فصل:إذا كان المنع من الطواف لمعني في نفس الطواف
 
/فصل
وأما إن كان المنع من الطواف لمعني في نفس الطواف، كما منع من غيره، أو كان لذلك وللمسجد، كل منهما علة مستقلة‏.‏ فنقول‏:‏ إذا اضطرت إلى ذلك بحيث لم يمكنها الحج بدون طوافها وهي حائض لتعذر المقام عليها إلى أن تطهر، فهنا الأمر دائر بين أن تطوف مع الحيض، وبين الضرر الذي ينافي الشريعة، فإن إلزامها بالمقام إذا كان فيه خوف على نفسها ومالها، وفيه عجزها عن الرجوع إلى أهلها، وإلزامها بالمقام بمكة مع عجزها عن ذلك، وتضررها به، لا تأتي به الشريعة، فإن مذهب عامة العلماء أن من أمكنه الحج، ولم يمكنه الرجوع إلى أهله لم يجب عليه الحج، وفيه قول ضعيف أنه يجب إذا أمكنه المقام‏.‏ أما مع الضرر الذي يخاف منه على النفس، أو مع العجز عن الكسب، فلا يوجب أحد عليه المقام، فهذه لا يجب عليها حج يحتاج معه إلى سكني مكة‏.‏
وكثير من النساء إذا لم ترجع مع من حجت معه لم يمكنها بعد ذلك الرجوع، ولو قدر أنه يمكنها بعد ذلك الرجوع، فلا يجب عليها أن /يبقي وطؤها محرما مع رجوعها إلى أهلها، ولا تزال كذلك إلى أن تعود، فهذا ـ أيضا ـ من أعظم الحرج الذي لا يوجب اللّه مثله، إذ هو أعظم من إيجاب حجتين، واللّه تعالى لم يوجب إلا حجة واحدة‏.‏
ومن وجب عليه القضاء كالمفسد، فإنما ذاك لتفريطه بإفساد الحج؛ ولهذا لم يجب القضاء على المحصر في أظهر قولي العلماء لعدم التفريط، ومن أوجب القضاء على من فاته الحج، فإنه يوجبه لأنه مفرط عنده‏.‏
وإذا قيل في هذه المرأة‏:‏ بل تتحلل كما يتحلل المحصر، فهذا لا يفيد سقوط الفرض عنها، فتحتاج مع ذلك إلى حجة ثانية، ثم هي في الثانية تخاف ما خافته في الأولي، مع أن المحصر لا يحل إلا مع العجز الحسي، إما بعدو، أو بمرض، أو فقر، أو حبس‏.‏ فأما من جهة الشرع فلا يكون أحد محصرا، وكل من قدر على الوصول إلى البيت لم يكن محصرا في الشرع، فهذه هي التقديرات التي يمكن أن تفعل‏:‏ إما مقامها بمكة، وإما رجوعها محرمة، وإما تحللها، وكل ذلك مما منعه الشرع في حق مثلها‏.‏
وإن قيل‏:‏ إن الحج يسقط عن مثل هذه، كما يسقط عمن لا تحج إلا مع من يفجر بها، لكون الطواف مع الحيض يحرم كالفجور‏.‏
/قيل‏:‏ هذا مخالف لأصول الشرع؛ لأن الشرع مبناه على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏ ، وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏ ومعلوم أن المرأة إذا لم يمكنها فعل شيء من فرائض الصلاة، أو الصيام أو غيرهما، إلا مع الفجور، لم يكن لها أن تفعل ذلك، فإن اللّه تعالى لم يأمر عباده بأمر لا يمكن إلا مع الفجور، فإن الزنا لا يباح بالضرورة، كما يباح أكل الميتة عند الضرورة، ولكن إذا أكرهت عليه بأن يفعل بها، ولا تستطيع الامتناع منه، فهذه لا فعل لها، وإن كان بالإكراه ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد‏:‏
إحداهما‏:‏ أنه لا يباح بالإكراه، إلا الأقوال دون الأفعال‏.‏
والثاني‏:‏ ـ وهو قول الأكثرين ـ‏:‏ أن المكرهة على الزنا، وشرب الخمر، معفو عنها؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏
وأما الرجل الزاني، ففيه قولان في مذهب أحمد، وغيره، بناء على أن الإكراه هل يمنع الانتشار، أم لا، فأبو حنيفة وأحمد في المنصوص عنه يقولان‏:‏ لا يكون الرجل مكرها على الزنا‏.‏
