فى بيان ما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها‏
 
/باب ما يكره فى الصلاة
وَقَال شيخ الإسلام ـرحمه الله‏:‏
فَصْـــل
فى بيان ما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها‏:‏
قال الله تعالى ـ فى غير موضع من كتابه ـ‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ‏}‏‏[‏المعارج‏:‏ 19 - 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏1 - 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏103‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏238‏]‏‏.‏ وسيأتى بيان الدلالة فى هذه الآيات‏.‏
وقد أخرج البخارى ومسلم فى الصحيحين وأخرج أصحاب السنن ـ أبو داود والترمذى، والنسائى، وابن ماجه ـ وأصحاب المسانيد‏:‏ كمسند أحمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل، ثم جاء فسلم على النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه السلام‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ارجع فصل، فإنك لم تصل‏)‏‏.‏ فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم سلم عليه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وعليك السلام‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏ارجع فصل، فإنك لم تصل‏)‏، حتى فعل ذلك ثلاث مرات‏.‏ فقال الرجل‏:‏ والذى بعثك بالحق ما أحسن غير هذا، فعلمنى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها‏)‏‏.‏ وفى رواية للبخارى‏:‏ ‏(‏إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً،/ثم ارفع حتى تستوى وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوى قائما، ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها‏)‏‏.‏
وفى رواية له‏:‏ ‏(‏ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوى قائماً‏)‏ وباقيه مثله‏.‏ وفى رواية‏:‏ ‏(‏وإذا فعلت هذا، فقد تمت صلاتك‏.‏ وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك‏)‏‏.‏
وعن رفاعة بن رافع ـ رضى الله عنه ـ‏:‏ أن رجلا دخل المسجد‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر الحديث وقال فيه‏:‏ فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله ـ عز وجل ـ ويثنى عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول‏:‏ الله أكبر، ثم يركع حتى يطمئن راكعاً، ثم يقول‏:‏ الله أكبر، ثم يرفع رأسه حتى يستوى قائما، ثم يسجد حتى يطمئن ساجداً، ثم يقول‏:‏ الله أكبر، ثم يرفع رأسه حتى يستوى قاعداً ثم يقول‏:‏ الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيَكبر‏.‏ فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته‏)‏ وفى رواية‏:‏ ‏(‏إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمر الله ـ عز وجل ـ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين‏.‏ ثم يكبر الله ويحمده، ثم يقرأ مـن القــرآن ما أذن له وتيسر ـ وذكر نحو اللفظ الأول، وقال ـ‏:‏ ثم يكبر، فيسجد، فيمكن وجهه ـ وربما قال‏:‏ جبهته ـ من الأرض، حتى تطمئن مفاصله وتسترخى،/ثم يكبر فيستوى قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه ـ فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ، ثم قال ـ‏:‏ لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك‏)‏ رواه أهل السنن‏:‏ أبو داود والنسائى وابن ماجه والترمذى‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏ والروايتان لفظ أبى داود‏.‏
وفى رواية ثالثة له‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ‏.‏ فإذا ركعت، فضع راحتك على ركبتيك وامدد ظهرك‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى‏)‏ ، وفى رواية أخرى قال‏:‏ ‏(‏إذا أنت قمت فى صلاتك فكبر الله ـ عز وجل ـ ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن‏)‏ وقال فيه‏:‏ ‏(‏فإذا جلست فى وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد، ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك‏)‏ وفى رواية أخرى قال‏:‏ ‏(‏فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد فأتم، ثم كبر‏.‏ فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله ـ عز وجل ـ وكبره وهلله‏)‏‏.‏ وقال فيه‏:‏ ‏(‏وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك‏)‏‏.‏
فالنبى صلى الله عليه وسلم أمر ذلك المسىء فى صلاته بأن يعيد الصلاة‏.‏ وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب، وأمره/ إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع والسجود‏.‏ وأمره المطلق على الإيجاب‏.‏
وأيضاً، قال له‏:‏ ‏(‏فإنك لم تصل‏)‏ فنفى أن يكون عمله الأول صلاة، والعمل لا يكون منفياً إلا إذا انتفى شىء من واجباته‏.‏ فأما إذا فعل كما أوجبه الله ـ عز وجل ـ فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شىء من المستحبات التى ليست بواجبة‏.‏
