بطل المحنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله
 

بسم الله الرحمن الرحيم

بطل المحنة

سير الصالحين مدرسة، أسسها القرآن ،ووعتها السنة ، ومعنا في هذه الأوراق : صالح من الصالحين ، بل أمام الدنيا ، وحافظ العصر ، وأحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحديث

وعت الدنيا اسمه ، وحفظت القلوب رسمه ، فما هنالك فيما أظن مسلم يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة ، إلا ويعرف هذا الإمام حتى من أعدائه من الكفار ، والمنافقين فأنهم يعرفونه إلى قيام الساعة

هو الإمام ـ أحمد بن حنبل ـ أمام أهل السنة ، الواقف يوم المحنة ، الزاهد فيما سوى الله ، المتقن للحديث

فمن هو الإمام أحمد ؟ علنا نقتدي بشيء من سيرته ، فإن لم نستطع ، فلنحبه في الله ، فإن المؤمن يحشر مع من أحب ، والمؤمن والخليل على دين خليله ، والله عز وجل يقرن الأصناف مع أصنافهم ، والأنواع مع أنواعهم والأشباه مع أشباههم

أحب الصالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة واره من تجارته المعاصي *** ولو كنا سواء في البضاعة

ولد الإمام أحمد في آخر القرآن الثاني ، وعاش في بيت فقير

مات أبوه ، وهو طفل ، فكفلته أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة

قال أحمد ، رحمه الله : فحفظتني أمي القرآن ، وعمري عشر سنوات ، فحفظ كتاب الله ، واستوعباه في صدره ، ففرت الوساوس والشياطين من صدره ، فأصبح عابدا لله

وقال أحمد ، رحمه الله : كانت أمي تلبسني اللباس ، وتوقظني وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر ، وأنا ابن عشر سنوات ، ثم كانت تتخمر وتتغطى بحجابها ،وتذهب معه إلى المسجد ؛ لأن المسجد بعيد ، ولأن الطريق مظلمة

فانظر إلى هذه المرأة الصالحة ! عاش في هذا الجو ، وعاش في هذا البيت ،وكل همه : أن يعبد الله بكلام الله ، وان يكون عبدا خالصا لله

قال : فأعطتني متاع السفر

أتدرون ماذا أعطته من الزاد وكم أعطته من الألوف ؟ وكم أعطته من الدراهم والدنانير ؟ لقد صنعت له ما يقارب عشرة من الأرغفة من الشعير ، ووضعتها في حقيبة من قماش معه ، ووضعت معها صرة ملح!! وقالت : يا بني ، إن الله إذا استودع شيئا لا يضيعه أبدا ، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه

فذهب من عندها من بغداد ، من عاصمة الدنيا ، من دار السلام

ماذا ذهب ؟ اذهب للسياحة كما يفعل اللاهون اللاغون اللعابون ؟ أم ذهب إلى التسكع كما يذهب السادرون المخمورون المسكورون ؟ أم ذهب إلى ضياع الأوقات والتدحرج على الثلج كما يذهب الذين رفعت عنهم أقلام التكليف ؟ لا ، بل ذهب ليبحث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذهب إلى مكة والمدينة

من زار بابك لم تبرح جوارحه *** تروي أحاديث ما أوليت من منن فالعين عن قرة والكف عن صلة *** والقلب عن جابر والسمع عن حسن

فذهب ، رحمه الله ، وقال مضيت من بغداد على رجلي إلى مكة ، فضعت في الطريق ثلاث مرات ، فكنت كلما ضعت استغفرت الله ، ودعوت الله

قال : فوالله ما انتهيت من كلامي ، إلا وبدلني الله تعالى على الطريق

من هو ملجأ الخائفين ؟ انه الله

من هو منقذ العارفين ؟ انه الله

فكان كلما ضاع في الصحراء ، التجأ إلى الله فليس عنده علامات ، ولا بوصلات ولا خطوط صحراء ، بل هي ارض مقفرة يضيع فيها الذكي والبليد

فضاع الإمام أحمد ، ولكن رد اتجاهه إلى الله

أحفظ الله يحفظ فلما حفظ الله حفظه الله في سمعه وجوارحه ودينه ومستقبله وسمعته إلى يوم القيامة

