فصل: في وجوب سجود السهو وما ورد فيه
 
فصل
وأما وجوبه‏:‏ فقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم لمجرد الشك، فقال‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه صلاته، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏ وأمر به فيما إذا طرح الشك‏.‏/ فقال في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان‏)‏‏.‏
وكذلك في حديث عبد الرحمن‏:‏ ‏(‏ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم، ثم يسلم‏)‏، وأمر به في حديث ابن مسعود ـ حديث التحري ـ قال‏:‏ ‏(‏فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏هاتان السجدتان لمن لا يدري أزاد في صلاته أم نقص، فيتحري الصواب، فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين‏)‏، وفي الحديث الآخر المتفق عليه لابن مسعود‏:‏ فقلنا‏:‏ يا رسول اللّه، أحدث في الصلاة شيء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ فقلنا له الذي صنع، فقال‏:‏ ‏(‏إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين‏)‏، قال‏:‏ ثم سجد سجدتين فقد أمر بالسجدتين إذا زاد أو إذا نقص‏.‏ ومراده إذا زاد ما نهي عنه، أو نقص ما أمر به‏.‏
ففي هذا إيجاب السجود لكل ما يترك مما أمر به، إذا تركه ساهيًا، ولم يكن تركه ساهيًا موجبًا لإعادته بنفسه، وإذا زاد ما نهي عنه ساهيًا، فعلى هذا كل مأمور به في الصلاة إذا تركه ساهيًا فإما أن يعيده إذا ذكره، وإما أن يسجد للسهو لابد من أحدهما‏.‏
/فالصلاة نفسها إذا نسيها صلاها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك‏.‏ وكذلك إذا نسي طهارتها، كما أمر الذي ترك موضع لمعة من قدمه لم يصبها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة‏.‏ وكـذلك إذا نـسي ركعة‏.‏ كما في حديث ذي اليدين، فإنه لابد من فعل ما نسيه، إما مضموما إلى ما صلى، وإما أن يبتدئ الصلاة‏.‏ فهذه خمسة أحاديث صحيحة فيها كلها يأمر الساهي بسجدتي السهو‏.‏ وهو لما سهي عن التشهد الأول سجدهما بالمسلمين قبل السلام، ولما سلم في الصلاة من ركعتين أو من ثلاث صلى ما بقي، وسجدهما بالمسلمين بعد الصلاة، ولما أذكروه أنه صلى خمسًا سجدهما بعد السلام والكلام‏.‏
وهذا يقتضي مداومته عليهما وتوكيدهما، وأنه لم يدعهما في السهو المقتضي لها قط، وهذه دلائل بينة واضحة على وجوبهما، وهو قول جمهور العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة، وليس مع من لم يوجبهما حجة تقارب ذلك‏.‏
والشافعي إنما لم يوجبهما؛ لأنه ليس عنده في الصلاة واجب تصح الصلاة مع تركه، لا عمدًا ولا سهوًا، وجمهور العلماء الثلاثة وغيرهم يجعلون من واجبات الصلاة ما لا يبطل تركه الصلاة، لكن مالك وأحمد وغيرهما يقولون‏:‏ لا تبطل الصلاة بعمده، وعليه الإعادة، ويجب بتركه سهوًا سجود السهو‏.‏ وأبو حنيفة يقول‏:‏ إذا تركه عمدًا كان مسيئًا،/ وكانت صلاته ناقصة، ولا إعادة عليه، وأما ما يزيده عمدًا فكلهم يقول‏:‏ إن فيه ما تبطل الصلاة مع عمده دون سهوه، لكن هو في حال العمد مبطل فلا سجود، وفي حال السهو يقولون‏:‏ قد عفي عنه فلا يجب السجود‏.‏
وقد احتج بعضهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشك‏:‏ ‏(‏كانت الركعة والسجدتان نافلة‏)‏، وهذا لفظ ليس في الصحيح‏.‏ ولفظ الصحيح‏:‏ ‏(‏فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان‏)‏، فقد أمر فيه بالسجود، وبين حكمته سواء كان صلى خمسًا، أو أربعا، فقال‏:‏ ‏(‏فإن كان صلى خمسا شفعتا له صلاته‏)‏ وهذا يقتضي أن التطوع بالوتر لا يجوز، بل قد أمر اللّه أن يوتر صلاة النهار بالمغرب، وصلاة الليل بالوتر‏.‏
