فصل:في جواز الطواف في أوقات النهي
 
فصل
وروي جبير بن مطعم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلي أية ساعة شاء من ليل أو نهار‏)‏‏.‏ رواه أهل السنن‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ واحتج به الأئمة، الشافعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم، وأخذوا به وجوزوا الطواف والصلاة بعد الفجر والعصر، كما روي عن ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من الصحابة والتابعين‏.‏
وأمـا في الأوقات الثلاثة، فعن أحمد فيه روايتان‏.‏ وآخرون من أهل العلم كأبي حنيفة ومـالك، وغيرهما، لا يرون ركعتي الطواف في / وقت النهي، والحجة مع أولئك من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏(‏لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلي أية ساعة شاء من ليل أو نهار‏)‏، عموم مقصود في الوقت، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إنه لم يدخل في ذلك المواقيت الخمسة‏؟‏‏!‏
الثاني‏:‏ أن هذا العموم لم يخص منه صورة لا بنص ولا إجماع، وحديث النهي مخصوص بالنص والإجماع، والعموم المحفوظ راجح على العموم المخصوص‏.‏
الثالث‏:‏ أن البيت ما زال الناس يطوفون به، ويصلون عنده من حين بناه إبراهيم الخليل، وكان النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه قبل الهجرة يطوفون به، ويصلون عنده، وكذلك لما فتحت مكة كثر طواف المسلمين به، وصلاتهم عنده‏.‏ ولو كانت ركعتا الطواف منهياً عنها في الأوقات الخمسة، لكان النبي صلي الله عليه وسلم ينهى عن ذلك نهياً عاماً، لحاجة المسلمين إلى ذلك، ولكان ذلك ينقل، ولم ينقل مسلم أن النبي صلي الله عليه وسلم نهى عن ذلك، مع أن الطواف طرفي النهار أكثر وأسهل‏.‏
الرابع‏:‏ أن في النهي تعطيلا لمصالح ذلك من الطواف والصلاة‏.‏
/الخامس‏:‏ أن النهي إنما كان لسد الذريعة، وما كان لسد الذريعة، فإنه يفعل للمصلحة الراجحة، وذلك أن الصلاة في نفسها من أفضل الأعمال، وأعظم العبادات، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة‏)‏‏.‏ فليس فيها نفسها مفسدة تقتضي النهي، ولكن وقت الطلوع والغروب‏:‏ الشيطان يقارن الشمس، وحينئذ يسجد لها الكفار، فالمُصَلِّي حينئذ يتشبه بهم في جنس الصلاة‏.‏
فالسجـود ـ وإن لم يكونوا يعبدون معبــودهم، ولا يقصدون مقصودهم ـ لكن يشبههم في الصـورة، فنهى عن الصلاة في هاتين الوقتين سداً للذريعــة، حتى ينقطــع التشبه بالكفار، ولا يتشبه بهم المسلم في شركهم، كما نهى عن الخلوة بالأجنبيـــة، والسفر معها، والنظر إليها لما يفضي إليه من الفساد، ونهاهـا أن تسافــر إلا مع زوج، أو ذي محـرم، وكما نهى عـن سب آلهـة المشركين؛ لئلا يسبوا الله بغيــر علم، وكما نهى عن أكل الخبائث لما يفضي إليه من حيث التغذية الذي يقتضي الأعمال المنهــي عنها، وأمثال ذلك‏.‏
ثم إن ما نهى عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة، والسفر بها إذا خيف ضياعها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم، وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن / المُعَطَّل، فإنه لم ينه عنه، إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضياً للمصلحة الراجحة، لم يكن مفضياً إلى المفسدة‏.‏
وهذا موجود في التطوع المطلق، فإنه قد يفضي إلى المفسدة، وليس الناس محتاجين إليه في أوقات النهي، لسعة الأوقات التي تباح فيها الصلاة، بل في النهي عنه بعض الأوقات مصالح أخر من إجمام النفوس بعض الأوقات، من ثقل العبادة كما يجم بالنوم وغيره‏.‏ ولهذا قال معاذ‏:‏ إني لأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي‏.‏ ومن تشويقها وتحبيب الصلاة إليها إذا منعت منها وقتاً، فإنه يكون أنشط وأرغب فيها، فإن العبادة إذا خصت ببعض الأوقات، نشطت النفوس لها أعظم مما تنشط للشيء الدائم‏.‏ ومنها‏:‏ أن الشيء الدائم تسأم منه، وتمل وتضجر، فإذا نهى عنه بعض الأوقات، زال ذلك الملل، إلى أنواع أخر من المصالح في النهي عن التطوع المطلق، ففي النهي دفع لمفاسد،وجلب لمصالح من غير تفويت مصلحة‏.‏
وأما ما كان له سبب، فمنها ما إذا نهى عنه فاتت المصلحة، وتعطل على الناس من العبادة والطاعة، وتحصيل الأجر والثواب، والمصلحة العظيمة في دينهم، ما لا يمكن استدراكه، كالمعادة مع إمام الحي، وكتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، ونحو ذلك‏.‏
/ومنها ما تنقص به المصلحة، كركعتي الطواف، لاسيما للقادمين، وهم يريدون أن يغتنموا الطواف في تلك الأيام، والطواف لهم، ولأهل البلد طرفي النهار‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ ذوات الأسباب إنما دعا إليها داع، لم تفعل لأجل الوقت، بخلاف التطوع المطلق الذي لا سبب له‏.‏ وحينئذ، فمفسدة النهي إنما تنشأ مما لا سبب له دون ما له السبب، ولهذا قال في حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها‏)‏‏.‏
وهذه الوجوه التي ذكرناها تدل ـ أيضاً ـ على قضاء الفوائت في أوقات النهي‏.‏