وحفظ الله اسمه للملايين ؛ عند مسلمي الصين واليابان والملايو والعراق والجزيرة وسوريا والجزائر ، ومسلمي أمريكا ، فلهم يسمعون بأحمد بن حنبل ؛ لأنه حفظ الله

ثم وصل إلى مكة ، وأخذ حديث مكة ، وبعدها سافر إلى اليمن إلى صنعاء اليمن ، إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث ، وبينما هو في طريقه ضاع مرة رابعة ، قال : وانتهت نفقتي من الخبز إما الدراهم فما كان عندي دراهم ، فماذا افعل ؟ قال : نلت إلى قوم أهل مزارع ، يحصدون ويصرمون ، فأجرت منهم نفسي ثلاثة أيام ، يا سبحان الله ! أمام الأئمة الذي يحفظ ألف ألف حديث ، كما يقول الذهبي وابن كثير ـ أي : مليون حديث ـ ويؤجر نفسه من الحصادين فيحصد لهم

ووصل بحفظ الله إلى صنعاء ، واخذ الأحاديث النبوية وكتبها

كان يسهر الليل حتى الفجر ،ويصوم النهار حتى الغروب

يقول ابنه عبد الله : كان أبي يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة

وانظروا

تذكرة الحفاظ للذهبي ، و

سير أعلام النبلاء له و

البداية والنهاية لابن كثير ، و

تاريخ بغداد ، و

تاريخ دمشق فكلها متواترة على انه كان يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة ، وكان يسرد الصوم إلا في بعض الأيام

ووصل إلى صنعاء ، فقدم له جوائز من السلطان ،ومن الأغنياء ، فرفض وأبى وقال : اعمل بيدي ، فاشتغل في بعض الصناعات ، فرفض وأبى وقال : اعمل بيدي ، فاشتغل في بعض الصناعات بيده حتى أعطاه الله بعض النقود ، ثم عاد إلى بغداد

أما علمه ، رحمه الله ، فهو البحر ، وحدث عن البحر ولا حرج ،

واتقوا الله ويعلمكم الله فالعلم لي بالمؤسسات ، ولا بالشهادات ، ولا بالجامعات ، العلم :تقوى الله ، العلم :طلب العلم من الحي القيوم الذي يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ـ طـه: من الآية 114 ـ ويقول لسليمان فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ـ الأنبياء: من الآية 79 ـ

فالفهم من عند الله ، والعلم من عند الله ، والفقه من عند الله ، والذكاء من عند الله ، فيا من اغتر بشهادته ، أو بمستواه ، أو بمنصبه ، والله ، لن تنفعك عند الله جناح بعوضة ، العلم : أن تتعلم وتعمل ، وتعلم الناس لي إلا ، سواء عندك شهادة ، أو لم يكن هناك شهادة ، سواء تعلمت في مدرسة أو لم تتعلم

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ـ البقرة: من الآية 282 ـ ، فعلم الله الإمام أحمد ، فحفظ ألف ألف حديث ، يستحضرها كما يستحضر الفاتحة حتى كتب

المسند من حفظه في أربعين ألف حديث ، فهو اكبر مسند في الدنيا ، وفي المعمورة ، وعلى البسيطة ، وبين أيدينا ، ولكن من يقرأ

المسند ؟ ومن يطالع

المسند ؟ ومن يتفقه في

المسند؟ أأهل الصحف اليومية والخزعبلات وأهل الملاهي والملاغي ؟ إلا من رحم الله

وأصبح مطبوعا لنا طبعة فاخرة ، وأصبح معروضا لنا عرضا جيدا ، وأصبح محققا في الدواليب عندنا ، فوضعناه ديكورا وزينة

فيا أمة محمد ، من يقرأ

مسند أحمد ؟ إن من يقرأه سوف يجد التقوى والزهد ، والرفعة ، والخوف من الله خشية الله عز وجل

أفت الإمام أحمد في ستين ألف مسالة ، يقال الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذم المنطق وذم الرأي ، وذم الفلسفة والجدل

أما تواضعه : فمنقطع النظير ، وطالب العلم ، والمسلم ، والعالم والمسؤول ، إذا لم يكن متواضعا لله ، فلا تنظر إليه ؛ فإن الله قد مقته من فوق سبع سماوات ، وقد باء بخزي من الله ، إن لم يتب