وأما إذا أمكن العبد أن يفعل بعض الواجبات دون بعض، فإنه /يؤمر بما يقدر عليه، وما عجز عنه يبقي ساقطًا، كما يؤمر بالصلاة عريانا ومع النجاسة، وإلى غير القبلة، إذا لم يطق إلا ذلك، وكما يجوز الطواف راكبًا ومحمولًا للعذر بالنص واتفاق العلماء، وبدون ذلك ففيه نزاع‏.‏ وكما يجوز أداء الفرض للمريض قاعدًا أو راكبًا، ولا يجوز ذلك في الفرض بدون العذر، مع أن الصلاة إلى غير القبلة، والصلاة عريانًا، وبدون الاستنجاء، وفي الثوب النجس، حرام في الفرض والنفل، ومع هذا فلأن يصلي الفرض مع هذه المحظورات خير من تركها، وكذلك صلاة الخوف مع العمل الكثير، ومع استدبار القبلة، مع مفارقة الإمام في أثناء الصلاة، ومع قضاء ما فاته قبل السلام، وغير ذلك مما لا يجوز في غير العذر‏.‏
فإن قيل‏:‏ الطواف مع الحيض كالصلاة مع الحيض، والصوم مع الحيض، وذلك لا يباح بحال‏.‏
قيل‏:‏ الصوم مع الحيض لا يحتاج إليه بحال، فإن الواجب عليها شهر، وغير رمضان يقوم مقامه، وإذا لم يكن لها أن تؤدي الفرض مع الحيض، فالنفل بطريق الأولي؛ لأن لها مندوحة عن ذلك بالصيام في وقت الطهر، كما كان للمصلي المتطوع في أوقات النهي مندوحة عن ذلك بالتطوع في أوقات أخر، فلم تكن محتاجة إلى الصوم مع الحيض بحال، فلا تباح هذه المفسدة مع الاستغناء عنها، كما لا تباح صلاة /التطوع التي لا سبب لها في أوقات النهي، بخلاف ذوات الأسباب، فإن الراجح في الدليل من قولي العلماء‏:‏ أنها تجوز لحاجته إليها، فإنه إن لم يفعلها تعذر فعلها وفاتت مصلحتها، بخلاف التطوع المحض، فإنه لا يفوت‏.‏ والصوم من هذا الباب ليس لها صوم إلا ويمكن فعله في أيام الطهر؛ ولهذا جاز للمستحاضة الصوم والصلاة‏.‏
وأما الصلاة، فإنها لو أبيحت مع الحيض، لم يكن الحيض مانعًا من الصلاة بحال، فإن الحيض مما يعتاد النساء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة‏:‏ ‏(‏إن هذا شيء كتبه اللّه على بنات آدم‏)‏، فلو أذن لهن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلين بالحيض، صارت الصلاة مع الحيض كالصلاة مع الطهر‏.‏
ثم إن أبيح سائر العبادات لم يبق الحيض مانعًا، مع أن الجنابة والحدث الأصغر مانع، وهذا تناقض عظيم، وإن حرم ما دون الصلاة وأبيحت الصلاة، كان ـ أيضا ـ تناقضا، ولم تكن محتاجة إلى الصلاة زمن الحيض، فإن لها في الصلاة زمن الطهر ـ وهو أغلب أوقاتها ـ ما يغنيها عن الصلاة أيام الحيض، ولكن رخص لها فيما تحتاج إليه من التلبية والذكر والدعاء‏.‏ وقد أمرت مع ذلك بالاغتسال، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تغتسل عند الإحرام لما نفست بمحمد بن أبي بكر‏.‏ وأمر ـ أيضًا ـ بذلك النساء مطلقا، وأمر عائشة حين حاضت بسَرٍف /أن تغتسل، وتحرم بالحج، فأمرها بالاغتسال مع الحيض للإهلال بالحج، ورخص للحائض مع ذلك أن تلبي، وتقف بعرفة، وتدعو وتذكر اللّه ولا تغتسل، ولا تتوضأ، ولا يكره لها ذلك، كما يكره للجنب لو فعل ذلك بدون طهارة؛ لأنها محتاجة إلى ذلك، وغسلها ووضوؤها لا يؤثران في الحدث المستمر، بخلاف غسلها عند الإحرام، فإنه غسل نظافة، كما يغتسل للجمعة‏.‏
ولهذا، هل يتيمم لمثل هذه الأغسال إذا عدم الماء‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد، وكذلك هل ييمم الميت إذا تعذر غسله‏؟‏ على قولين‏.‏ وليس هذا كغسل الجنابة، والوضوء من الحدث‏.‏ ومع هذا فلم تؤمر بالغسل عند دخول مكة، والوقوف بعرفة، فلما نهيت عن الصلاة مع الحيض دون الأذكار من غير كراهة، علم الفرق بين ما تحتاج إليه، وما لا تحتاج إليه‏.‏
