حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
 

بسم الله الرحمن الرحيم

حياة شيخ الإسلام ابن تيمية

هو إمام عملاق ، وجهبذ قدير في هذا الدين

وهو مجدد من المجددين ، وزاهد من الزاهدين ، وعابد من العابدين ، وعالم من العاملين بعلمهم

هو

ابن تيمية

اسمه : أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ، ولد سنة 666 هـ ، وتوفي سنة 728هـ ، ولكن قبل أن نبدأ في ترجمة الرجل ، لا بد أن أبين لكم عناصر لا بد أن تعرفوها:

العلماء هم الدعاة ، والدعاة هم العلماء ، فلا دعوة إلا بعلم ،ولا علم إلا بدعوة

قال الله تعالى لائما بني إسرائيل ، لما توقف علماؤهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ـ المائدة:63 ـ ويقول سبحانه وتعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ـ آل عمران: من الآية 187 ـ

العلم الذي لا ينشر بين الناس ،ولا ينفق منه كنز مشؤوم على صاحبه

يقول الأندلسي أبو إسحاق يوصي ابنه لطلب العلم ،ويمدح العلم :

هو العضب المهند ليس ينبــــو *** تصيب به مضارب من ضربت وكنز لا تخاف عليه لصــــا *** خفيف الحمل يوجد حيث كنـت يزيد بكثرة الإنفاق منـــه *** وينقص إن به كفا شــددت

ولتهاون العلماء بالدعوة هزمت الأمة

فما تأخرت أمة الإسلام ، ولا انهزمت أمة الإسلام إلا بسبب نكوص العلماء عن إبلاغ دعوة الله ،وعدم جلوسهم مع الأمة

يقول الله تعالى : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ـ 175 ـ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ـ لأعراف:175- 176 ـ

معنى الآية : أن مثل هذا العالم الذي ما نفع نفسه ، ولا نفع الأمة مثل الكلب ، فالكلب تجعله في الشمس أو في الظل فهو يمد لسانه أبدا

* نشأة ابن تيمية :

ولد في بيت ملتزم ؛ بيت متقي ، بيت عابد زاهد ، يريد وجه الله ، والدار الآخرة

ومنذ كان عمره ثمانية سنوات ، كان يمرغ وجهه في التراب مع الفجر ويقول : ـ يا معلم إبراهيم علمني،ويا مفهم سليمان فهمني ـ

فعلمه معلم إبراهيم ، وفهمه مفهم سليمان ،وأعطاه علما لا كالعلوم ،وأعطاه فهما لا كالإفهام

علم وفهم اخترق بهما ما يقارب سبعة قرون ، حتى أصبح مجددا لمئات السنون ،حتى يقول مستشرق فرنسي يترجم لأبن تيمية : ـ ابن تيمية وضع ألغاما في الأرض ، فجر بعضها ابن عبد الوهاب وبقي بعضها لم يفجر ـ

* مؤهلاته :

أما مؤهلاته في مجال الدعوة فهي خمس مؤهلات :

1- الإخلاص ، والتجرد ،والنصيحة ،وقصد وجه الله عز وجل ، فهو يريد الدار الآخرة ، ويريد ما عند الله ، وهو دائما وأبدا ينصح غيره بأنه ينبغي الاعتناء بقوله صلى الله عليه وسلم :

ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم ، إخلاص العمل لوجه الله ، ومناصحة ولاة الأمور ،ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيد من وراءهم

ويقول ابن تيمية : بعض الناس يتعصب لهوى ، أو مذهب ،أو طائفة ، أو حزب ،فيجعلها هي المقصود بالدعوة ،وهذا خطأ بين ، أن المقصود بالدعوة ، هو : الله سبحانه وتعالى ، وليس الحزب ،وليست الطائفة، وليست الفرقة ، وليس الرأي الذي يدعو إليه

ويقول أيضاً من أراد المنصب فليعلم انه لا يحصل على منصب أعلى من فرعون ،ولكن أين فرعون ؟ انه يعرض على النار غدوا وعشيا

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ـ غافر: من الآية 46 ـ

وإن كنت تريد المال ، فاعلم أن قارون حصل على مال كثير ، لا تحصل عليه أنت ، خسف به الله الأرض، فماذا نفعل ؟ قال : فعليك بإخلاص العمل لوجه الله، فإن وجهه هو الباقي وما سواه فإني

2- من مؤهلات ابن تيمية : العمل بعلمه ، وتقواه لربه تبارك وتعالى ، فعلم ليس فيه عمل ، وليس فيه خشية ، وليس فيه امتثال ، إنما هو معلومات مجردة يحفظها الإنسان في ذهنه ، ولا تنفعه أبدا ، ولا تقربه من الله سبحانه وتعالى

فأما عمله – أي :ابن تيمية – بعلمه فله جوانب :

الأول : الزهد ،فقد كان منقطع النظير في الزهد ، فما تولى منصبا في حياته على الإطلاق

وكان له ثوب ابيض دائم ، وله عمامة بيضاء ،وكان ربما يرتدي في البرد ثوبين

يقال : مر في سكة من سكك دمشق ، فمر به سائل يسأله فبحث في جيوبه ، فلم يجد شيئا من الدراهم،ولا الدنانير، فاختفى وراء سور هناك ثم خلع ثوبه الأعلى وأعطاه المسكين!!

