما دام فى الصلاة لم ينصرف، فإنه يناجى ربه، فالدعاء حينئذ مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله، لم يكن موطن مناجاة له، ودعاء‏.‏ وإنما هو موطن ذكر له، وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه فى الصلاة‏.‏ أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى‏.‏
وكما أن من العلماء من استحب عقب الصلاة من الدعاء ما لم ترد به السنة، فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة، ولا يستعملون الذكر المأثور، بل قد يكرهون ذلك، وينهون/ عنه، فهؤلاء مفرطون بالنهى عن المشروع، وأولئك مجاوزون الأمر بغير المشروع، والدين إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع‏.‏
وأما رفع النبى صلى الله عليه وسلم يديه فى الدعاء، فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث، أو حديثان، لا يقوم بهما حجة‏.‏ والله أعلم‏.