فصل: النهي في العصر معلق بصلاة العصر
 
/فصل
والنهي في العصر معلق بصلاة العصر‏:‏ فإذا صلاها لم يصل بعدها وإن كان غيره لم يصـل، وما لم يصلها فله أن يصلي، وهذا ثابت بالنص والاتفاق، فإن النهي معلق بالفعل‏.‏وأما الفجر‏:‏ ففيها نزاع مشهور، وفيه عن أحمد روايتان‏:‏
قيل‏:‏ إنه معلق بطلوع الفجر، فلا يطوع بعده بغير الركعتين، وهو قول طائفة من السلف، ومذهب أبي حنيفة‏.‏ قال النخعي‏:‏ كانوا يكرهون التطوع بعد الفجر‏.‏
وقيـل‏:‏ إنـه معلـق بالفعل، كالعصـر‏.‏ وهو قول الحسن والشافعي‏.‏ فإنه لم يثبت النهي إلا بعـد الصلاة، كما في العصر‏.‏ وأحاديث النهي تسوي بين الصلاتين، كما في الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ شهد عندي رجال مرضيون ـ وأرضاهم عندي عمر ـ‏:‏ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب‏.‏
/وكذلك فيهما عن أبي هريرة ولفظه‏:‏ وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب‏.‏ وفيهما عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس‏)‏، ولمسلم‏:‏ ‏(‏لا صلاة بعد صلاة الفجر ، وبعد صلاة العصر‏)‏، وفي صحيح مسلم حديث عمرو بن عَبَسَة قال‏:‏ قلت يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان‏.‏ وحينئذ، يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة محضورة مشهودة، حتى يستقل الظل بالرمح‏.‏ ثم أقصر عن الصلاة فإنه ـ حينئذ ـ تُسْجَر جهنم‏.‏ فإذا أقبل الفيء، فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان‏.‏ وحينئذ، يسجد لها الكفار‏)‏‏.‏
والأحاديث المختصة بوقت الطلوع والغروب، وبالاستواء‏:‏ حديث ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا بدا حاجب الشمس، فأخروا الصلاة حتى تبرز‏.‏ وإذا غاب حاجب الشمس، فأخروا الصلاة حتى تغيب‏)‏ هذا اللفظ لمسلم، وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، قال‏:‏ ثلاث ساعات كان رسول الله صلي الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا‏:‏ حين تطلع / الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب‏.‏ ووقت الزوال ليس في عامة الأحاديث، ولم يذكر حديثه البخاري، لكن رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر، ومن حديث عمرو بن عَبَسَة، وتابعهما الصنابحي، وعلى هذه الثلاثة اعتمد أحمد‏.‏ ولما ذكر له الرخصة في الصلاة نصف النهار يوم الجمعة، قال‏:‏ في حديث النبي صلي الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه‏:‏ حديث عقبة بن عامر، وحديث عمرو بن عَبَسَة، وحديث الصُّـنَابِحي‏.‏
والخِـرقي لم يذكره في أوقـات النهي، بل قـال‏:‏ ويقضي الفوائت من الصلوات الفرض، ويركع للطواف، وإن كان في المسجد وأقيمت الصلاة‏.‏ وقد كان صلي في كل وقت نهي عن الصلاة فيه، وهـو بعـد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب‏.‏
وهذا يقتضـي أنه ليس وقـت نهي إلا هـذان، ويقتضي أن ما أباحه يفعل في أوقات النهي كإحـدي الروايتين، ويقتضـي أن النهي معلق بالفعـل، فإنه قال‏:‏ بعد الفجر حتى تطلـع الشمس، ولم يقل‏:‏ الفجر‏.‏ ولو كان النهي من حين طلوع الفجر لاستثني الركعتين، بل استثني الفرض والنفل‏.‏ وهذه ألفـاظ الرسول، فإنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، كما نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس‏.‏
