فصل في سجود السهو
 
كتـــــاب الفقــه
الجزء الثالث
من سجود السهو إلى صلاة أهل الأعذار
/بسم الله الرحمن الرحيم
باب سجود السهو
قال الشيخ ـ رحمه اللّه‏:‏
الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا‏.‏
فصل
في سجود السهو
والمهم منه أمور‏:‏ منها مسائل الشك، ومنها محله، هل هو قبل السلام أو بعده، ومنها وجوبه‏.‏
فنقول ـ ولا حول ولا قوة إلا باللّه ـ‏:‏ أما الشك ففيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة، وهي كلها متفقة ـ وللّه الحمد ـ وإنما تنازع الناس لكون بعضهم لم يفهم مراده‏.‏ ففي الصحيحين عن أبي / هريرة‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أحدكم إذا قام يصلي، جاءه الشيطان فَلبَّس عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين، وهو جالس‏)‏‏.‏
وفي الصحيحين ـ أيضًا ـ عنه ؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل‏.‏ فإذا ثوب بها، أدبر‏.‏ فإذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى‏.‏ فإذا لم يدر أحدكم كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏‏.‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏(‏فإذا لم يدر أحدكم كما صلى ثلاثًا أو أربعًا، فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏يسجد سجدتي السهو‏)‏‏.‏ ففي الحديث الصحيح الأمر بسجدتي السهو إذا لم يدر كم صلى، وهو يقتضي وجوب السجود، كقول الجمهور، وفيه أنه سماهما سجدتي السهو، فدل على أنهما لا يشرعان إلا للسهو، كقول الجمهور‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏، مطلق لم يعين فيه لا قبل السلام، ولا بعده، لكن أمر بهما قبل قيامه‏.‏ ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا، أم أربعًا،/ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان‏)‏‏.‏ ففي هذا الحديث أنه إذا شك فلم يدر فليطرح الشك، وفيه الأمر بسجدتين قبل السلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إذا شك‏)‏، هو موضع اختلاف فهم الناس‏.‏
منهم من فهم أن كل من لم يقطع فهو شاك، وإن كان أحد الجانبين راجحًا عنده، فجعلوا من غلب على ظنه ـ وإن وافقه المأمومون ـ شاكًا، وأمروه أن يطرح ما شك فيه، ويبني على ما استيقن، وقالوا‏:‏ الأصل عدم ما شك فيه، فرجحوا استصحاب الحال مطلقًا، وإن قامت الشواهد والدلائل بخلافه، ولم يعتبروا التحري بحال‏.‏
ومنهم من فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏فليتحر‏)‏، أنه البناء على اليقين‏.‏ ومنهم طائفة قالوا‏:‏ إن كان إمامًا، فالمراد به الشك المتساوي، وإن كان منفردًا، فالمراد به ما قاله أولئك‏.‏
وقالت طائفة ثالثة‏:‏ بل المراد بالشك ما استوي فيه الطرفان، أو تقاربا، وأما إذا ترجح أحدهما، فإنه يعمل بالراجح، وهو التحري‏.‏ وعن الإمام أحمد ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة‏.‏
والأول‏:‏ هو قول مالك والشافعي، واختيار كثير من أصحاب أحمد‏.‏
/والثاني‏:‏ قول الخرقي وأبي محمد، وقال‏:‏ إنه المشهور عن أحمد‏.‏
والثالث‏:‏ قول كثير من السلف والخلف، ويروي عن على وابن مسعود وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه فيما إذا تكرر السهو‏.‏ قال أحمد في رواية الأثرم‏:‏ بين التحري واليقين فرق‏.‏ أما حديث عبد الرحمن بن عوف فيقول‏:‏ ‏(‏إذا لم يدر أثلاثًا صلى أو اثنتين، جعلهما اثنتين‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فهذا عمل على اليقين فبني عليه، والذي يتحري يكون قد صلى ثلاثًا، فيدخل قلبه شك أنه إنما صلى اثنتين إلا أن أكثر ما في نفسي أنه قد صلى ثلاثًا، وقد دخل قلبه شيء، فهذا يتحري أصوب ذلك، ويسجد بعد السلام، قال‏:‏ فبينهما فرق‏.‏