فإن قيل‏:‏ سائر الأذكار تباح للجنب والمحدث فلا حظر في ذلك‏.‏
قيل‏:‏ الجنب ممنوع من قراءة القرآن، ويكره له الأذان مع الجنابة والخطبة، وكذلك النوم بلا وضوء، وكذلك فعل المناسك بلا طهارة مع قدرته عليها، والمحدث ـ أيضًا ـ تستحب له الطهارة لذكر الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني كرهت أن أذكر/ اللّه إلا على طهر‏)‏‏.‏ والحائض لا يستحب لها شيء من ذلك، ولا يكره الذكر بدونه عند أحد من العلماء؛ للسنة المتواترة في ذلك‏.‏
وإنما تنازعوا في قراءة القرآن، وليس في منعها من القرآن سنة أصلا، فإن قوله‏:‏ ‏(‏لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن‏)‏ حديث ضعيف‏.‏ باتفاق أهل المعرفة بالحديث، رواه إسماعيل بن عياش عن موسي بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر‏.‏ وأحاديثه عن أهل الحجاز يغلط فيها كثيرا، وليس لهذا أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حدث به عن ابن عمر، ولا عن نافع، ولا عن موسي بن عقبة، أصحابهم المعروفون بنقل السنن عنهم‏.‏
وقد كان النساء يحضن على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة لكان هذا مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وتعلمه أمهات المؤمنين، وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس، فلما لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نهيا، لم يجز أن تجعل حرامًا، مع العلم أنه لم ينه عن ذلك، وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه علم أنه ليس بمحرم‏.‏
وهذا كما استدللنا على أن المنى لو كان نجسًا لكان يأمر الصحابة بإزالته من أبدانهم وثيابهم؛ لأنه لابد أن يصيب أبدان الناس وثيابهم /في الاحتلام، فلما لم ينقل أحد عنه أنه أمر بإزالة ذلك لا بغسل، ولا فرك، مع كثرة إصابة ذلك الأبدان والثياب على عهده، وإلى يوم القيامة، علم أنه لم يأمر بذلك، ويمتنع أن تكون إزالته واجبة ولا يأمر به، مع عموم البلوي بذلك‏.‏ كما أمر بالاستنجاء من الغائط والبول والحائض بإزلة دم الحيض من ثوبها‏.‏
وكذلك الوضوء من لمس النساء، ومن النجاسات الخارجة من غير السبيلين، لم يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك، مع كثرة ابتلائهم به، ولو كان واجبًا لكان يجب الأمر به، وكان إذا أمر به فلابد أن ينقله المسلمون؛ لأنه مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله‏.‏ وأمره بالوضوء من مس الذكر، ومما مست النار، أمر استح
باب، فهذا أولي ألا يكون إلا مستحبًا‏.‏ وإذا كانت سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مضت بأنه يرخص للحائض فيما لا يرخص فيه للجنب، لأجل حاجتها إلى ذلك، لعدم إمكان تطهرها، وأنه إنما حرم عليها مالا تحتاج إليه، فمنعت منه كما منعت من الصوم؛ لأجل حدث الحيض، وعدم احتياجها إلى الصوم، ومنعت من الصلاة بطريق الأولي؛ لاعتياضها عن صلاة الحيض بالصلاة بالطهر، فهي التي منعت من الطواف إذا أمكنها أن تطوف مع الطهر؛ لأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه، وليس كالصلاة من كل الوجوه‏.‏
/والحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير‏)‏ قد قيل‏:‏ إنه من كلام ابن عباس‏.‏ وسواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو كلام ابن عباس‏.‏ ليس معناه‏:‏ أنه نوع من الصلاة كصلاة الجمعة، والاستسقاء، والكسوف، فإن الله قد فرق بين الصلاة والطواف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وقد تكلم العلماء‏:‏ أيما أفضل للقادم‏:‏ الصلاة‏؟‏ أو الطواف‏؟‏ وأجمع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، وصلى خلف المقام ركعتين‏.‏
والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسائر العلماء بالفرق بين مسمي الصلاة، ومسمي الطواف متواترة، فلا يجوز أن يجعل نوعا من الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الصلاة مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏)‏، والطواف ليس تحريمه التكبير، وتحليله التسليم، وقد تنازع السلف ومن بعدهم في وجوب الوضوء من الحدث له، والوضوء للصلاة معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن أنكره فهو كافر، ولم ينقل شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب الوضوء له، ومنع الحائض لا يستلزم /منع المحدث‏.‏ وتنازع العلماء في الطهارة من الحيض‏:‏ هل هي واجبة فيه‏؟‏ أو شرط فيه‏؟‏ على قولين فيه، ولم يتنازعوا في الطهارة للصلاة أنها شرط فيها‏.‏ وأيضا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بأم القرآن‏)‏، والقراءة فيه ليست واجبة باتفاق العلماء، بل في كراهتها قولان للعلماء‏.‏
وأيضا، فإنه قد قال‏:‏ ‏(‏إن الله يحدث من أمره ما شاء، ومما أحدث ألا تكلموا في الصلاة‏)‏ فنهى عن الكلام في الصلاة مطلقًا‏.‏ والطواف يجوز فيه من الكلام ما لا يجوز في غيره، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين صلاة الجنازة، فإن لها تحريما وتحليلا، ونهى فيها عن الكلام، وتصلي بإمام وصفوف، وهذا كله متفق عليه، والقراءة فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح قولي العلماء‏.‏
وأما ‏[‏سجود التلاوة‏]‏، فقد تنازع العلماء هل هو من الصلاة التي تشترط لها الطهارة مع أنه سجود، وهو أعظم أركان الصلاة الفعلية، ولا يتكلم في حال سجوده، بل يكبر إذا سجد، وإذا رفع، ويسلم ـ أيضا ـ في أحد قولي العلماء‏.‏ هذا عند من يسلم أن السجود المجرد كسجود التلاوة تجب له الطهارة، ومن منع ذلك قال‏:‏ إنه يجوز بدون الوضوء، وقال‏:‏ إن السجود المجرد لا يدخل في مسمي الصلاة، وإنما مسمي الصلاة ماله تحريم وتحليل‏.‏ وهذا السجود لم يرو عن /النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر له بالطهارة، بل ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة ‏[‏النجم‏]‏ سجد معه المسلمون، والمشركون، والجن، والإنس‏.‏ وسجد سحرة فرعون على غير طهارة، وثبت عن ابن عمر أنه سجد للتلاوة على غير وضوء، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أوجب فيه الطهارة، وكذلك لم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه سلم فيه، وأكثر السلف على أنه لا يسلم فيه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وذكر أنه لم يسمع في التسليم أثرًا‏.‏ ومن قال‏:‏ فيه تسليم، فقد أثبته بالقياس الفاسد، حيث جعله صلاة، وهو موضع المنع‏.‏