يقول صاحب

الأعلام العلية : تأتيه الدنيا ؛ الذهب والفضة والخيول والحواري ، إلى غير ذلك ،فينفقها في ساعتها ،ولا يدخل ولو درهما عنده

الثاني : في الشجاعة : فقد وقف مع سلطان المغول ، لما دخل دمشق ، وحدثه بقوة وجرأة منقطعة النظير

ولما دخل التتار بلاد المسلمين ،جمع الناس ، وقام وسل سيفه

وقال : أيها الناس ،افطروا هذا اليوم – ليتقووا على القتال – ثم تناول كوبا من الماء ، فأفطر أمام الناس ، فأفطروا ، ثم قال للسلطان : عليك أن تنزل الجيش من الثكنات للقتال ، فأنزل السلطان الجيش ، وبدأت المعركة ،وشيخ الإسلام في المقدمة

وكان يقول : والله ، لننتصر في هذا اليوم ، فيقول تلاميذه له : قل إن شاء الله

قال : تحقيقا لا تعليقاً

أما مؤهلاته في عالم الأخلاق ، فان الله قد آتاه الخلق الحسن ، لولا الحدة التي تعريه ، والحدة في الرجل لقوته ،حتى يقول شاعر اليمن يمدح شيخ الإسلام

وقاد ذهن إذا سالت قريحتـــه *** يكاد يخشى عليه من تلهبه

وقد كان عنده من الصبر الشيء العجيب

يقول ابن القيم : مات أحد أعدائه من العلماء فأتيت أبشره

قال : فاحمر وجهه ودمعت عيناه ،وقال : تبشرني بموت مسلم ، ثم قام فقمنا معه ، حتى ذهب إلى بيت خصمه ،فعزى أهله ودعا لميتهم ، فبكى أهل بيته، وتأثروا من هذا الموقف ، بالأمس كان أبوهم ألد الأعداء لابن تيمية ، واليوم يقول ابن تيمية هذه الكلمات الطيبة

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ـ فصلت: من الآية34 ـ

3- المؤهل الثالث لابن تيمية في مجال دعوته : اعتصامه بالكتاب والسنة ، ومن ضمن أقواله : وعلى طالب العلم : أن يعتصم بدليل في كل مسالة ، وان يترك كل دليل ،أو كل رأي يخالف ما فهمه من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فإنه المعصوم

ولما اعتصم بالكتاب والسنة ، رزقه الله سبحانه وتعالى تمييزا وذكاء وفهما

ويقول : أهل السنة والجماعة وسط في الأسماء والصفات ، ووسط في الوعد والوعيد ، ووسط في الإيمان ، ووسط في القدر ، ووسط في الأمر بالمعروف ،ووسط في الفقه

4- العامل الرابع من عوامل مؤهلاته في عالم الدعوة : صدق اللجوء وقوة التوكل

فقد كان يذكر الله بعد صلاة الفجر دائما ، هذا غذاؤه

ويقول: لو لم أذكر الله لخارت قواي

ويقول لابن القيم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة

ويقول : إنها لتصعب على المسالة، فاستغفر الله ألف مرة،أو اقل أو أكثر ، فيفتحها الله علي

ولذلك أورد عنه ابن القيم في

مدارج السالكين انه أن يقول : يا حي يا قيوم ،لا إله إلا أنت برحمتك ،أستغيث أربعين مرة ،أو أكثر أو اقل

وذكر عنه الذهبي : أن عيناه كانت كأنها لسانان ناطقان من كثرة الذكر

وقال الذهبي عنه : لو حلفت بين الركن والمقام إني ما رأيت كابن تيمية لصدقت ، ولو حلفت من الركن والمقام انه ما رأى مثل نفسه لصدقت

وقال له تلاميذه : نراك ما يفتر لسانك من ذكر الله

قال : قلبي كالسمكة ، إذا خرجت من الماء ماتت ، وقلبي إذا تركته من الذكر مات ! ويقول ابن القيم عنه : رأيته في السجن ،وهو ساجد يبكي ،ويقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك

يرددها طويلا

وأما صلاته ، فكان يصلي في بعض الأحيان بالناس في مسجد بني أمية في دمشق ، فكان إذا قال : ـ الله أكبر ـ رفع صوته حتى سمعه من في الطرقات ، فتكاد تنخلع القلوب إذا كبر

ويروي ابن القيم في ـ روضة المحبين ـ ، عن تقي الدين بن شقير ،انه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية صلى صلاة العصر في مسجد بني أمية ، ثم خرج إلى الصحراء وحده ، قال تقي الدين بن شقير وكان من تلاميذه : فخرجت وراءه ، حيث أراه ، ولا يراني ، فلما توسط الصحراء رفع طرفه إلى السماء وقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، ثم بكى ثم قال :