قلت‏:‏ حديث عبد الرحمن بن عوف الذي ذكره أحمد هو نظير حديث أبي سعيد، وهو في السنن، وقد صححهما الترمذي، وغيره‏.‏ وعن عبد الرحمن بن عوف؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين، فليجعلهما واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثًا، فليجعلهما اثنتين، فإن لم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليجعلهما ثلاثا، حتى يكون الشك في الزيادة، ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم، ثم يسلم‏)‏‏.‏
/ومن أصح أحاديث الباب حديث ابن مسعود في التحري، فإنه أخرجاه في الصحيحين،وحديث أبي سعيد انفرد به مسلم، لكن حديث عبد الرحمن بن عوف شاهـد له، فهما نظير حديث ابن مسعود في الصحيحين عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ صلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال إبراهيم‏:‏ زاد أو نقص، فلما سلم قيل له‏:‏ يا رسول اللّه، أحدث في الصلاة شيء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وما ذاك‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ صليت كذا وكذا، قال‏:‏ فثني رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال‏:‏ ‏(‏إنه لو حدث في الصلاة شيء، أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسي كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين‏)‏‏.‏
وللبخاري في بعض طرقه‏:‏ قيل يا رسول اللّه، أقصرت الصلاة أم نسيت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وما ذاك‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ صليت كذا وكذا‏.‏ قال‏:‏ فسجد بهم سجدتين، ثم قال‏:‏ ‏(‏هاتان السجدتان لمن لا يدري زاد في صلاته أو نقص فيتحري الصواب فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين‏)‏، وفي رواية له‏:‏‏(‏فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين‏)‏، وفي رواية لمسلم‏:‏‏(‏فلينظر أحري ذلك إلى الصواب‏)‏، وفي رواية له‏:‏ ‏(‏فليتحر الذي يري أنه صواب‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب‏)‏‏.‏
/وفي الصحيحين، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه قال‏:‏ صلينا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإما زاد أو نقص‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ وأيم اللّه ما ذاك إلا من قِبَلي، فقلنا‏:‏ يا رسول اللّه، أحدث في الصلاة شيء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، فقلنا له الذي صنع، فقال‏:‏ ‏(‏إذا زاد أو نقص، فليسجد سجدتين‏)‏، قال‏:‏ ثم سجد سجدتين‏.‏ وقد تأوله بعض أهل القول على أن التحري هو طرح المشكوك فيه، والبناء على اليقين، وهذا ضعيف لوجوه‏:‏
منها‏:‏ أن في سنن أبي داود والمسند وغيرهما‏:‏ ‏(‏إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث وأربع وأكثر من أربع تشهدت ثم سجدت، وأنت جالس‏)‏‏.‏
ومنها‏:‏ أن الألفاظ صريحة في أنه يتحري ما يري أنه الصواب، سواء كان هو الزائد أو الناقص، ولو كان مأمورًا مطلقًا بطرح المشكوك فيه لم يكن هناك تحري للصواب‏.‏
ومنها‏:‏ أن ابن مسعود هو راوي الحديث، وبذلك فسره، وعنه أخذ ذلك أهل الكوفة قرنًا بعد قرن، كإبراهيم وأتباعه، وعنه أخذ ذلك أبو حنيفة، وأصحابه‏.‏
ومنها‏:‏ أنه هنا أمر بالسجدتين بعد السلام‏.‏ وفي حديث أبي / سعيد أمر بالسجدتين قبل السلام
ومنها‏:‏ أنه قال هناك‏:‏ ‏(‏إن كان صلى خمسا، شفعتا له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان‏)‏‏.‏ فتبين أنه يبني على اليقين، وهو شاك هل زاد أو نقص، هل صلى أربعًا أو خمسًا، وبين مصلحة السجدتين على تقدير النقيضين‏.‏