و ‏[‏صلاة الجنازة‏]‏ قد ذهب بعضهم إلى أنه لا يشترط لها الطهارة لكن هذا قول ضعيف، فإن لها تحريما وتحليلا، فهي صلاة، وليس الطواف مثل شيء من ذلك، ولا الحائض محتاجة إلى ذلك، فإنها إذا لم تُصَلِّ فرض العين، ففرض الكفاية والنفل أولي، ودعاؤها للميت واستغفارها له يحصل المقصود بحسب الإمكان، كما أن شهودها العيد، وذكر الله تعالى مع المسلمين، يحصل المقصود بحسب الإمكان‏.‏
والطواف، وإن كان له مزية على سائر المناسك بنفسه، ولكونه في المسجد، وبأن الطواف شرع منفردا بنفسه، /وشرع في العمرة، وشرع في الحج، وأما الإحرام والسعي بين الصفا والمروة، والحلق فلا يشرع إلا في حج أو عمرة، وأما سائر المناسك من الوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار فلا يشرع إلا في الحج، فهذا يدل على أن الله عز وجل يسره للناس، وجعل لهم التقرب به مع الإحلال والإحرام في النسكين، وفي غيرهما، فلم يوجب فيه ما أوجبه في الصلاة، ولا حرم فيه ما حرمه في الصلاة‏.‏ فعلم أن أمر الصلاة أعظم، فلا يجعل مثل الصلاة‏.‏
ومن قال من العلماء‏:‏ إن طواف أهل الآفاق أفضل من الصلاة بالمسجد، فإنما ذلك لأن الصلاة تمكنهم في سائر الأمصار، بخلاف الطواف، فإنه لا يمكن إلا بمكة، والعمل المفضول في مكانه وزمانه يقدم على الفاضل لا لأن جنسه أفضل، كما يقدم الدعاء في آخر الصلاة على الذكر والقراءة ويقدم الذكر في الركوع والسجود على القراءة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا‏)‏، وكما تقدم القراءة والذكر والدعاء في أوقات النهي، وكما تقدم إجابة المؤذن على الصلاة‏.‏ والقراءة؛ لأن هذا يفوت وذلك لا يفوت، وكما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها، قدم ما يخاف فواته، فالطواف قدم لأنه يفوت الآفاقي إذا خرج، فقدم ذلك لا لأن جنسه أفضل من جنس الصلاة بل ولا مثلها، فإن هذا لا /يقوله أحد، والحج كله لا يقاس بالصلاة التي هي عمود الدين، فكيف يقاس بها بعض أفعاله، وإنما فرض الله الحج على كل مسلم مرة في العمر، ولم يوجب شيئا من أعماله مرتين، بل إنما فرض طوافا واحدًا، ووقوفًا واحدًا‏.‏ وكذلك السعي، عن أحمد في أَنَصِّ الروايتين عنه‏:‏ لا يوجب على المتمتع إلا سعيا واحدا، إما قبل التعريف، وإما بعده بعد الطواف؛ ولهذا قال أكثر العلماء‏:‏ إن العمرة لا تجب، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الأظهر في الدليل، فإن الله لم يوجب إلا حج البيت، لم يوجب العمرة، ولكن أوجب إتمام الحج والعمرة على من يشرع فيها؛ لأن العمرة هي الحج الأصغر، فيجب إتمامها كما يجب إتمام الحج التطوع، والله لم يوجب إلا مسمي الحج، لم يوجب حجين أكبر وأصغر، والممسي يحصل بالحج الأكبر، وهو المفهوم من اسم الحج عند الإطلاق، فلا يجب غير ذلك، وليس في أعمال العمرة قدر زائد على أعمال الحج، فلو وجبت لم يجب إلا عمل واحد مرتين، وهذا خلاف ما أوجبه الله في الحج‏.‏
والمقصود هنا أن الحج إذا لم يجب إلا مرة واحدة، فكيف يقاس بما يجب في اليوم والليلة خمس مرات‏.‏
/وهذا مما يفرق بين طواف الحائض، وصلاة الحائض، فإنها تحتاج إلى الطواف الذي هو فرض عليها مرة في العمر، وقد تكلفت السفر الطويل، وحملت الإبل أثقالها إلى بلد لم يكن الناس بالغيه إلا بشق الأنفس‏.‏ فأين حاجة هذه إلى الطواف من حاجتها إلى الصلاة التي تستغني عنها زمن الحيض بما تفعله زمن الطهر‏؟‏‏!‏ وقد تقدم أن الحائض لم تمنع من القراءة لحاجتها إليها، وحاجتها إلى هذا الطواف أعظم‏.‏
