فصل: الدليل أن النبي أمر أصحابه بالمتعة
 
/فصل
والدليل على أنه قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم/‏:‏ أنه أمر أصحابه في حجة الوداع ـ لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ـ أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه، حتي يبلغ الهدي محله‏.‏
ولهذا لما قال سلمة بن شَبِيب لأحمد‏:‏ يا أبا عبد اللّه، قويت قلوب الرافضة، لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة‏.‏ فقال‏:‏ ياسلمة، كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدافع عنك، والآن فقد تبين لي أنك أحمق، عندي أحد عشر حديثا صحيحًا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أدعها لقولك‏؟‏‏!‏ فبين أحمد أن الأحاديث متواترة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمتع لجميع أصحابه، الذين لم يسوقوا الهدي، حتي من كان منهم مفردًا، أو قارنًا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول، بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم‏.‏
ولهذا كان فسخ الحج إلى التمتع مستحبًا عند أحمد، ولم يجعل اختلاف العلماء في جواز الفسخ موجبًا للاحتياط بترك الفسخ، فإن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإذا تبينت السنة فاتباعها أولي‏.‏وإن كان بعض العلماء قد قال‏:‏ إنه لا يجوز ذلك، لا سيما وآخرون من السلف والخلف قد أوجبوا الفسخ فليس الاحتياط بالخروج من خلاف أولئك بأولي من الخروج من خلاف هؤلاء‏.‏
/والذين منعوا الفسخ، أو المتعة مطلقًا، قالوا‏:‏ كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلمخاصة‏.‏ قالوا‏:‏ لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج‏.‏ ويقولون‏:‏ إذ بَرَأ الدَّبَر، وعَفَا الأثَر، وانسلخ صَفَر، فقد حَلَّت العمرة لمن اعتمر‏.‏ قالوا‏:‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعمرة؛ ليبين جواز العمرة في أشهر الحج‏.‏ وهذا القول خطأ عند أحمد وغيره لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد اعتمر قبل ذلك عمره الثلاثة في أشهر الحج، فاعتمر عمرته الأولي عمرة الحديبية في ذي القعدة، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة، واعتمر من الجِعْرَانة في ذي القعدة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن عائشة قيل لها‏:‏ إن ابن عمر يقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، فقالت‏:‏ يغفر اللّه لأبي عبد الرحمن ‏!‏ ما اعتمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رجب قط، وما اعتمر إلا وابن عمر معه‏.‏ وقد اتفق أهل العلم على ما قالت عائشة‏:‏ بأن عمره كلها كانت في ذي القعدة، وهو أوسط أشهر الحج‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إن الصحابة لم يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج حتي أمرهم بالفسخ، وقد فعلها قبل ذلك ثلاث مرات ‏؟‏‏!‏
الوجه الثاني‏:‏ أنه قد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنه قال لهم عند الميقات‏:‏ ‏(‏من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل‏)‏‏.‏ فبين لهم جواز /الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات، وعامة المسلمين معه، فكيف لم يعلموا ذلك‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأمر من ساق الهدي أن يتم على إحرامه حتي يبلغ الهدي محله، ففرق بين محرم ومحرم، فهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحل لإحرامه الأول‏.‏ وما ذكره يشترك فيه السائق‏.‏‏.‏ أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، قال‏:‏ فقام النبي صلى الله عليه وسلم فينا فقال‏:‏ ‏(‏قد علمتم أني أتقاكم للّه، وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا‏)‏‏.‏ فحللنا، وسمعنا، وأطعنا‏.‏ فقدم على من سعايته، فقال‏:‏ ‏(‏بما أهللت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بما أهل به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقـال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فاهد وامكث حرامًا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وأهدي على له هديا، فقال سراقة بن مالك بن جُعْشُم‏:‏ لعامنا هذا أم للأبد‏؟‏ فقال‏:‏‏(‏بل للأبد‏)‏‏.‏ وفي رواية البخاري‏:‏ وأن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وهويرميها، فقال جعشم‏:‏ ألكم هذه خاصة يارسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا بل للأبد‏)‏‏.‏
فبين أن تلك العمرة التي فَسَخ من فَسَخ منها حجه إليها للأبد،/ وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة، وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج، ولم يرد السائل بقوله‏:‏ عمرتنا هذه لعامنا هذا، أم للأبد‏؟‏ أنه يسقط الفرض بها في عامنا هذا؛ لأن العمرة إن كانت واجبة فلا تجب إلا مرة واحدة، ولأنه لو أراد ذلك لم يقل بل للأبد، فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة، بل إنما يكون لجميع المسلمين، ولا قال‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏
فإن قيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج‏)‏ أراد به جواز العمرة في أشهر الحج‏؟‏
