فصل: إذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده
 
فصل
وإذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده، فإنه يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه، والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلي المسجد الحرام، /والمسجد الأقصي، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وهو مروي من طرق أخر‏.‏
ومسجده كان أصغر مما هو اليوم، وكذلك المسجد الحرام، لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام‏.‏
ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فإنه قد قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم عَلَي، إلا رد اللّه على روحي حتي أرد عليه السلام‏)‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ وكان عبد اللّه بن عمر يقول إذا دخل المسجد‏:‏ السلام عليك يارسول اللّه، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف، وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه، ويسلمون عليه مستقبلي الحجرة، مستدبري القبلة، عند أكثر العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ وأبوحنيفة قال‏:‏ يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال‏:‏ يستدبر الحجرة، ومنهم من قال‏:‏ يجعلها عن يساره، واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة، ولا يقبلها، ولا يطوف بها، ولا يصلي إليها، وإذا قال في سلامه‏:‏ السلام عليك يارسول اللّه، يانبي اللّه، ياخيرة اللّه من خلقه، يا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته،
بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا صلى عليه مع السلام عليه، فهذا مما أمر اللّه به‏.‏
/ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة‏.‏ ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك‏.‏ والحكاية المروية عنه ‏:‏ أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقت الدعاء،كذب على مالك‏.‏ ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده، فإنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت‏؟‏ أي بليت‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء‏)‏‏.‏ فأخبر أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب، وأنه يبلغ ذلك من البعيد‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏
فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه، من حجرة عائشة، وكانت هي وسائر الحُجَر خارج المسجد، من قبليه وشرقيه، لكن لما كان في زمن الوليد بن عبد الملك عُمِّر هذا المسجد وغيره، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز، فأمر أن تشتري الحجر، ويزاد /في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبنيت منحرفة عن القبلة مسنمة؛ لئلا يصلي أحد إليها، فإنه قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها‏)‏ رواه مسلم عن أبي مَرْثَد الغَنَوي‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وزيارة القبور على وجهين‏:‏ زيارة شرعية، وزيارة بدعية‏.‏
فالشرعية‏:‏ المقصود بها السلام على الميت، والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنة أن يسلم على الميت، ويدعو له سواء كان نبيًا، أو غير نبي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم‏)‏‏.‏ وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع، ومن به من الصحابة أو غيرهم، أو زار شهداء أحد، وغيرهم‏.‏
وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين، بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبر أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة / المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي على القبور إما محرمة، وإما مكروهة‏.‏
والزيارة البدعية‏:‏ أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل‏:‏ زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل قوله‏:‏ ‏(‏من زارني، وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على اللّه الجنة‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي، حلت عليه شفاعتي‏)‏ ونحو ذلك، كلها أحاديث ضعيفة، بل موضوعة، ليست في شيء من دواوين الإسلام، التي يعتمد عليها، ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولكن روي بعهضا البزار، والدارقطني، ونحوهما بأسانيد ضعيفة، ولأن من عادة الدارقطني وأمثاله، يذكرون هذا في السنن ليعرف، وهو وغيره يبينون ضعف الضعيف من ذلك، فإذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة نهي عنها عند قبره، وهو أفضل الخلق، فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أولي وأحري‏.‏
/ويستحب أن يأتي مسجد قباء، ويصلي فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من تطهر في بيته، وأحسن الطهور، ثم أتي مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كأجر عمرة‏)‏ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصلاة في مسجد قباء كعمرة‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏
والسفر إلى المسجد الأقصي، والصلاة فيه، والدعاء، والذكر، والقراءة، والاعتكاف، مستحب في أي وقت شاء، سواء كان عام الحج، أو بعده‏.‏ ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يفعل في سائر المساجد‏.‏ وليس فيها شيء يتمسح به، ولا يقَبل ولا يطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة، ولا تستحب زيارة الصخرة، بل المستحب أن يصلي في قبلي المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين‏.‏