وأخرج من بين البيوت لعلنــــي *** أحدث عنك النفس بالسر خاليا

ولذلك يقول ابن رجب :أن من الأسباب التي حمته ومنعته من كيد الأعداء : كثرة الذكر والأوراد ؛ التي ما كان يخل بها

5- العامل الخامس : من مؤهلات ابن تيمية ، رحمه الله ، في مجال دعوته معرفته الواسعة بحال عصره وواقع أمته

فبعض الناس يعيش في هذا العصر ، وكأنه يعيش في القرآن الثالث ، ولكن ابن تيمية يعيش في القرن السابع ، ويعرف مشاكله ،ومتطلباته ، وماذا يريد منه أنباء العصر ، ولذلك عرف الكتاب ولسنة ،وعرف هذا الدين ثم أتى يتكلم بهما للناس بما يحتاجه العصر

ولذلك كتبه تدل على هذا ،ويأتي على رأسها كتاب

اقتضاء الصراط المستقيم ، الذي سماه محمد حامد الفقي ـ القنبلة الذرية ـ !! فهذا الكتاب ألفه ليواجه به الجاهلية التي كانت في عصره

فمعرفته لواقعه ، وحال عصره ،أفاده بان يضع الدواء على الداء فنفعه الله في ذلك ، وقد حل كثيرا من مشكلات عصره ، وصحح كثيرا من الأخطاء التي عاشها في عصره ، وعالج كثيرا من الأمراض التي رآها في عصره، رحمه الله رحمة واسعة

*وسائل دعوة ابن تيمية

هي وسيلتان :

الوسيلة الأولى : التأليف وهي على ثلاث نواحي : الرسائل

الردود

والمصنفات الكبار

فالرسائل ؛ كأن يسأل عن قضية ، فيجيب عليها رحمه الله ـ الكحموية ـ لأهل حماه ، ـ والوسطية ـ لأهل واسط ، ـ والتدمرية ـ لأهل تدمر ، فيرسل الرسائل إلى الناس ينفعهم بها ، ويفيدهم ، ويقودهم إلى الله عز وجل

أما الردود ؛ كان دائما يرد الفكر والشبه التي تؤثر في أصول الدين ككتاب 0 ـ الصارم المسلول ـ ، وسببه : أنه سمع نصرانيا يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذهب إلى السلطان فشكى النصراني

فأتى العوام ، فقالوا :الحق مع النصراني ، والخطأ على ابن تيمية !! فجلده السلطان في المجلس !! ولكن :

إن كان سركم ما قال حاسدنـــا *** فما لجرح إذا أرضاكم ألم

فما دام أن الجلد في سبيل الله، فأهلا به وسهلا ، فخرج غاضبا من المجلس وكتب : ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ـ فأبدع في هذا الكتاب

ورد فيه على اليهود والنصارى

ومن الردود :

الرد على الأخنائي ، رد عليه في

مسالة الزيارة ورد على السبكي في

مسالة الزيارة

ومن الردود :

منهاج السنة ، رد فيه على الشيعة الرافضة

أما المصنفات الكبار : فككتاب ـ درء تعارض العقل والنقل ـ ، وهذا الكتاب من يقرؤه فهو من أذكياء العالم ! يقول ابن القيم : ما طرق العالم مثل هذا الكتاب

الوسيلة الثانية :

اللقاء مع الناس ، فقد التقى مع العلماء ،والتقى مع السلاطين ،والتقى مع عامة الناس

فأما العلماء : فكان يلتقي معهم ، ويناظرهم ، ويباحثهم ، وهذا مستفيض من سيرته

والتقى مع سلطان الشام ، وسلطان التتار وغيرهم

وأما العوام : ففي دروسه في المساجد ، وفي الفتاوى ، التي ترده منهم

********************

1- وقوف السلاطين مع خصومه

2- جرأته وحدته التي خسر بها كثيرا ممن كادوا أن يناصروه

3- خطورة القضايا التي عالجها ، فقد تكلم كثيرا في الأصول

4- كثرة الخصوم وتعدد الجبهات التي واجهها ـ الشيعة ، الأشاعرة ،اليهود والنصارى ، الصوفية ، المقلدة ، السلاطين إلخ ـ

5- الحبس والسجن ، ولكنه ما ازداد به إلا قوة وصلابة

6- الجلد والتشهير ، فقد جلد ، وشهر به ، وتكلم في عرضه في كل مجلس

ولكن في الختام ، كان نجاح منقطع النظير يحققه ابن تيمية في عالم الدعوة ، وينتهي إلى أن يعقد الإجماع من قلوب الموحدين من الأمة على انه هو رجل الساعة في فترته

وتحيا كتبه قرونا طويلة تحيي قلوب المجتهدين والعاملين للإسلام ليرتفعوا رفعته

والله اعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آهل وأصحابه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين

سيماهم في وجوهم للدكتورعائض بن عبد الله القرني