فصل: في الحج عن الميت
 
وَقَــالَ ـ رَحِمهُ الله‏:‏
فصل
في الحج عن الميت، أو المعضوب بمال يأخذه إما نفقة، فإنه جائز بالاتفاق، أو بالإجارة أو بالجعالة على نزاع بين الفقهاء في ذلك، سواء كان المال المحجوج به موصي به لمعين، أو عينًا مطلقًا، أو مبذولًا، أو مخرجًا من صلب التركة‏.‏ فمن أصحاب الشافعي من استحب ذلك، وقال‏:‏ هو من أطيب المكاسب؛ لأنه يعمل صالحًا ويأكل طيبًا‏.‏ والمنصوص عن أحمد أنه قال‏:‏ لا أعرف في السلف من كان يعمل هذا، وعَدَّه بدعة، وكرهه‏.‏ ولفظ نصه مكتوب في غير هذا الموضع‏.‏ ولم يكره إلا الإجارة والجعالة‏.‏
قلت‏:‏ حقيقة الأمر في ذلك‏:‏ أن الحاج يستحب له ذلك إذا كان مقصوده أحد شيئين‏:‏ الإحسان إلى المحجوج عنه، أو نفس /الحج لنفسه‏.‏
وذلك أن الحج عن الميت إن كان فرضًا فذمته متعلقة به، فالحج عنه إحسان إليهبابراء ذمته، بمنزلة قضاء دينه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية‏:‏ ‏(‏أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزي عنه‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏فالله أحق بالقضاء‏)‏، وكذلك ذكر هذا المعني في عدة أحاديث، بين أن الله لرحمته وكرمه أحق بأن يقبل قضاء الدين عمن قضي عنه، فإذا كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا، فهذا محسن إليه، والله يحب المحسنين، فيكون مستحبًا، وهذا غالبًا إنما يكون لسبب يبعثه على الإحسان إليه، مثل رحم بينهما، أومودة وصداقة، أو إحسان له عليه يجزيه به، ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه، وعلامة ذلك أن يطلب مقدار كفاية حجه، ولهذا جوزنا نفقة الحج بلا نزاع‏.‏ وكذلك لو وصى بحجة مستحبة، وأحب إيصال ثوابها إليه‏.‏
والموضع الثاني‏:‏ إذا كان الرجل مؤثرًا أن يحج محبة للحج وشوقًا إلى المشاعر، وهو عاجز فيستعين بالمال المحجوج به على الحج، وهذا قد يعطي المال ليحج به لا عن أحد، كما يعطي المجاهد المال ليغزو به، فلا شبهة فيه، فيكون لهذا أجر الحج ببدنه، ولهذا أجر الحج بماله، كما في الجهاد فإنه من جهز غازيا فقد غزا، وقد يعطي /المال ليحج به عن غيره، فيكون مقصود المعطي الحج عن المعطي عنه‏.‏ ومقصود الحاج ما يحصل له من الأجر بنفس الحج لا بنفس الإحسان إلى الغير‏.‏
وهذا يتوجه على أصل أبي حنيفة حيث قال‏:‏ الحج يقع عن الحاج، وللمعطي أجر الإنفاق، كالجهاد‏.‏ وعلى أصلنا فإن المصلي والصائم والمتصدق عن الغير والحاج عن الغير له قصد صالح في ذلك العمل، وقصد صالح في عمله عن الغير‏.‏ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال‏:‏ ‏(‏الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملًا موفرًا طيبة به نفسه أحد المتصدقين‏)‏، فجعل للوكيل مثل الموكل في الصدقة، وهو نائب، وقال‏:‏ ‏(‏إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، وللزوج أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك‏)‏ ، فكذلك النائب في الحج، وسائر ما يقبل النيابة من الأعمال له أجر، وللمستنيب أجر‏.‏
وهذا أيضًا إنما يأخذ ما ينفقه في الحج كما لا يأخذ إلا ما ينفقه في الغزو، فهاتان صورتان مستحبتان، وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويرد الفضل، وأما إذا كان قصده الاكتساب بذلك، وهو أن يستفضل مالا، فهذا صورة الإجارة والجعالة، والصواب أن هذا لا يستحب، وإن قيل بجوازه؛ لأن العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح في نفسه، إذا لم يقصد /به إلا المال، فيكون من نوع المباحات‏.‏ ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق‏.‏
ونحن إذا جوزنا الإجارة والجعالة على أعمال البر التي يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب لم نجعلها في هذه الحال إلا بمنزلة المباحات، لا نجعلها من ‏[‏باب القرب‏]‏ ، فإن الأقسام الثلاثة‏:‏ إما أن يعاقب على العمل بهذه النية، أو يثاب، أو لا يثاب ولا يعاقب‏.‏
وكذلك المال المأخوذ‏:‏ إما منهي عنه، وإما مستحب، وإما مباح فهذا هذا والله أعلم‏.‏ لكن قد رجحت الإجارة على‏.‏‏.‏‏.‏ إذا كان محتاجًا إلى ذلك المال للنفقة ومدة الحج، وللنفقة بعد رجوعه أوقضاء دينه، فيقصد إقامة النفقة وقضاء الدين الواجب عليه فهنا تصير الأقسام ثلاثة‏:‏ إما أن يقصد الحج والإحسان فقط، أو يقصد النفقة المشروعة له فقط، أو يقصد كلاهما، فمتي قصد الأول فهو حسن، وإن قصدهما معا فهو حسن إن شاء الله؛ لأنهما مقصودان صالحان، وأما إن لم يقصد إلا الكسب لنفقته فهذا فيه نظر‏.‏ والمسألة مشروحة في مواضع‏.‏