سئل: عن أهل المذاهب الأربعة‏:‏ هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض أم لا‏؟‏
 
وسئل ـ عن أهل المذاهب الأربعة‏:‏ هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض أم لا‏؟‏ وهل قال أحد مـن السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض‏؟‏ ومن قال ذلك، فهل هو مبتدع أم لا‏؟‏ وإذا فعل الإمام ما يعتقد / أن صلاته معه صحيحة، والمأموم يعتقد خلاف ذلك‏.‏ مثل أن يكون الإمام تقيأ، أو رعف، أو احتجم، أو مس ذكره، أو مس النساء بشهوة أو بغير شهوة، أو قهقه في صلاته، أو أكل لحم الإبل، وصلى ولم يتوضأ، والمأموم يعتقد وجوب الوضوء من ذلك، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة، أو لم يتشهد التشهد الآخر، أو لم يسلم من الصلاة، والمأموم يعتقد وجوب ذلك، فهل تصح صلاة المأموم والحال هذه‏؟‏ وإذا شرط في إمام المسجد أن يكون على مذهب معين، فكان غيره أعلم بالقرآن والسنة منه وولي‏:‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ وهل تصح الصلاة خلفه أم لا ‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه‏.‏ نعم، تجوز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من الأئمة الأربعة يصلي بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها‏.‏ ولم يقل أحد من السلف‏:‏ إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض‏.‏ ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمتها‏.‏
وقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم‏:‏ منهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرأها‏.‏ ومنهم من يجهر بها، ومنهم من لا يجهر بها‏.‏ وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت‏.‏ ومنهم / من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك‏.‏ ومنهم من يتوضأ من مس الذكر، ومس النساء بشهوة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك‏.‏ ومنهم من يتوضأ من القهقهة في صلاته، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك‏.‏ ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك‏.‏ ومع هذا، فكان بعضهم يصلي خلف بعض‏:‏
مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً‏.‏ وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم‏.‏ وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد‏.‏
وكـان أحمـد بن حنبـل يري الوضوء مـن الحجامة والرعاف، فقيل له‏:‏ فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، تصلى خلفه‏؟‏ فقال‏:‏ كيف لا أصلى خلف سعيد بن المسيب، ومالك‏.‏
وبالجملة، فهذه المسائل لها صورتان‏:‏
إحداهما‏:‏ ألا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل الصلاة، فهنا يصلي المأموم خلفه باتفاق السلف، والأئمة الأربعة، وغيرهم‏.‏ وليس في هذا خلاف متقدم، وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين، فزعم / أن الصلاة خلف الحنفي لا تصح، وإن أتي بالواجبات؛ لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها، وقائل هذا القول إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع، أحوج منه إلى أن يعتقد بخلافه‏.‏ فإنه ما زال المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه يصلي بعضهم ببعض‏.‏ وأكثر الأئمة لا يميزون بين المفروض والمسنون، بل يصلون الصلاة الشرعية‏.‏ ولو كان العلم بهذا واجباً لبطلت صلوات أكثر المسلمين، ولم يمكن الاحتياط‏.‏ فإن كثيراً من ذلك فيه نزاع، وأدلة ذلك خفية، وأكثر ما يمكن المتدين أن يحتاط من الخلاف، وهو لا يجزم بأحد القولين‏.‏ فإن كان الجزم بأحدهما واجباً فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك، وهذا القائل نفسه ليس معه إلا تقليد بعض الفقهاء، ولو طولب بأدلة شرعية تدل على صحة قول إمامه دون غيره لعجز عن ذلك؛ ولهذا لا يعتد بخلاف مثل هذا، فإنه ليس من أهل الاجتهاد‏.‏
الصورة الثانية‏:‏ أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده‏:‏ مثل أن يمس ذكره، أو النساء لشهوة، أو يحتجم، أو يفتصد، أو يتقيأ‏.‏ ثم يصلي بلا وضوء، فهذه الصورة فيها نزاع مشهور‏.‏
فأحد القولين لا تصح صلاة المأموم؛ لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه، كما قال ذلك من قاله من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏
/والقول الثاني‏:‏ تصح صلاة المأموم؛ وهو قول جمهور السلف، وهو مذهب مالك، وهو القول الآخر في مذهب الشافعي، وأحمد، بل وأبي حنيفة وأكثر نصوص أحمد على هذا‏.‏ وهذا هو الصواب؛ لما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يصلون لكم فإن أصابوا، فلكم ولهم، وإن أخطؤوا، فلكم وعليهم‏)‏‏.‏ فقد بين صلى الله عليه وسلم أن خطأ الإمام لا يتعدي إلى المأموم، ولان المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل، فإنه مجتهد أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر اللّه له خطأه، فهو يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يعدها، بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه، بل كان ينفذه‏.‏ وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده، فلا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها، والمأموم قد فعل ما وجب عليه كانت صلاة كل منهما صحيحة، وكان كل منهما قد أدي ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة‏.‏
وقول القائل‏:‏ إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام،خطأ منه، فإن المأموم يعتقد أن الإمام فعل ما وجب عليه، وأن اللّه قد غفر له ما أخطأ فيه، وألا تبطل صلاته لأجل ذلك‏.‏
ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلم الإمام خطأ، واعتقد المأموم جواز / متابعته فسلم، كما سلم المسلمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من اثنتين سهواً، مع علمهم بأنه إنما صلى ركعتين، وكما لو صلى خمسا سهواً
فصلوا خلفه خمسا، كما صلى الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم خمسا، فتابعوه، مع علمهم بأنه صلى خمسا؛ لاعتقادهم جواز ذلك، فإنه تصح صلاة المأموم في هذه الحال، فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده‏.‏ وقد اتفقوا كلهم على أن الإمام لو سلم خطأ، لم تبطل صلاة المأموم، إذا لم يتابعه، ولو صلى خمسا لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، فدل ذلك على أن ما فعله الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