ولا يسافر أحد ليقف بغير عرفات، ولا يسافر للوقوف بالمسجد الأقصي، ولا للوقوف عند قبر أحد، لا من الأنبياء، ولا المشايخ، ولا غيرهم، باتفاق المسلمين، بل أظهر قولي العلماء أنه لا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور‏.‏
ولكن تزار القبور الزيارة الشرعية، من كان قريبًا، ومن اجتاز /بها، كما أن مسجد قباء يزار من المدينة، وليس لأحد أن يسافر إليه لنهيه صلى الله عليه وسلم أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة‏.‏
وذلك أن الدين مبني على أصلين‏:‏ ألا يعبد إلا اللّه وحده لا شريك له، ولا يعبد إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ ‏.‏ ولهذا كان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول في دعائه ‏:‏ اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحد شيئًا‏.‏ وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالي‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ ‏.‏ قال‏:‏ أخلصه، وأصوبه‏.‏ قيل‏:‏ يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتي يكون خالصا صوابا‏.‏ والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة، وقد قال اللّه تعالي‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏21‏]‏ ‏.‏
والمقصود بجميع العبادات أن يكون الدين كله للّه وحده، فاللّه هو المعبود، والمسؤول الذي يخاف ويرجي، ويسأل ويعبد، فله الدين خالصًا، وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرهًا، والقرآن مملوء من هذا، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي‏}‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 164‏]‏ ‏.‏ وقال تعالي‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ‏}‏ الآيتين ‏[‏آل عمران‏:‏ 79،80‏]‏ ، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏ققُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ‏}‏ الآيتين‏.‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56،57‏]‏ ‏.‏
قالت طائفة من السلف‏:‏ كان أقوام يدْعُون الملائكة، والأنبياء، كالمسيح، والعزيز، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ الآيات‏.‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26 وما بعدها‏]‏ ‏.‏ ومثل هذا في القرآن كثير؛ بل هذا مقصود القرآن، ولبه، وهو مقصود دعوة الرسل كلهم، وله خلق الخلق، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏
فيجب على المسلم أن يعلم أن الحج من جنس الصلاة ونحوها من العبادات، التي يعبد اللّه بها وحده لا شريك له، وأن الصلاة على الجنائز وزيارة قبور الأموات من جنس الدعاء لهم، والدعاء للخلق من جنس المعروف والإحسان، الذي هو من جنس الزكاة‏.‏
والعبادات التي أمر اللّه بها توحيد وسنة، وغيرها فيها شرك/ وبدعة،كعبادات النصاري، ومن أشبههم مثل قصد البقعة لغير العبادات التي أمر اللّه بها، فإنه ليس من الدين، ولهذا كان أئمة العلماء يعدون من جملة البدع المتكررة السفر لزيارة قبور الأنبياء، والصالحين، وهذا في أصح القولين غير مشروع، حتي صرح بعض من قال ذلك أن من سافر هذا السفر لا يقصر فيه الصلاة؛ لأنه سفر معصية‏.‏ وكذلك من يقصد بقعة لأجل الطلب من مخلوق، هي منسوبة إليه، كالقبر، والمقام أو لأجل الاستعاذة به، ونحو ذلك، فهذا شرك وبدعة، كما تفعله النصارى ومن أشبههم من مبتدعة هذه الأمة، حيث يجعلون الحج والصلاة من جنس ما يفعلونه من الشرك والبدع، ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم لما ذكر له بعض أزواجه كنيسة بأرض الحبشة، وذكر له عن حسنها وما فيها من التصاوير، فقال‏:‏ ‏(‏أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة‏)‏ ‏.‏
ولهذا نهي العلماء عما فيه عبادة لغير اللّه، وسؤال لمن مات من الأنبياء، أو الصالحين، مثل من يكتب رقعة ويعلقها عند قبر نبي، أو صالح، أو يسجد لقبر، أو يدعوه، أو يرغب إليه‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس ليال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون /القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏ رواه مسلم، وقال ‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا‏)‏‏.‏ وهذه الأحاديث في الصحاح‏.‏ وما يفعله بعض الناس من أكل التمر في المسجد، أو تعليق الشعر في القناديل، فبدعة مكروهة‏.‏
ومن حمل شيئا من ماء زمزم جاز، فقد كان السلف يحملونه ، وأما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه، بل غيره من التمر، البرني والعجوة خير منه، والأحاديث إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏(‏من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يصبه ذلك اليوم سم، ولا سحر‏)‏‏.‏ ولم يجئ عنه في الصيحاني شيء‏.‏ وقول بعض الناس‏:‏ إنه صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم جهل منه بل إنما سمي بذلك ليبسه، فانه يقال‏:‏ تصوح التمر، إذا يبس‏.‏
وهذا كقول بعض الجهال‏:‏إن عين الزرقاء جاءت معه من مكة،ولم يكن بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عين جارية لا الزرقاء ولا عيون حمزة ولا غيرهما، بل كل هذا مستخرج بعده‏.‏