كان ، رحمه الله ، متواضعا جد التواضع

قال الحفاظ : رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد ، فاشترى حزمة من الحطب ، وجعلها على كتفه ، فلما عرفه الناس ، ترك أهل المتاجر متاجرهم ، وأهل الدكاكين دكاكينهم ، وتوقف المارة في طرقهم ، يسلمون عليه ، ويقولون : نحمل عنك الحطب ، فهز يده ،واحمر وجهه ،ودمعت عيناه وقال : نحن قوم مساكين ، لولا ستر الله لافتضحنا ، نحن قوم مساكين لولا ستر الله لافتضحنا

والعجيب في الإسلام: أن العبد كلما ازداد تواضعا لله ، كلما زاده الله رفعة، وكلما ارتفع كلما زاده الله حقارة ومهانة ، ومذلة جزاء وفاقا

أتى رجل ليمدح الإمام أحمد ، فقال له الإمام أحمد : أشهد الله إني أمقتك في هذا الكلام ،والله ، لو علمت ما عندي من الذنوب والخطايا لحثوت على رأسي بالتراب ، انظر إلى الإمام ! انظر إلى العابد ! جاءه قوم فقالوا : يا أحمد ، يا ابن حنبل ،إن الله قد نشر لك الثناء الحسن ، والله أنا لنسمع الثناء عليك في كل مكان ،حتى في الثغور مع الجيش ،وهم يقاتلون العدو ، ويدعون لك وقت ما يرمون بالمنجنيق ، فدمعت عيناه ، وقال : أظن انه استدراج من الله عز وجل ، فقيل له : بل هي عاجل بشرى المؤمن

أما زهده في الدنيا ، فقد رفعه عن كثير ممن عاش معه ، وأتته الدنيا راغمة إلى باب بيته فأباها

طلب من أن يتولى القضاء فامتنع وقال : إن تركتموني ، وإلا فوالله لأهاجر إلى مكان لا تجدوني فيه أبدا

كان دخله في الشهر سبعة عشر درهما فيقول : هذه تكفينا

يقول أبناؤه : يا أبتاه، هذه لا تكفينا

فيقول : إنما هي أيام قلائل ، وطعام دون طعام ، ولبا دون لبا حتى نلقى الله الواحد الأحد

يقول ابنه عبد الله : بقيت حذاء أبي في رجله ثمانية عشر سنة ، كلما خرمت خصفها بيده ،وهو إمام الدنيا

أرسل لها المتوكل ثمانية أحمال من الذهب والفضة ، حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة ، فردها ، وقال : والله ، لا يدخل بيتي منها درهما ولا دينارا

وأما خلقه ، فأحسن الناس خلقا ؛ لأن من يتعلم صباح مساء من القرآن ، ومن يجلس مع القرآن ، فسوف يؤثر فيه ، ولو طالت السنوات والأعوام

والذي لا يأخذ أخلاقه من القران والسنة ، فمن أين يأخذ الأخلاق ؟ ومن أين يتعلم الآداب ؟ أمن ديكارت ، وكانت ، وغيرهم من الكفرة الذين نقلوا ثقافتهم إلينا لنتعلم منهم ؟ متى كانوا أساتذة ؟ ومتى كانوا معلمين ؟ بل هم أحقر الناس وأخبث الناس مع الناس

إنما يتعلم من وحي السماء ؛ الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم

يقول الإمام أحمد : رحم الله أم صالح ـ يعني : زوجته وقد توفيت ـ صاحبتني ثلاثين سنة،والله ما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة

زوجته في بيته ، صاحبته ثلاثين سنة، ما اختلف معها في كلمة واحدة

أتاه رجل من اتباع السلطان المعتصم ، فسب الإمام أحمد أمام الناس ، وجدعه وشتمه ، وأخزاه بالكلام ، ولكن لي بمخز ، إن شاء الله

فقال الناس : يا أبا عبد الله ، يا أحمد ، رد على هذا السفيه

قال : لا والله ، فأين القرآن إذن ؟ يقول الله عز من قائل : وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجاهلونَ قَالُوا سَلاماً ـ الفرقان: من الآية 63 ـ هذا هو القرآن الذي يمشي على الأرض

كان يجلس للناس ،رحمه الله ، فيتعلمون منه وينظر إليهم ويباسطهم

قال ابنه عبد الله : دخلت على أبي ، وهو جالس في البيت متربعا مستقبل القبلة، ودموعه تهمل على خديه ، فقالت : يا أبتاه، ما لك ؟ قال : تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله

قال : فأراك متربعا لماذا لا تتكئ وتريح نفسك ؟ ـ لأنه شيخ كبير ـ ؟

قال : استحي أن أجالس الله ،وأنا متكئ ، أما يقول الله : أنا جليس من ذكرني ،أنا جليس من ذكرني

دخل عليه الأديب الكبير ثعلب فقال له الإمام أحمد : ماذا تحفظ من الأدب والشعر ؟ قال : أحفظ بيتين

قال : ما هما ؟ قال : قول الأول

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل على رقيب ولا تحسبن الله يغفل طرفــه *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب

فوضع الكتاب من يده ، وقام وأغلق على نفسه بابا ، وبقي في الغرفة

قال تلاميذه: والله ، لقد سمعنا بكاءه من وراء الباب ،وهو يردد البيت :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب

كانت اكبر الأماني في حياته أن يحمل السيف مجاهدا في سبيل الله

نظر إلى قدميه وقت الوفاة فبك ، وقال : يا ليتها جاهدت في سبيل الله

لكن والله ، لقد جاهد جهادا من أعظم الجهاد ، وبذلك علمه ، وبذل خلقه ، وبذل جاهه ، وبذل ماله، وبذل كل ما يملك في رفع لا إله إلا الله فكان إمام الدنيا بحق

قال يحيى بن معين : والله ما رأيت أحدا كأحمد من حنبل ، والله ما أستطيع أن أكون مثله ثلاثة أيام

وقال الإمام الشافعي ، رحمه الله : خرجت من بغداد وسكانها ألف ألف ـ يعني: مليون ـ فوالله ، ما خلفت رجلا أتقى لله ، وأعلم بالله ، وازهد لله وأورع عن حرمات الله ،ولا أحب من الإمام أحمد بن حنبل

رحم الله الإمام أحمد بن حنبل وأسكنه فسيح جناته وحشرنا في زمرته

* فتنة خلق القرآن :

يقول سبحانه وتعالى أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ـ 2 ـ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ـ العنكبوت:2 - 3 ـ

ويقول عز من قائل : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخباركُمْ ـ محمد:31 ـ لما قرأ الفضيل بن عياض ، رحمه الله ، هذه الآية بكى ،وقال اللهم لا تبلونا فتفضحنا ، فنحن في ستر الله ، نال الله أن لا يفضحنا ، وأن لا يفتنا ، وأن يجعلنا في عافية وستر حتى نلقاه

لكن للفتنة نتائج طيبة ،يجعلها الله للصابرين ، قال سبحانه وتعالى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ـ السجدة:24 ـ

فالمحنة والفتنة التي ترعض لها الإمام أحمد رواها أهل التاريخ جميعا ، وسمعت بها الدنيا شرقا وغربا ، وشمالا وجنوبا ، إلى قيام الساعة ، هي : محنة خلق القرآن ، أو الفتنة التي أورثها المأمون في الأمة والقول بخلق القرآن ، واختصارا لتعريف هذه المحنة ، فهي :

أن المأمون كان مشوبا برأي منطقي معتزلي

يقول ابن تيمية : رحمه الله : إن الله لا يغفل عن المأمون لما أدخله من علم المنطق عند المسلمين

والمأمون الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد ، قال : بان القرآن مخلوق ، وكذب على الله ، فالقران كلام الله عز وجل ، والله يتكلم بما شاء متى يشاء ، لم يزل متكلما سبحانه وتعالى ، يقول عز من قائل : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ـ لأعراف: من الآية 54 ـ فالأمر هنا القرآن

فقال هذا الخليفة : بان القرآن مخلوق ، واستخدم السيف ليثبت هذه القضية في الأمة ، وقتل ما يقارب ألفا من العلماء الكبار من علماء الأمة

من زملاء الإمام أحمد ، وملأ السجون بكافة العلماء ، فبعضهم أجاب خوفا من السيف ، وبعضهم رفض وقال : لا أجيب فقتل في الحال ، ومنع التدريس في المساجد ، ومنعت الخطابة إلا للمعتزلة ، وانتشر الشر الكثير ، فنصر الله الإسلام بالإمام أحمد بن حنبل ،الذي وقف وحده ، وقال : لا والله ، القرآن كلام الله