وفي حديث ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏فيتحرى الصواب فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فيتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين‏)‏، فجعل ما فعله بعد التحري تمامًا لصلاته، وجعله هنا متمًا لصلاته، ليس شاكا فيها، لكن لفظ الشك يراد به تارة ما ليس بيقين، وإن كان هناك دلائل وشواهد عليه، حتى قد قيل في قوله‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالشك من إبراهيم‏)‏، أنه جعل ما دون طمأنينة القلب التي طلبها إبراهيم شكا، وإن كان إبراهيم موقنا ليس عنده شك يقدح في يقينه، ولهذا لما قال له ربه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَي وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏260‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏75‏]‏ ‏.‏
فإذا كان قد سمي مثل هذا شكا في قوله‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالشك من إبراهيم‏)‏، فكيف بمن لا يقين عنده‏؟‏ فمن عمل بأقوي الدليلين / فقد عمل بعلم لم يعمل بظن ولا شك، وإن كان لا يوقن أن ليس هناك دليل أقوي من الدليل الذي عمل به، واجتهاد العلماء من هذا الباب‏.‏ والحاكم إذا حكم بشهادة العدلين حكم بعلم، لا بظن وجهل‏.‏ وكذلك إذا حكم بإقرار المقر وهو شهادته على نفسه‏.‏ ومع هذا، فيجوز أن يكون الباطن بخلاف ما ظهر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏‏.‏
وإذا كان لديك معلوم أن مثل هذا الشك لم يرده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم‏)‏، بل أكثر الخلق لا يجزمون جزما يقينيا لا يحتمل الشك بعد لكل صلاة صلاها، ولكن يعتقدون عدد الصلاة اعتقادًا راجحا، وهذا ليس بشك، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم‏)‏، إنما هو حال من ليس له اعتقاد راجح، وظن غالب، فهذا إذا تحرى وارتأى وتأمل فقد يظهر له رجحان أحد الأمرين، فلا يبقي شاكا، وهو المذكور في حديث ابن مسعود، فإنه كان شاكا قبل التحري، وبعد التحري ما بقي شاكا مثل سائر مواضع التحري، كما إذا شك في القبلة فتحري حتى ترجح عنده أحد الجهات؛ فإنه لم يبق شاكا‏.‏ وكذلك العالم المجتهد، والناسي إذا ذكر، وغير ذلك‏.‏
/وقوله في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم‏)‏، خطاب لمن استمر الشك في حقه، بألا يكون قـادرًا على التحـري إذ ليس عنده أمارة ودلالة ترجح أحـد الأمرين‏.‏ أو تحري، وارتـأي، فلم يترجـح عنـده شيء، ومـن قـال‏:‏ ليس هنا دلالـة تبين أحد الأمـرين غلط، فقـد يسـتدل على ذلك بموافقـة المأمـومين،إذا كـان إمـامًا، وقد يسـتدل بمخبر يخـبره، وإن لم يكـن معـه في الصـلاة، فيحصـل له بذلك اعتقاد راجـح‏.‏ وقـد يتذكر مـا قـرأ بـه في الصـلاة فيـذكر أنه قرأ بسـورتين في ركعتين، فيعلم أنه صلى ركعتين لا ركعـة، وقـد يذكر أنه تشهد التشهد الأول، فيعلم أنه صلى ثنتين لا واحدة، وأنه صلى ثلاثا لا اثنتين، وقد يذكر أنـه قرأ الفاتحـة وحـدها في ركعة ثم في ركعـة فيعلم أنه صلى أربعا لا ثلاثا‏.‏ وقد يذكر أنه صلى بعد التشهد الأول ركعتين، فيعلم أنه صلى أربعا لا ثلاثا، واثنتين لا واحدة‏.‏ وقد يذكر أنه تشهد التشهد الأول، والشك بعده في ركعة فيعلم أنه صلى ثلاثا لا اثنتين‏.‏