ورفع الصوت في المساجد منهي عنه، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب/ ـ رضي اللّه عنه ـ رأي رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد فقال‏:‏ لو أعلم أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، إن الأصوات لا ترفع في مسجده‏.‏ فما يفعل بعض جهال العامة من رفع الصوت عقيب الصلاة من قولهم‏:‏ السلام عليك يارسول اللّه ‏!‏ بأصوات عالية‏.‏ من أقبح المنكرات‏.‏ ولم يكن أحد من السلف يفعل شيئا من ذلك عقيب السلام بأصوات عالية، ولا منخفضة، بل مافي الصلاة من قول المصلي‏:‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، هو المشروع، كما أن الصلاة عليه مشروعة في كل زمان ومكان‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏من صلى على مرة صلى اللّه عليه بها عشرا‏)‏‏.‏ وفي المسند‏:‏ أن رجلا قال‏:‏ يارسول اللّه، أجعل عليك ثلث صلاتي، قال‏:‏ ‏(‏إذًا يكفيك اللّه ثلث أمرك‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ أجعل عليك ثلثي صلاتي، قال‏:‏ ‏(‏إذا يكفيك اللّه ثلثي أمرك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أجعل صلاتي كلها عليك، قال‏:‏ ‏(‏إذا يكفيك اللّه ما أهمك من أمر دنياك وأمر آخرتك‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏‏.‏ وقد رأي عبد اللّه بن حسن شيخ الحسنيين في زمنه رجلا ينتاب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، للدعاء عنده، قال‏:‏ ياهذا، إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن /صلاتكم تبلغني‏)‏ فما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء‏.‏
ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه، في كل مكان وزمان، ولم يكونوا يجتمعون عند قبره، لا لقراءة ختمة، ولا إيقاد شمع، وإطعام وإسقاء، ولا إنشاد قصائد، ولا نحو ذلك، بل هذا من البدع، بل كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة، والقراءة، والذكر، والدعاء، والاعتكاف، وتعليم القرآن والعلم، وتعلمه، ونحو ذلك‏.‏
وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل عمل صالح تعمله أمته، فإنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من دعا إلى هدي فله من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا‏)‏‏.‏ وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، فكل خير يعمله أحد من الأمة فله مثل أجره، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أن يهدي إليه ثواب صلاة، أو صدقة، أو قراءة من أحد، فإن له مثل أجر ما يعملونه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا‏.‏
وكل من كان له أطوع وأتبع كان أولي الناس به في الدنيا والآخرة، قال تعالي‏:‏ ‏{‏قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ ، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آل أبي فلان ليسوا لي /بأولياء، إنما ولي اللّه وصالح المؤمنين‏)‏، وهو أولي بكل مؤمن من نفسه، وهو الواسطة بين اللّه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه‏.‏
واللّه هو المعبود المسؤول، المستعان به الذي يخاف ويرجي، ويتوكل عليه، قال تعالي‏:‏‏{‏وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏ ، فجعل الطاعة للّه والرسول، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ ، وجعل الخشية والتقوي للّه وحده لا شريك له، فقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏ ، فأضاف الإيتاء إلى اللّه والرسول، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ ، فليس لأحد أن يأخذ إلا ما أباحه الرسول، وإن كان اللّه آتاه ذلك من جهة القدرة، والملك، فإنه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في الاعتدال من الركوع، وبعد السلام‏:‏ ‏(‏اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُ‏)‏ أي‏:‏ من آتيته جدا وهو البخت والمال والملك، فإنه لا ينجيه منك إلا الإيمان والتقوي‏.‏
وأما التوكل فعلي اللّه وحده، والرغبة فإليه وحده، كما قال /تعالي‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ورسوله، وقالوا‏:‏‏{‏إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ولم يقولوا هنا‏:‏ ورسوله، كما قال في الإيتاء، بل هذا نظير قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏7،8‏]‏ ، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ حسبنا اللّه ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين ‏{‏قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ ‏.‏ أي‏:‏ اللّه وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك‏.‏
ومـن قـال ‏:‏ إن اللّه والمؤمنـين حسـبك فقـد ضـل، بل قولـه من جنس الكفرة، فإن اللّه وحده هو حسب كل مؤمن به‏.‏ والحسب الكافي، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏36‏]‏
وللّه تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق؛ كالعبادات، والإخلاص والتوكل، والخوف، والرجاء، والحج، والصلاة، والزكاة، والصيام، والصدقة‏.‏ والرسول له حق؛ كالإيمان به، وطاعته، واتباع سنته وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، وتقديمه في المحبة على الأهل والمال، والنفس، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، /لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين‏)‏، بل يجب تقديم الجهاد الذي أمر به على هذا كله، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏ ، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏62‏]‏ ‏.‏
وبسط مافي هذا المختصر وشرحه مذكور في غير هذا الموضع‏.‏ واللّه سبحانه وتعالي أعلم، وصلي اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد للّه رب العالمين‏.‏