فطلبه الخليفة

قال الإمام أحمد : أخت من بيتي وسط الليل ، وأنا أصلي فوضع الحديد في يدي ، وفي رجلي ، حتى أن الحديد أثقل من جسمي ، ووضعت على فرس ، فكدت اسقط ثلاث مرات كل مرة أقول : اللهم أحفظني، فكان يردني الله حتى أتساوى على الفرص

أحفظ الله يحفظك ، وكان الجندي الذي معه يضرب الفرس لعل الإمام أحمد يسقط على وجهه

قال : فلما أدخلت السجن سحبت على وجهي ، فنزلت فكنت استغفر الله ، قال : فلا أدري أين القبلة ، ولا ادري أين أنا في ظلام ، وفي وحشة لا يعلمها إلا الله ، فكنت أقول : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم

قال : فمددت يدي ، فإذا بماء بارد ،فتوضأت منه ، وقمت أصلي إلى الفجر ، انظر إلى حفظ الله حتى في الساعات الحرجة ، لا ينسى ربه تبارك وتعالى لأنه العون

فالزم يد بحبل الله معتصمـــــا *** فإنه الركن إن خانت أركان

قال : فلما أصبح الصباح حملت على الفرس ثانية ، وما طعمت طعاما ، وكدت اسقط من الجوع ، فأدخلت على المعتصم الخليفة الثاني ، الخليفة العكسري ، صاحب عمورية ، فلما دخلت عليه هز السيف في وجهي ، وقال: يا أحمد ، والله ،إني احبك كابني هارون فلا تعرض من دمك لنا

فقال الإمام أحمد : ائتوني بكتاب الله ، أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فدعي بالجلادين ، ودعي بجبار من الجبابرة ، وقال له : اضرب هذا الرجل ، يعني : الإمام أحمد ، فجلده مائة وستين سوطا ،حتى غشي عليه ثم استفاق

فكان يقول : لا إله إلا الله ، حسبي الله ونعم الوكيل لأنها أطول كلمات ، ولأنها قوة هائلة ، ولأنها قوة فتاكة حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ـ آل عمران: من الآية 173 ـ

يقول ابن عباس ، رضي الله عنهما : قالها إبراهيم فنجاه الله من النار ، وقالها محمد فنجاه الله من كيد الكفار صلى الله عليه وسلم

ورفض أن يجيب حتى تمزق ظهره من كثرة الجلد ، فرفع على الفرس وأعيد

وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهرا سرد الصيام في هذه الفترة ، كما قال ابنه عبد الله فما افطر يوما واحدا

ثم في الأخير عرض على السيف ، ورفض فلما أعجزهم ، وأكلهم وأملهم أعادوه إلى بيته ، فأنزلوه ، وهو جريح

يقول ابنه عبد الله : دخل أبونا علينا في الليل بعد ما أطلق من السجن ، قال : فأنزلناه من على الفرس فوقع من التعب ،ومن الإعياء ، ومن الضعف والهزال ، والمرض على وجهه فبقي أياما ، ثم تولى الخلافة المتوكل ، فنصر السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام أحمد ، فبكى الإمام أحمد ، وقال : والله ، إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة،فرفض ، وما أخذ شيئا وبقي على هذا الحال

وكان يقول : يا ليتني ما عرفت الشهرة، يا ليتني في شعب من شعاب مكة ما عرفني الناس

فلما أراد الله أن يرفع ذكره قبضه إليه في يوم من اسعد الأيام مرض تسعة أيام ،ومحص الله ما بقي عليه من خطايا ومن ذنوب ومن سيئات ، لا يخلو عنها البشر في هذه التسعة الأيام ، وفي اليوم الأخير سمع الخليفة انه مريض ، فأمرر الناس بزيارته ،فانقلبت بغداد العاصمة؛ عاصمة الدنيا ، دار السلام ،ظهرا وبطن متجه طوابير ، وفي كتائب إلى بيت الإمام أحمد ؛ لتزوره في اليوم الأخير