وهنا لما كان مع الشك قد صلى خمسا، وهو لا يعلم جعل السجدتين قائمة مقام ركعة فشفعتا له صلاته‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن كان صلى تماما لأربع فلم يزد في الصلاة شيئا، كانتا ترغيما للشيطان‏)‏، فهذا اللفظ وهو قوله‏:‏ ‏(‏كانت الركعة والسجدتان نافلة له‏)‏ لا يمكن أن يستدل به، حتى يثبت أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم،/ فكيف ولفظه الذي في الصحيح يقتضي وجوبهما وجوب الركعة، والسجدتين‏.‏ والركعة قد اتفق العلماء على وجوبها، فحيث قيل‏:‏ إن الشاك يطرح الشك ويبني على ما استيقن‏:‏ كانت الركعة المشكوك فيها واجبة‏.‏
وإذا كانت واجبة بالنص والاتفاق،واللفظ المروي هو فيها وفي السجود، مع أن السجود أيضا مأمور به، كما أمر بالركعة‏.‏ علم أن ما ذكر لا ينافي وجوب السجدتين، كما لا ينافي وجوب الركعة،وإن كان هذا اللفظ قد قاله الرسول، فمعناه أنه مأمور بذلك مع الشك فعلى تقدير أن تكون صلاته تامة في نفس الأمر لم ينقص منها شيء يكون ذلك زيادة في عمله، وله فيه أجر كما في النافلة، وهذا فعل كل من احتاط فأدي ما يشك في وجوبه، إن كان واجبا، وإلا كانت نافلة له، فهو إنما جعلها نافلة في نفس الأمر على تقدير إتمام الأربع، ولكن هو لما شك حصل بنفس شكه نقص في صلاته، فأمر بهما، وإن كان صلى أربعًا ترغيما للشيطان‏.‏
وهذا كما يأمرون من يشك في غير الواجب بأن يفعل ما يتبين به براءة الذمة، والواجب في نفس الأمر واحد، والزيادة نافلة، وكذلك يؤمر من اشتبهت أخته من الرضاع بأجنبية باجتنابهما، والمحرم في نفس الأمر واحد، فذلك المشكوك فيه يسمي واجبا باعتبار أن عليه /أن يفعله،ويسمي نافلة على تقدير‏:‏أي هو مثاب عليه مأجور عليه ـ ليس هو عملا ضائعا ـ كالنوافل‏.‏ وأنه لم يك في نفس الأمر واجبا عليه، لكن وجب لأجل الشك، مع أن إحدى الروايتين عن أحمد أنه يجبر المعادة مع إمام الحي‏.‏
ويسمي نافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكذلك قوله في حديث أبي ذر‏:‏ ‏(‏صل الصلاة لوقتها ثم اجعل صلاتك معهم نافلة، ولا تقل‏:‏ إني قد صليت‏)‏، فهي نافلة‏.‏ أي‏:‏ زائدة على الفرائض الخمس الأصلية، وإن كانت واجبة بسبب آخر، كالواجب بالنذر‏.‏
وكثير من السلف يريدون بلفظ النافلة‏:‏ ما كان زيادة في الحسنات، وذلك لمن لا ذنب له، ولهذا قالوا في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏79‏]‏ ، أن النافلة مختصة برسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللّه غفر له، وغيره له ذنوب فالصلوات تكون سببا لمغفرتها‏.‏ وهذا القول وإن كان فيه كلام‏.‏ ليس هذا موضعه‏.‏ فالمقصود أن لفظ النافلة توسع فيه، فقد يسمي به ما أمر به، وقد ينفي عن التطوع‏.‏
فقد تبين وجوب سجود السهو‏.‏ وسببه إما نقص، وإما زيادة‏.‏ كما قال في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين‏)‏‏.‏ فالنقص كما في حديث ابن بُحَيْنة‏:‏ لما ترك التشهد الأول سجد، والزيادة / كما سجد لما صلى خمسا، وأمر به الشاك الذي لا يدري أزاد أم نقص فهذه أس
بابه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إما الزيادة، وإما النقص، وإما الشك‏.‏ وقد تبين أنه في النقص والشك يسجد قبل السلام، وفي الزيادة بعده‏.‏