فصل: في الكلام على الأحاديث في زيارة قبر النبي
 
فصل
وأما الحديث المذكور في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضعيف، وليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث حسن ولا صحيح، ولا روي أهل السنن المعروفة، كسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، ولا أهل المسانيد المعروفة، كمسند أحمد،/ ونحوه، ولا أهل المصنفات كموطأ مالك وغيره في ذلك شيئـًا، بل عامة ما يروى في ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة‏.‏ كما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على الله الجنة‏)‏ وهذا حديث موضوع، كذب باتفاق أهل العلم‏.‏
وكذلك ما يروي أنه قال‏:‏ ‏(‏من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي ضمنت له على الله الجنة‏)‏ ليس لشيء من ذلك أصل، وإنما كان قد روي بعض ذلك الدارقطني، والبزار في مسنده، فمدار ذلك على عبد الله بن عمر العمري‏.‏ أو من هو أضعف منه، ممن لا يجوز أن يثبت بروايته حكم شرعي‏.‏
وإنما اعتمد الأئمة في ذلك على ما رواه أبو داود في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحي، حتى أرد عليه السلام‏)‏‏.‏ وكما في سنن النسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله وكل بقبري ملائكة تبلغني عن أمتي السلام‏)‏‏.‏ فالصلاة والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله، فلهذا استحب ذلك العلماء‏.‏
ومما يبين ذلك أن مالكا ـ رحمـه الله ـ كره أن يقول الرجل‏:‏ / زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومالك قد أدرك الناس من التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة‏.‏ فدل ذلك على أنه لم تكن تعرف عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كره من كره من الأئمة أن يقف مستقبل القبر يدعو، بل وكره مالك وغيره أن يقوم للدعاء لنفسه هناك، وذكر أن هذا لم يكن من عمل الصحابة والتابعين، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏.‏
وقد ذكروا في أسباب كراهته، أن يقول‏:‏ زرت قبر النبي؛ لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهي قصد الميت لسؤاله، ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا، وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة، فكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معني فاسد، بخلاف الصلاة عليه والسلام‏.‏ فإن ذلك مما أمر الله به‏.‏
أما لفظ الزيارة في عموم القبور، فقد لا يفهم منها مثل هذا المعنى‏.‏ ألا تري إلى قوله‏:‏ ‏(‏فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة‏)‏ مع زيارته لقبر أمه‏؟‏ فإن هذا يتناول زيارة قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله، والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين؛/ كالأنبياء، والصالحين‏.‏ فإنه كثيرًا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية والشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا‏.‏ وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة‏.‏
فلا يمكن أحد أن يروي بإسناد ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه شيئا في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل الثابت عنه في الصحيحين يناقض المعنى الفاسد الذي ترويه الجهال بهذا اللفظ‏.‏ كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم‏)‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏ يحذر ما فعلوا‏.‏ قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد‏)‏‏.‏ وأشباه هذه الأحاديث التي في الصحاح، والسنن، والكتب المعتمدة‏.‏
فكيف يعدل من له علم وإيمان عن موجب هذه النصوص الثابتة باتفاق أهل الحديث، إلى ما يناقض معناها من الأحاديث التي لم يثبت منها شيئـًا أحد من أهل العلم‏.‏ والله ـ سبحانه ـ أعلم، وصلى الله على محمد‏.‏
/