وإذا قال القائل‏:‏ القرآن تقرؤه مع الحدث الأصغر، والطواف تجب له الطهارة‏.‏ قيل له‏:‏ هذا فيه نزاع معروف عن السلف، والخلف فلابد لك من حجة على وجوب الطهارة الصغري في الطواف‏.‏ والاحتجاج بقوله‏:‏ ‏(‏الطواف بالبيت صلاة‏)‏ حجة ضعيفة، فإن غايته أن يشبه بالصلاة في بعض الأحكام، وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه، وإنما أراد أنه كالصلاة في اجتناب المحظورات التي تحرم خارج الصلاة، فأما ما يبطل الصلاة، وهو الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير فليس شيء من هذا مبطلاً للطواف، وإن كره فيه إذا لم يكن به حاجة إليه، فإنه يشغل عن مقصوده، كما يكره مثل ذلك عند القراءة والدعاء والذكر‏.‏ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إذا خرج أحدكم إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه، فإنه في صلاة‏)‏‏.‏
/ولهذا قال‏:‏ ‏(‏إلا أن الله أباح لكم فيه الكلام‏)‏، ومعلوم أنه يباح فيه الأكل والشرب، وهذه محظورات الصلاة التي تبطلها‏:‏ الأكل، والشرب، والعمل الكثير، ولا يبطل شيء من ذلك الطواف، بل غايته أنه يكره فيه لغير حاجة، كما يكره العبث في الصلاة، ولو قطع الطواف لصلاة مكتوبة، أو جنازة أقيمت بني على طوافه‏.‏ والصلاة لا تقطع لمثل ذلك، فليست محظورات الصلاة محظورة فيه، ولا واجبات الصلاة واجبات فيه؛ كالتحليل والتحريم، فكيف يقال‏:‏ إنه مثل الصلاة فيما يجب لها ويحرم فيها‏؟‏‏!‏ فمن أوجب له الطهارة الصغري، فلابد له من دليل شرعي، وما أعلم ما يوجب ذلك‏.‏
ثم تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف، ولا تجب فيه بلا ريب، ولكن تستحب فيه الطهارة الصغري، فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغري فيه، وحينئذ فلا نسلم أن جنس الطواف أفضل من جنس قراءة القرآن، بل جنس القراءة أفضل منه فإنها أفضل ما في الصلاة من الأقوال، والسجود أفضل ما فيها من الأفعال، والطواف ليس فيه ذكر مفروض‏.‏
وإذا قيل‏:‏ الطواف قد فرض بعضه‏.‏ قيل له‏:‏ قد فرضت القراءة في كل صلاة، فلا تصح صلاة إلا بقراءة، فكيف يقاس الطواف/ بالصلاة‏.‏ وإذا كانت القراءة أفضل‏.‏ وهي تجوز للحائض مع حاجتها إليها في أظهر قولي العلماء، فالطواف أولي أن يجوز مع الحاجة‏.‏
وإذا قيل‏:‏ أنتم تسلمون أن الطواف في الأصل محظور على الحائض وإنما يباح للضرورة‏.‏ قيل‏:‏ من علل بالمسجد فلا يسلم أن نفس فعله محظور لنفسه، ومن سلم ذلك يقول‏:‏ وكذلك من القرآن ما هو محظور على الحائض، وهو القراءة في الصلاة، وكذلك في غير الصلاة لغير حاجة يحرمها أكثر العلماء، وإنما أبيحت للحاجة، فإذا أبيحت للحاجة فالطواف أولي‏.‏
ثم مس المصحف يشترط له الطهارة الكبري والصغري عند جماهير العلماء، وكما دل عليه الكتاب والسنة، وهو ثابت عن سلمان وسعد وغيرهم من الصحابة، وحرمة المصحف أعظم من حرمة المساجد، ومع هذا إذا اضطر الجنب والمحدث والحائض إلى مَسِّه مَسَّه، فإذا اضطر إلى الطواف الذي لم يقم دليل شرعي على وجوب الطهارة فيه مطلقا كان أولي بالجواز‏.‏