ومنها‏:‏ أنه قد يعرض له في بعض الركعات‏:‏ إما من دعاء وخشوع، وإما من سعال ونحوه، وإما من غير ذلك، ما يعرف به تلك الركعة، ويعلم أنه قد صلى قبلها واحدة أو اثنتين، أو ثلاثًا، فيزول الشك، وهذا باب لا ينضبط‏.‏ فإن الناس دائمًا يشكون في أمور‏:‏ هل كانت أم لم تكن‏؟‏ ثم يتذكرون، ويستدلون بأمور على أنها كانت، فيزول / الشك، فإذا تحري الذي هو أقرب للصواب، أزال الشك، ولا فرق في هذا بين أن يكون إماما أو منفردًا‏.‏
ثم إذا تحري الصواب، ورأي أنه صلى أربعًا، كان إذا صلى خامسة قد صلى في اعتقاده خمس ركعات، وهو لم يؤمر بذلك، بخلاف الشك المتساوي، فإنه لابد معه من الشك في الزيادة والنقص، والشك في الزيادة أولي‏.‏ فإن ما زاده مع الشك مثل ما زاده سهوًا، وذلك لا يبطل صلاته‏.‏وأما إذا شك في النقص، فهو شاك في فعل ما أمر به، فلم تبرأ ذمته منه‏.‏
وأيضًا، فالأقوال الممكنة في هذا الباب‏:‏ إما أن يقال‏:‏ يطرح الشك مطلقًا، ولا يتحري‏.‏ أو يحمل التحري على طرح الشك، فهذا مخالفة صريحة لحديث ابن مسعود، وإما أن يستعمل هذا في حق الإمام، وهذا في حق المنفرد، ومعلوم أن كلا الحديثين خطاب للمصلين لم يخاطب بأحدهما الأئمة، وبالآخر المنفردين، ولا في لفظ واحد من الحديثين ما يدل على ذلك، فجعل هذا هو مراد الرسول، من غير أن يكون في كلامه ما يدل عليه نسبة له إلى التدليس والتلبيس، وهو منزه عن ذلك‏.‏
وأيضًا، فإن حديث أبي سعيد ـ مع تساوي الشك ـ متناول للجميع / بالاتفاق، فإخراج الأئمة منه غير جائز، وحديث ابن مسعود متناول لما تناوله حديث أبي سعيد، فلم يبق إلا القسم الثالث‏:‏
وهو أن كلاهما خطاب للشاك، فذاك أُمِر له بالتحري ـ إذا أمكنه ـ فيزول الشك‏.‏ والثاني أمر له إذا لم يزل الشك ماذا يصنع‏.‏
وهذا كما يقال للحاكم‏:‏ احكم بالبينة، واحكم بالشهود، ونحو ذلك، فهذا مع الإمكان‏.‏ فإذا لم يمكن ذلك رجع إلى الاستصحاب، وهو البراءة‏.‏ كذلك المصلي الشاك‏:‏ يعمل بما يبين له الصواب، فإن تعذر ذلك، رجع إلى الاستصحاب‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
ولأن العمل بالتحري يقطع وسواس الشيطان، أو يقلله، بخلاف ما إذا لم يتحر، فلا يزال الشيطان يشككه فيما فعله، أنه لم يفعله‏.‏ وقد قالوا‏:‏ إنه لو شك بعد السلام هل ترك واجبًا، لم يلتفت إليه، وما ذاك إلا لأن الظاهر أنه سلم بعد إتمامها، فعلم أن الظاهر يقدم على الاستصحاب، وعلى هذا عامة أمور الشرع‏.‏
ومثل هذا يقال في عدد الطواف والسعي ورمي الجمار، وغير ذلك‏.‏ ومما يبين ذلك‏:‏ أن التمسك بمجرد استصحاب حال العدم أضعف الأدلة مطلقًا، وأدني دليل يرجح عليه، كاستصحاب براءة الذمة / في نفي الإيجاب والتحريم، فهذا باتفاق الناس أضعف الأدلة، ولا يجوز المصير إليه باتفاق الناس إلا بعد البحث التام‏:‏ هل أدلة الشرع ما تقتضي الإيجاب أو التحريم‏؟‏
ومن الناس من لا يجوز التمسك به في نفي الحكم، بل في دفع الخصم، ومنعه فيقول‏:‏ أنا لا أثبت الإيجاب ولا أنفيه، بل أطالب من يثبته بالدليل، أو أمنعه، أو أدفعه عن إثبات إيجاب بلا دليل، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة‏.‏
وأما أهل الظاهر فهو عمدتهم، لكن بعد البحث عن الأدلة الشرعية، ولا يجوز الإخبار بانتفاء الأشياء وعدم وجودها بمجرد هذا الاستصحاب من غير استدلال بما يقتضي عدمها، ومن فعل ذلك كان كاذبا، متكلما بلا علم؛ وذلك لكثرة ما يوجد في العالم والإنسان لا يعرفه، فعدم علمه ليس علمًا بالعدم، ولا مجرد كون الأصل عدم الحوادث يفيد العلم بانتفاء شيء منها إلا بدليل يدل على النفي، لكن الاستصحاب يرجح به عند التعارض، وما دل على الإثبات من أنواع الأدلة فهو راجح على مجرد استصحاب النفي، وهذا هو الصواب الذي أُمِر المصلي أن يتحراه، فإن ما دل على أنه صلى أربعًا من أنواع الأدلة راجح على استصحاب عدم الصلاة، وهذا حقيقة هذه المسألة‏.‏