وأما ما يقوله بعض الناس‏:‏ إن هذا نفى للكمال، كقوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد‏)‏، فيقال له‏:‏ نعم هو لنفى الكمال، لكن لنفى كمال الواجبات أو لنفى كمال المستحبات‏؟‏ فأما الأول فحق‏.‏ وأما الثانى، فباطل، لا يوجد مثل ذلك فى كلام الله ـ عز وجل ـ ولا فى كلام رسوله قط، وليس بحق‏.‏ فإن الشىء إذا كملت واجباته، فكيف يصح نفيه‏؟‏‏!‏
وأيضاً، فلو جاز لجاز نفى صلاة عامة الأولين والآخرين؛ لأن كمال المستحبات من أندر الأمور‏.‏
وعلى هذا، فما جاء من نفى الأعمال فى الكتاب والسنة، فإنما هو لانتفاء بعض واجباته‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 47‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏، ونظائر ذلك كثيرة‏.‏
ومن ذلك‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا إيمان لمن لا أمانة له‏)‏، و‏(‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏)‏، و‏(‏لا صلاة إلا بوُضوء‏)‏‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد‏)‏‏:‏ فهذا اللفظ قد قيل‏:‏ إنه لا يحفظ عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذكر عبد الحق الإشْبِيلى‏:‏ أنه رواه بإسناد كلهم ثقات، وبكل حال فهو مأثور عن على ـ رضى الله عنه ـ ولكن نظيره فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له‏)‏‏.‏
ولا ريب أن هذا يقتضى أن إجابة المؤذن المنادى، والصلاة فى جماعة‏:‏ من الواجبات، كما ثبت فى الصحيح‏:‏ أن ابن أم مكتوم قال‏:‏/ يا رسول الله، إنى رجل شاسع الدار، ولى قائد لا يلائمنى‏.‏ فهل تجد لى رُخْصَة أن أصلى فى بيتى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هل تسمع النداء‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏ما أجد لك رخصة‏)‏، لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه، ويثاب على ما فعله من الصلاة، أم يقال‏:‏ إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها‏؟‏ هذا فيه نزاع بين العلماء‏.‏ وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك‏)‏‏.‏
فقد بين أن الكمال الذى نفى هو هذا التمام الذى ذكره النبى صلى الله عليه وسلم؛ فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها‏.‏ وكذلك قوله فى الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته‏)‏‏.‏
ويؤيد هذا‏:‏ أنه أمره بأن يعيد الصلاة‏.‏ ولو كان المتروك مستحباً لم يأمره بالإعادة؛ ولهذا يؤمر مثل هذا المسىء بالإعادة، كما أمـر النبى صلى الله عليه وسلم هذا، لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة، فهل يقال‏:‏ إن وجودها كعدمها، بحـيث يعاقب على تركها‏؟‏ أو يقال‏:‏ إنه يثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع‏؟‏ هذا فيه نزاع‏.‏ والثانى أظهـر؛ لما روى أبو داود وابن ماجه عن أنس بن حكيم الضَّبِّىّ قال‏:‏ خاف/ رجل من زياد ـ أو ابن زياد ـ فأتى المدينة، فلقى أبا هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ فنسبنى، فانتسبت له، فقال‏:‏ يا فتى، ألا أحدثك حديثاً‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ بلى يرحمك الله ـ قال يونس‏:‏ فأحسبه ذكره عن النبى صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏يقول ربنا عز وجل لملائكته، وهو أعلم‏:‏ انظروا فى صلاة عبدى، أتمها أم نقصها‏؟‏ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال‏:‏ انظروا، هل لعبدى من تطوع‏؟‏ فإن كان له تطوع قال‏:‏ أتموها من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم‏)‏‏.‏ وفى لفظ عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله‏:‏ صلاته، فإن صَلُحَتْ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر‏.‏ فإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب‏:‏ انظروا، هل لعبدى من تطوع‏؟‏ فكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر أعماله على هذا‏)‏ رواه الترمذى وقال‏:‏ ‏(‏حديث حسن‏)‏‏.‏
وروى ـ أيضا ـ أبو داود وابن ماجه عن تميم الدَّارِىّ ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى قال‏:‏ ‏(‏ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك‏)‏‏.‏
وأيضاً، فعن أبى مسعود البدرى ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ قــال رســول الله /صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود‏)‏ رواه أهل الســنن الأربعة، وقال الترمذى‏:‏ ‏[‏حديث حسن صحيح‏]‏‏.‏ فهذا صريح فى أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود‏.‏ فهذا يدل على إيجاب الاعتدال فى الركوع والسجود‏.‏
وهذه المسألة ـ وإن لم تكن هى مسألة الطمأنينة ـ فهى تناسبها وتلازمها؛ وذلك أن هذا الحديث نص صريح فى وجوب الاعتدال‏.‏ فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع والسجود، فالطمأنينة فيهما أوجب‏.‏