فإذا قيل‏:‏ الطواف منه ما هو واجب‏.‏ قيل‏:‏ ومس المصحف قد يجب في بعض الأحوال، إذا احتيج إليه لصيانته الواجبة، والقراءة الواجبة، أو الحمل الواجب، إذا لم يمكن أداء الواجب إلا بمسه‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحائض تقضي المناسك كلها إلا /الطواف بالبيت‏)‏ من جنس قوله‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتي يتوضأ‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار‏)‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أحل المسجد لجنب ولا حائض‏)‏‏.‏ بل اشتراط الوضوء في الصلاة، وخمارة المرأة في الصلاة، ومنع الصلاة بدون ذلك أعظم من منع الطواف مع الحيض، وإذا كان قد حرم المسجد على الجنب والحائض، ورخص للحائض أن تناوله الخمرة من المسجد، وقال لها‏:‏ ‏(‏إن حيضتك ليست في يدك‏)‏ تبين أن الحيضة في الفرج، والفرج لا ينال المسجد، وهذه العلة تقتضي إباحته للحائض مطلقا، لكن إذا كان قد قال‏:‏ ‏(‏لا أحل المسجد لجنب ولا حائض‏)‏ فلابد من الجمع بين ذلك، والإيمان بكل ما جاء من عند الله، وإذا لم يكن أحدهما ناسخا للآخر، فهذا عام مجمل، وهذا خاص فيه إباحة المرور، وهو مستثني من ذلك التحريم، مع أنه لا ضرورة إليه، فإباحة الطواف للضرورة لا تنافي تحريمه بذلك النص، كإباحة الصلاة للمرأة بلا خمار للضرورة، وإباحة الصلاة بلا وضوء للضرورة بالتيمم؛ بل وبلا وضوء ولا تيمم للضرورة، كما فعل الصحابة لما فقدوا الماء قبل نزول الآية، وكإباحة الصلاة بلا قراءة للضرورة، مع قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بأم القرآن‏)‏‏.‏ وكإباحة الصلاة والطواف مع النجاسة للضرورة مع قوله‏:‏ ‏(‏حتيه ثم اقرصيه ثم صلى فيه‏)‏، وإباحة الصلاة على المكان النجس للضرورة مع قوله‏:‏ ‏(‏جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا‏)‏، بل /تحريم الدم ولحم الخنزير أعظم الأمور، وقد أبيح للضرورة‏.‏
والذي جاءت به السنة أن الطواف عبادة متوسطة بين الصلاة، وبين سائر المناسك، فهو أفضل من غيره لنهي الحائض عنه، فالصلاة أكمل منه، وذلك لأنه يشبه الصلاة أكثر من غيره، ولأنه مختص بالمسجد، فلهاتين الحرمتين منعت منه الحائض، ولم تأت سنة تمنع المحدث منه، وما لم يحرم على المحدث فلا يحرم على الحائض مع الضرورة بطريق الأولي والأحري، كقراءة القرآن، وكالاعتكاف في المسجد، ولو حرم عليها مع الحدث فلا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة كمس المصحف وغيره‏.‏ ومن جعل حكم الطواف مثل حكم الصلاة فيما يجب ويحرم، فقد خالف النص والإجماع‏.‏
وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء؛ فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية‏.‏ ومن تربي على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء، لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الإيمان به، وبين ما قاله بعض العلماء، ويتعسر أو يتعذر إقامة الحجة عليه، ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء، /وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم، مثل المحدث عن غيره‏.‏ والشاهد على غيره لا يكون حاكما، والناقل المجرد يكون حاكيًا لا مفتيًا‏.‏ ولا يحتمل حال هذه المرأة إلا تلك الأمور الثلاثة، أو هذا القول، أو أن يقال‏:‏ طواف الإفاضة قبل الوقوف يجزئ إذا تعذر الطواف بعده، كما يذكر ذلك قولا في مذهب مالك، فيمن نسي طواف الإفاضة حتي عاد إلى بلده أنه يجزئه طواف القدوم، هذا مع أنه ليس لها فيه فرج، فإنها قد يمتد بها الحيض من حين تدخل مكة إلى أن يخرج الحاج‏.‏