فقال أبناؤه : والله ، لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا ، ولقد وقف الباعة من كثرة الناس ، فرفض الإمام أحمد أن يدخل عليه إلا الصبيان ، والمساكين ، فأدخلوا الأطفال عليه ، فأخذ يبكي ويقبلهم ، ويمسح على رؤوسهم ، ويدعو لهم ، ثم ادخل عليه الفقراء، فأخذ ينظر إليهم ، ويقول : اصبروا فإنها أيام قلائل ، لباس دون لباس ، وطعام دون طعام حتى نلقى الله

وفي سكرات الموت التفت إلى طرفه بيته ، والى طرف غرفته ، وقال : لا بعد ، لا بعد ، لا بعد

فقالوا : ما لك ؟ قال : تصور لي الشيطان ، ورأيته يعض على إصبعه

ويقول : فتني يا أحمد ، فتني يا أحمد ، يعني : هربت مني ، فقد فتنت الناس إلا أنت ، فيقول الإمام أحمد : لا بعد ، يعني : انتظر فإني أخاف على نفسي ، فقبضه الله عز وجل

وكانت آخر كلماته : اللهم اعف عن من ظلمني ، اللهم اعف عن من شتمني ،اللهم سامح من ضربني ، اللهم سامح من سجنني ، إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك ، فلا تسامحه ، وقبضت روحه ، رضي الله عنه وأرضاه

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر *** فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

فأمر المتوكل أن يشعوا الجنازة ، ففتحت الثكنات العسكرية لجيش الخليفة ، وبقي الناس يتوضؤون من الضحى إلى صلاة العصر ، وحملت الجنازة ، وارتفعت في الصباح من بيته ، ووصلت إلى مصلاها قريبا من ضاحية بغداد في العصر من كثرة الزحام

شيعه كما يقول أهل العلم : مليون وثلاثمائة ألف كما أثبتت ذلك التواريخ ، وتوقف اليهود والنصارى من بيعهم ذاك اليوم ، وهبت ريح على بغداد ، حتى قال بعض الجهلة : قامت القيامة ، وخرج الجيش ، وقوامه : تسعون ألفا في مقدمة الناس ، يرتبون الصفوف ، وترددت بغداد بالبكاء من أولها لآخرها ، ووصلت جنازته حتى قال بعض أهل التاريخ : كانت تذهب الجنازة على رؤوس الناس تحمل بالأصابع ، وتعود إلى المؤخرة ، وتذهب وتأتي ، فملا وضعت ارتفع البكاء ، وقام الناس يصلون عليها يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ـ الفجر:27 ـ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ـ 28 ـ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ـ الفجر:28 - 29 ـ وَادْخُلِي جَنَّتِي ـ الفجر:30 ـ

دفن ، لكن ما دفن علمه ، ولا تواضعه ، ولا زهده ، ولا ذكره الحسن ؛ فقد ابقى الله له ذكرا إلى قيام الساعة

قال ابن كثير : رآه أحد الصالحين ، فقال : ما فعل الله بك ؟ قال : ناداني ، فقال : يا عبد الله ، الحق بابي عبد الله وأبى عبد الله وأبي عبد الله

قلت : من هم ؟

قال : الشافعي ، وسفيان الثوري ، والإمام مال

أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ـ الاحقاف:16 ـ

دروس من سيرة الإمام أحمد :

الدرس الأول : من سريته ، رحمه الله ، أن الرفعة من الواحد الأحد وان من يحفظ الله يحفظه

الدرس الثاني : أن الدنيا لا تساوي جناح بعوضة وقد خلقها وما التفت إليها منذ خلقها

الدرس الثالث : أن العلم النافع : العلم الصحيح ، العلم القويم ، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

الدرس الرابع : أن من أراد الرفعة ، ومن أراد المنزلة ، ومن أراد المكانة عند الله ، فعليه أن يتواضع ، وعليه أن ينزل نفسه ، وعليه أن يلغي اعتباراته ليرفعه الله

الدرس الخامس : انك كلما سجدت لله سجدة ، رفعك بها درجة ، وهذا الإمام يصلي لله كل يوم ثلاثمائة ركعة ؛ لأن كل سجدة بدرجة عند الواحد الأحد

الدرس السادس : أن في سير هؤلاء زكاة للقلب ، وتربية للروح وهداية إلى الواحد الأحد ، فطالعوا أخبارهم ، وتلمحوا سيرهم، وكونوا متشبهين بهم ، لعل الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل

سيماهم في وجوهم للدكتورعائض بن عبد الله القرني