وذلك أن قوله‏:‏ ‏(‏يقيم ظهره فى الركوع والسجود‏)‏ أى‏:‏ عند رفعه رأسه منهما‏.‏ فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود؛ لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحنى إلى أن يعود فيعتدل، ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل‏.‏ فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما؛ فلهذا قال‏:‏ ‏(‏يقيم صلبه فى الركوع والسجود‏)‏‏.‏
ويبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود، وهذا كقوله فى الحديث المتقدم‏:‏ ‏(‏ثم يكبر فيسجد، /فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخى، ثم يكبر فيستوى قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه‏)‏‏.‏ فأخبر أن إقامة الصلب فى الرفع من السجود لا فى حال الخفض‏.‏
والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة؛ لكن قال فى الركوع والسجود والقعود‏:‏ ‏(‏حتى تطمئن راكعاً، وحتى تطمئن ساجداً، وحتى تطمئن جالساً‏)‏‏.‏ وقال فى الرفع من الركوع‏:‏ ‏(‏حتى تعتدل قائماً، وحتى تستوى قائماً‏)‏؛ لأن القائم يعتدل ويستوى، وذلك مستلزم للطمأنينة‏.‏
وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين‏.‏ وذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال والاستواء؛ فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ـ ولا سيما عند التورك ـ وإما إلى أمامه؛ لأن أعضاءه التى يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة، مع أنه قد روى ابن ماجه‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم قال فى الرفع من الركوع‏:‏ ‏(‏حتى تطمئن قائما‏)‏‏.‏
وعن على بن شَيْبَان الحنفى قال‏:‏ خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته ـ يعنى‏:‏ صلبه فى الركوع والسجود ـ فلما قضى النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة قال‏:‏ ‏(‏يا معشر المسلمين، لا صلاة / لمن لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود‏)‏ رواه الإمام أحمد وابن ماجه‏.‏ وفى رواية للإمام أحمد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده‏)‏‏.‏
وهذا يبين أن إقامة الصلب هى الاعتدال فى الركوع، كما بيناه، وإن كان طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة، واحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده، لا على الاعتدالين، وعلى ما ذكرناه فإنه يدل عليهما‏.‏
وروى الإمام أحمد فى المسند عن أبى قتادة ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسوأ الناس سرقة الذى يسرق من صلاته‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا يتم ركوعها ولا سجودها‏)‏ أو قال‏:‏ ‏(‏لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود‏)‏، وهذا التردد فى اللفظ ظاهره‏:‏ أن المعنى المقصود من اللفظين واحد، وإنما شك فى اللفظ‏.‏ كما فى نظائر ذلك‏.‏
وأيضا، فعن عبد الرحمن بن شِبْل ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نَقْر الغراب وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان فى المسجد، كما يوطن البعير‏.‏ أخرجه أبو داود والنسائى وابن ماجه‏.‏
/وإنما جمع بين الأفعال الثلاثة ـ وإن كانت مختلفـة الأجناس ـ لأنه يجمعها مشابهة البهائم فى الصلاة، فنهى عن مشابهة فعل الغراب، وعما يشبه فعل السبع، وعما يشبه فعل البعير، وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين، لما فيه من أحاديث أخر‏.‏ وفى الصحيحين عن قتادة عن أنس ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اعتدلوا فى الركوع والسجود، ولايبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب‏)‏، لا سيما وقد بين فى حديث آخر‏:‏ ‏(‏أنه من صلاة المنافقين‏)‏، والله ـ تعالى ـ أخبر فى كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين‏.‏
فروى مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تلك صلاة المنافق، يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قَرْنَى شيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلا‏)‏، فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة، ويضيع فعلها وينقرها، فدل ذلك على ذم هذا وهذا، وإن كان كلاهما تاركا للواجب‏.‏
وذلك حجة واضحة فى أن نقر الصلاة غير جائز، وأنه من فِعْل من فيه نفاق‏.‏ والنفاق كله حرام‏.‏ وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها، وهو مفسر لحديث قبله‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏، وهذا وعيد شديد لمن ينقر فى صلاته،/ فلا يتم ركوعه وسجوده بالاعتدال والطمأنينة‏.‏
والمثل الذى ضربه النبى صلى الله عليه وسلم من أحسن الأمثال، فإن الصلاة قُوتُ القلوب، كما أن الغذاء قوت الجسد، فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل، فالقلب لا يقتات بالنقر فى الصلاة، بل لابد من صلاة تامة تقيت القلوب‏.‏