قيل‏:‏ نعم‏.‏ ومن ذلك عمرة الفاسخ، فإنها سبب هذا اللفظ، وسبب اللفظ العام لا يجوز إخراجه منه، فعلم أن قوله‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج‏)‏ يتناول عمرة الفاسخ، وأنها دخلت في الحج إلى يوم القيامة‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ فسخ الحج إلى التمتع موافق لقياس الأصول لا مخالف له، فإن المحرم إذا التزم أكبر ما لزمه جاز باتفاق الأئمة فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز بلا نزاع، وأما إذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يجز عند الجمهور وهو مذهب أحمد ومالك، وظاهر مذهب الشافعي‏.‏ وأما أبو حنيفة فيجوزه؛ لأنه يصير قارنًا، والقارن عنده يلزمه طوافان، وسعيان، وهذا قياس الرواية المحكية عن أحمد في القارن‏.‏
/وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلزمه إلا الحج، فإذا صار متمتعًا صار ملتزمًا لعمرة وحج، فكان ما التزمه بالفسخ أكبر مما كان عليه، فجاز ذلك، وهو أفضل، فاستحب ذلك، وإنما يشكل هذا على من يظن أنه فسخ حجًا إلى عمرة مجردة، وليس كذلك، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى العمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخ جائز لمن كان نيته أن يحج بعد العمرة‏.‏
وقد قدمنا أن المتمتع من حين يحرم بالعمرة دخل في الحج، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج‏)‏؛ ولهذا يجوز أن يصوم الأيام الثلاثة من حينئذ، وإنما إحرامه بالحج بعد ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلمإذا اغتسل للجنابة بدأ بالوضوء،وكما قـال للنسوة في غسل ابنته‏:‏ ‏(‏ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها‏)‏‏.‏ فكان غسل مواضع الوضوء توضية، وهو بعض الغسل‏.‏
فإن قيل‏:‏ دم المتمتع دم جُبْران، ونُسُك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور‏.‏ قيل‏:‏ هذا لا يصح لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من هديه فإنه أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكل من لحمها، وشرب من مرقها‏.‏ وثبت أنه كان متمتعًا التمتع العام، فإن /القارن يدخل في مسمي المتمتع، كما سنذكره‏.‏ فدل على استحباب الأكل من هدي المتمتع، ودم الجبران ليس كذلك‏.‏ وثبت ـ أيضًا ـ في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن، وكن متمتعات‏.‏ وهذا مما احتج به الإمام أحمد‏.‏
الثاني‏:‏ أن سبب الجبران محظور في الأصل، كالإفساد بالوطء، وكفعل المحظورات، أو بترك الواجبات، فإنه لا يجوز له أن يفسد حجه، ولا أن يفعل المحظور إلا لعذر، ولا يترك الواجب إلا لعذر، والتمتع جائز مطلقًا، فلو كان دمه دم جبران لم يجز مطلقًا، فعلم أنه دم نسك وهدي، وأنه مما وسع الله به على المسلمين، فأباح لهم التحلل في أثناء الإحرام، والهدي مكانه، لما في استمرار الإحرام من المشقة، فيكون بمنزلة قصر الصلاة في السفر، وبمنزلة الفطر للمسافر، والمسح على الخفين للابس الخف‏.‏
فإن ذلك أفضل له من أن يخلع ويغسل في ظاهر مذهب أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلمإذا كان لابس الخف على طهارة مسح عليه، ولم يكن يخلع ويغسل، بخلاف ما إذا لم تكن رجلاه في الخفين، فإنه كان يغسل‏.‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد‏)‏‏.‏ /وهدي محمد لمن كان مكشوف الرجلين أن يغسلهما‏.‏ لا يقصد أن يلبس ليمسح عليهما، ولمن كان لابس الخفين أن يمسح عليهما، لا أن يخلعهما ويغسل، مع أن مسح الخفين بدل، فكذلك الهدي‏.‏
وإن كان بدلًا عن ترفهه بسقوط أحـد السفرين، فهـو أفضـل لمن جمع بينهمـا، وقـد قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد يعتمر عقبه والبدل قد يكون واجبًا كالجمعة، فإنها وإن كانت بدلًا عن الظهـر فهي واجبة، وكالمتيمم العاجز عن استعمال الماء؛ فإن التيمم واجب عليه، وهو بدل‏.‏ فإذا جاز أن يكون البدل واجبًا، فكونه مستحبًا أولي بالجواز‏.‏
ولهذا يستحب للمسافر أن يفطر ويقضي، والقضاء بدل عن الأداء وكذلك المريض الذي يشق عليه الصوم يفطر ويقضي، والقضاء بدل‏.‏
وتخلل الإحلال لا يمنع أن يكون الجميع بمنزلة العبادة الواحدة، كطواف الفرض؛ فإنه من تمام الحج باتفاق المسلمين، ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول، ورمي الجمار أيام مني من تمام الحج‏.‏ وإذا طاف قبل ذلك فقد رمي الجمار أيام مني، بعد الحل التام، وهو السنة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وشهر رمضان يتخلل صيام أيامه/الفطر بالليل، وهو الصوم المفروض المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عليكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183، 185‏]‏ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏ وهذا الصوم يتخلله الفطر كل ليلة، فكذلك قوله‏:‏ ‏(‏من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏‏.‏
والآية تتناول لمن حج حجة تمتع فيها بالعمرة، وإن كان قد يتخلل هذا الإحرام إحلال، وهو من حين إحرامه بالحج قد دخل في الحج، كما أنه بصيام أول يوم دخل في صيام شهر رمضان، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، والقيام يتخلله السلام من كل ركعتين، وكذلك الوتر بثلاث مفصولة‏.‏