/ومعلوم أنه لو أراد الوقت لاستثني ركعتي الفجر والفرض، كما ورد استثناء ذلك في ما نهي عنه، حيث قال‏:‏ ‏(‏لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين‏)‏، فلما لم يذكر ذلك في الأحاديث، علم أنه أراد فعل الصلاة كما جاء مفسراً في أحاديث صحيحة، ولأنه يمتنع أن تكون أوقات الصلاة المكتوبة فرضها وسنتها وقت نهي، وما بعد الفجر وقت صلاة الفجر سنتها وفرضها، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إن هذا وقت نهي‏؟‏ وهل يكون وقت نهي سن فيه الصلاة دائماً بلا سبب‏؟‏ وأمر بتحري الصلاة فيه‏؟‏ هذا تناقض مع أن هذا الوقت جعل وقتاً للصلاة إلى طلوع الشمس، ليس كوقت العصر الذي جعل آخر الوقت فيه إذا اصفرت الشمس‏.‏
والنهي هو لأن الكفار يسجدون لها، وهذا لا يكون من طلوع الفجر، ولهذا كان الأصل في النهي عند الطلوع والغروب، كما في حديث ابن عمر، لكن نهي عن الصلاة بعد الصلاتين سداً للذريعة فإن المتطوع قد يصلي بعدهما حتى يصلي وقت الطلوع والغروب‏.‏ والنهي في هذين أخف؛ ولهذا كان يداوم على الركعتين بعد العصر، حتى قبضه اللّه‏.‏ فأما قبل صلاة الفجر، فلا وجه للنهي، لكن لا يسن ذلك الوقت إلا الفجر سنتها وفرضها‏.‏
ولهـذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل، ويوتر، ثم إذا طلع الفجر صلى الركعتين، ثم صلى الفرض، وكان يضطجع أحيانًا / ليستريح، إما بعد الوتر، وإما بعد ركعتي الفجر، وكـان إذا غلبه مـن الليـل نوم أو وجـع صلى مـن النهار اثنتي عـشرة ركعـة بـدل قيامـه مـن الليـل، ولم يكـن يقضي ذلك قبـل صـلاة الفجـر؛ لأنـه لم يكـن يتسع لذلك، فإن هـذه الصـلاة فيها طـول، وكان يغلس بالفجـر‏.‏ وفي الصحيـح‏:‏ ‏(‏مـن نام عن حزبه فقرأه مـا بين صـلاة الفجـر وصـلاة الظهر،كتب لـه كأنما قرأه من الليل‏)‏‏.‏ومعلوم أنه لو أمكن قراءة شيء منـه قبل صـلاة الفجـر،كـان أبلغ، لكن إذا قرأه قبل الزوال، كتب له كأنما قرأه من الليل، فـإن هذا الوقت تابع لليلة الماضية، ولهذا يقال فيما قبل الزوال‏:‏ فعلناه الليلـة‏.‏ ويقال بعـد الزوال‏:‏ فعلناه البارحة، وهو وقت الضحي، وهو خلف عن قيام الليل‏.‏
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام عن قيامه قضاه من الضحي، فيصلي اثنتي عشرة ركعة‏.‏ وقد جاء هذا عن عمر وغيره من الصحابة في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏62‏]‏‏.‏ فما بعد طلوع الفجر إنما سن للمسلمين السنة الراتبة، وفرضها الفجر، وما سوي ذلك لم يسن، ولم يكن منهيًا عنه إذا لم يتخذ سنة، كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة‏)‏، ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏(‏لمن شاء‏)‏، كراهية أن يتخذها الناس سنة‏.‏
/فهذا فيه إباحة الصلاة بين كل أذانين، كما كان الصحابة يصلون ركعتين بين أذاني المغرب، والنبي صلى الله عليه وسلم يراهم ويقرهم على ذلك، فكذلك الصلاة بين أذاني العصر والعشاء، وكذلك بين أذاني الفجر والظهر، لكن بين أذاني الفجر الركعتان سنة بلا ريب، وما سواها يفعل ولا يتخذ سنة، فلا يدوام عليه، ويؤمر به جميع المسلمين، كما هو حال السنة، فإن السنة تعم المسلمين ويداوم عليها، كما أنهم كلهم مسنون لهم ركعتا الفجر، والمداومة عليها‏.‏
فإذا قيل‏:‏ لا سنة بعد طلوع الفجر إلا ركعتان، فهذا صحيح، وأما النهي العام فلا‏.‏ والإنسان قد لا يقوم من الليل فيريد أن يصلي في هذا الوقت، وقد استحب السلف له قضاء وتره، بل وقيامه من الليل في هذا الوقت، وذلك عندهم خير من أن يؤخره إلى الضحي‏.