وأما ما يرويه طوائف من العامة‏:‏ أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ رأى رجلا ينقر فى صلاته فنهاه عن ذلك‏.‏ فقال‏:‏ لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار، فسكت عنه عمر، فهذا لا أصل له، ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغنى، لا فى الصحيح ولا فى الضعيف‏.‏ والكذب ظاهر عليه؛ فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك، وهم فى الدرك الأسفل من النار‏.‏
وأيضاً، فعن أبى عبد الله الأشعرى الشامى قال‏:‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم جلس فى طائفة منهم، فدخل رجل فقام يصلى، فجعل يركع وينقر فى سجوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ترون هذا‏؟‏ لو مات مات على غير ملة محمد، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرِّمَّة‏.‏ إنما مثل الذى يصلى ولا يتم ركوعه وينقر فى سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين،/ لا تغنيان عنه شيئاً، فأسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار، وأتموا الركوع والسجود‏)‏‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ فقلت لأبى عبد الله الأشعرى‏:‏ من حدثك بهذا الحديث‏؟‏ قال‏:‏ أمراء الأجناد‏:‏ خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشُرَحْبِيل بن حسنة ويزيد بن أبى سفيان‏.‏ كل هؤلاء يقولون‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ رواه أبو بكر بن خزيمة فى صحيحه بكماله، وروى ابن ماجه بعضه‏.‏
وأيضا، ففى صحيح البخارى عن أبى وائل، عن زيد بن وهب، أن حذيفة بن اليمان ـ رضى الله عنه ـ رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده‏.‏ فلما قضى صلاته دعاه، وقال له حذيفة‏:‏ ما صليت، ولو مِتَّ مِتَّ على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولفظ أبى وائل‏:‏ ما صليت‏.‏ وأحسبه قال‏:‏ لو/ مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
وهذا الذى لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة، أو ترك الاعتدال، أو ترك كليهما، فإنه لابد أن يكون قد ترك بعض ذلك، إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف، والهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإتيان بما قد يقال‏:‏ إنه ركوع أو سجود‏.‏ وهذا الرجل كان يأتى بما قد يقال له‏:‏ ركوع وسجود، لكنه لم يتمه‏.‏ ومع هذا قال له حذيفة‏:‏ ‏(‏ما صليت‏)‏ فنفى عنه الصلاة، ثم قال‏:‏ ‏(‏لو/ مت مت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم‏)‏ و‏(‏على غير السنة‏)‏ وكلاهما المراد به هنا‏:‏ الدين والشريعة، ليس المراد به فعل المستحبات؛ فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد‏.‏ فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم من المستحبات‏.‏ ولأن لفظ ‏[‏الفطرة والسنة‏]‏ فى كلامهم هو الدين والشريعة‏.‏ وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ ‏[‏السنة‏]‏ يراد به ما ليس بفرض، إذ قد يراد بها ذلك، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه‏)‏‏.‏ فهى تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات‏.‏ كما فى الصحيح عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ إن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإن هذه الصلوات فى جماعة من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم فى بيوتكم، كما يصلى هذا المتخلف فى بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ‏)‏‏.‏
ولأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر فى كتابه بإقامة الصلاة،وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها، فقال تعالى فى غير موضع‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏}‏ وإقامتها‏:‏ تتضمن إتمامها بحسب الإمكان، كما سيأتى فى حديث أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏أقيموا الركوع والسجود، فإنى أراكم من بعد ظهرى‏)‏، وفى رواية‏:‏ ‏(‏أتموا الركوع والسجود‏)‏ وسيأتى تقرير دلالة ذلك‏.‏
والدليل على ذلك من القرآن‏:‏ أنه ـ سبحانه وتعالى ـ قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، فأباح الله القصر من عددها، والقصر من صفتها؛ ولهذا علقه بشرطين السفر والخوف‏.‏ فالسفر‏:‏ يبيح قصر العدد فقط، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة‏)‏؛ ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه، التى اتفقت الأمة على نقلها عنه‏:‏ أنه كان يصلى الرباعية فى السفر ركعتين‏.‏ ولم يصلها فى السفر أربعاً قط، ولا أبو بكر ولا عمر ـ رضى الله عنهما ـ لا فى الحج ولا فى العمرة، ولا فى الجهاد‏.‏ والخوف يبيح قصر صفتها، كما قال الله فى تمام الكلام‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، فذكر صلاة الخوف وهى صلاة ذات الرقاع، إذ كان العدو فى جهة القبلة‏.‏وكان فيها‏:‏/أنهم كانوا يصلون خلفه، فإذا قام إلى الثانية فارقوه وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ‏}‏، فجعل السجود لهم خاصة، فعلم أنهم يفعلونه منفردين، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ‏}‏، فعلم أنهم يفعلونه‏.‏
وفى هذه الصلاة تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام، وقيام الآخرين قبل سلام الإمام، ويتمون لأنفسهم ركعة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة‏.‏ وذلك يتضمن الإتمام وترك القصر منها الذى أباحه الخوف والسفر‏.‏ فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان‏.‏
وأما قوله فى صلاة الخوف‏:‏ ‏{‏فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ‏}‏ فتلك إقامة وإتمام فى حال الخوف‏.‏ كما أن الركعتين فى السفر إقامة وإتمام، كما ثبت فى الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا يبين ما رواه مسلم وأهل السنن عن يَعْلىَ بن أمية قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ‏:‏ إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله ـ عز وجل ـ‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ وقد ذهب ذلك اليوم‏؟‏ فقال‏:‏ عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته‏)‏‏.‏ فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقاً مشروط بعدم الأمن، فبينت السنة أن القصر نوعان، كل نوع له شرط‏.‏
وثبتت السنة أن الصلاة مشروعة فى السفر تامة؛ لأنه بذلك أمر الناس، ليست مقصورة فى الأجر والثواب، وإن كانت مقصورة فى الصفة والعمل، إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة، ويؤمر بالاقتصار تارة‏.‏
وأيضاً، فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، والموقوت‏:‏ قد فسره السلف بالمفروض وفسروه بما له وقت‏.‏ والمفروض‏:‏ هو المقدر المحدد، فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة‏.‏ وذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقـوتة‏.‏ وذلك فى زمانها، وأفعالها، وكما أن زمانها محـدود، فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة‏.‏ وهو يتناول تقدير عـددها؛ بأن جعله خمساً، وجعل بعضها أربعا فى الحضر واثنتين فى السفر، وبعضها ثــلاثاً،وبعضها اثنتين فى الحضر والسفر‏.‏وتقدير عملها أيضاً‏.‏ ولهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم والتأخير فى الزمان،كما يجوز ـ أيضا ـ القصر من عددها/ ومـن صفتها، بحسب ما جاءت به الشريعة‏.‏ وذلك ـ أيضا ـ مقدر عند العذر، كما هو مقدر عند غير العذر؛ ولهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، أو صلاة الليل إلى النهار، وصلاتى النهار‏:‏ الظهر والعصر، وصلاتى الليل‏:‏ المغرب والعشاء‏.‏ وكذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها وصفتها، وهو موقوت محدود، ولابد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء‏.‏ فالقيام محدود بالانتصاب، بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع باختياره، لم يكن قد أتى بحد القيام‏.‏
ومن المعلوم أن ذكر القيام ـ الذى هو القراءة ـ أفضل من ذكر الركوع والسجود، ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام؛ ولهذا كان عبادة بنفسه‏.‏ ولم يصح فى شرعنا إلا للَّه بوجه من الوجوه، وغير ذلك من الأدلة المذكورة فى غير هذا الموضع‏.‏
وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها‏.‏ فالساجد‏:‏ عليه أن يصل إلى الأرض، وهو غاية التمكن، ليس له غاية دون ذلك إلا لعذر، وهو من حين انحنائه أخذ فى السجود، سواء سجد من قيام أو من قعود‏.‏ فينبغى أن يكون ابتداء السجود مقدراً بذلك، بحيث يسجد من قيام أو قعود، لا/ يكون سجوده من انحناء، فإن ذلك يمنع كونه مقدراً محدوداً بحسب الإمكان‏.‏ ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال فى الركوع وبين السجدتين‏.‏
وأيضاً، ففى ذلك إتمام الركوع والسجود‏.‏
وأيضاً، فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر، وذلك هو الطمأنينة‏.‏ فإن من نَقَر نَقْر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا، فإن قدر الشىء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده؛ ولهذا يقال للشىء الدائم‏:‏ ليس له قدر، فإن القدر لا يكون لأدنى حركة، بل لحركة ذات امتداد‏.‏
وأيضاً، فإن اللّه ـ عز وجل ـ أمرنا بإقامتها، والإقامة‏:‏ أن تجعل قائمة، والشىء القائم‏:‏ هو المستقيم المعتدل، فلا بد أن تكون أفعال الصلاة مستقرة معتدلة‏.‏ وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها‏.‏ وهذا يتضمن الطمأنينة، فإن من نَقَر نَقْر الغراب لم يقم السجود، ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر، وكذلك الراكع‏.‏
يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة، عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنهما ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصف من تمام الصلاة‏)‏‏.‏ وأخرجاه من حديث/عبد العزيز بن صُهَيْب عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتموا الصفوف، فإني أراكم من خلف ظهري‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏أقيموا الصفوف‏)‏‏.‏ وروى البخاري من حديث حميد عن أنس، قال‏:‏ أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري‏)‏‏.‏ وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وبدنه ببدنه‏)‏‏.‏
فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها، بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا، لم يكونوا مصطفين، ولكانوا يؤمرون بالإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد صلاته، فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها، بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود‏.‏
ويدل على ذلك ـ وهو دليل مستقل في المسألة ـ ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏أقيموا الركوع والسجود، فواللّه إني لأراكم من بعدي ـ وفي رواية‏:‏ من بعد ظهري ـ إذا ركعتم وسجدتم‏)‏‏.‏ وفي رواية للبخاري عن همام، عن قتادة، عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏أتموا الركوع/والسجود، فوالذي نفسى بيده، إني لأراكم من بعد ظهري إذا ماركعتم وإذا ما سجدتم‏)‏‏.‏ ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي، وابن أبي عَرُوبَة عن قتادة عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ أن نبي اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أتموا الركوع والسجود ـ ولفظ ابن أبي عَرُوَبة‏:‏ أقيموا الركوع والسجود، فإني أراكم ـ وذكره‏)‏‏.‏
فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامهما، كما في اللفظ الآخر‏.‏
وأيضًا، فأمره لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما؛ إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة؛ بل الأمر بالإقامة يقتضي ـ أيضًا ـ الاعتدال فيهما، وإتمام طرفيهما، وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما، وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه‏.‏ ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الانصراف قبله‏.‏
وأيضًا، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ أمر بالقنوت في القيام للّه، والقنوت‏:‏ دوام الطاعة للّه ـ عز وجل ـ سواء كان في حال الانتصاب، أو في حال السجود، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 26‏]‏‏.‏
فإذا كان ذلك كذلك، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ إما أن يكون أمرًا بإقامة الصلاة مطلقًا، كما في قوله‏:‏ ‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ فيعم أفعالها، ويقتضي الدوام في أفعالها، وإما أن يكون المراد به‏:‏ القيام المخالف للقعود، فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده، ويقتضي الطول، وهو القنوت المتضمن للدعاء، كقنوت النوازل، وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه‏.‏
وإذا ثبت وجوب هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى‏.‏
ويقوي الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال‏:‏ كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه إلى الصلاة، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏‏.‏ قال‏:‏ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام‏.‏ حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة‏.‏ ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة، فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة، ودل الأمر بالقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس؛ لأن القنوت هو دوام الطاعة، فالمشتغل بمخاطبة العباد تارك للاشتغال/ بالصلاة التي هي عبادة اللّه وطاعته، فلا يكون مداومًا على طاعته؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ولم يرد، بعد أن كان يرد‏:‏ ‏(‏إن في الصلاة لشغلا‏)‏، فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلي عن مخاطبة الناس، وهذا هو القنوت فيها، وهو دوام الطاعة، ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي بما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح؛ لأن ذلك لا يشغله عنها، ولا ينافي القنوت فيها‏.‏
وأيضًا، فإنه ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏15‏]‏ فأخبر أنه لا يكون مؤمنًا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات وسبح بحمد ربه‏.‏