وفيه ـ أيضا ـ تقديم الطواف قبل وقته الثابت بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏ والمناسك قبل وقتها لا تجزئ‏.‏ وإذا دار الأمر بين أن تطوف طواف الإفاضة مع الحدث، وبين ألا تطوفه، كان أن تطوفه مع الحدث أولي، فإن في اشتراط الطهارة نزاعا معروفا‏.‏ وكثير من العلماء كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يقولون‏:‏ إنها في حال القدرة على الطهارة إذا طافت مع الحيض أجزأها، وعليها دم، مع قولهم‏:‏ إنها تأثم بذلك، ولو طافت قبل التعريف لم يجزئها، وهذا القول مشهور معروف‏.‏ فتبين لك أن الطواف مع الحيض أولي من الطواف قبل الوقت‏.‏ وأصحاب هذا القول يقولون‏:‏ إن الطهارة واجبة فيها لا شرط فيها، والواجبات كلها تسقط بالعجز؛ ولهذا كان قول أبي حنيفة وغيره /من العلماء‏:‏ إن كل ما يجب في حال دون حال فليس بفرض، وإنما الفرض ما يجب على كل أحد في كل حال‏.‏
ولهذا قالوا‏:‏ إن طواف الوداع لما أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم عن الحائض دل على أنه ليس بركن بل يجبره دم‏.‏ وكذلك المبيت بمني لما أسقطه عن أهل السقاية دل على أنه ليس بفرض، بل هو واجب يجبره دم‏.‏ وكذلك الرمي لما جوز فيه للرعاة وأهل السقاية التأخير من وقت إلى وقت دل ذلك على أن فعله في ذلك الوقت ليس بفرض‏.‏ وكذلك لما رخص للضعفة أن يفيضوا من جمع بليل دل على أن الوقوف بمزدلفة بعد الفجر ليس بفرض بل هو واجب يجبره الدم‏.‏ فهذا حجة لهؤلاء العلماء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم‏.‏ وقد ذكرها أصحاب أبي حنيفة كالطحاوي وغيره‏.‏
فإذا كان قولهم‏:‏ إن الطهارة ليست فرضا في الطواف وشرطا فيه، بل هي واجبة تجبر بدم، دل ذلك على أنها لا تجب على كل أحد في كل حال، فإنما أوجب على كل أحد في كل حال إنما هو فرض عندهم لابد من فعله لا يجبر بدم‏.‏
وحينئذ، فإذا كانت الطهارة واجبة في حال دون حال سقطت مع العجز، كما سقط سائر الواجبات مع العجز، كطواف الوداع، وكما يباح /للمحرم ما يحتاج إليه الناس من حاجة عامة كالسراويل، والخفين، فلا فدية عند أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد، وسائر فقهاء الحديث، بخلاف ما يحتاج إليه في بعض الأحوال، فإنه لا يباح إلا مع الفدية، وأبوحنيفة يوجب الفدية في الجميع‏.‏ وحينئذ فهذه المحتاجة إلى الطواف أكثر ما يقال‏:‏ إنه يلزمها دم، كما هو قول أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب أحمد‏.‏ فإن الدم يلزمها بدون العذر، على قول من يجعل الطهارة واجبة، وأما مع العجز، فإذا قيل بوجوب ذلك فهذا غاية ما يقال فيها‏.‏ والأقيس أنه لا دم عليها عند الضرورة‏.‏ وأما أن يجعل هذا واجبا يجبره دم، ويقال‏:‏ إنه لا يسقط للضرورة، فهذا خلاف أصول الشريعة‏.‏
وقد تبين بهذا أن المضطرة إلى الطواف مع الحيض لما كان في علماء المسلمين من يفتيها بالإجزاء مع الدم وإن لم تكن مضطرة‏.‏ لم تكن الأمة مجمعة على أنه لا يجزئها إلا الطواف مع الطهر مطلقا، وحينئذ فليس مع المنازع القائل بذلك لا نص ولا إجماع ولا قياس، وقد بينا أن هذا القول مستلزم لجواز ذلك عند الحاجة، وأن العلماء اختلفوا في طهارة الحدث هل هي واجبة عليها‏؟‏ وأن قول النفاة للوجوب أظهر‏.‏ فلم تجمع الأمة على وجوب الطهارة مطلقا، ولا على أن شيئا من الطهارة شرط في الطواف‏.‏
وأما الذي لا أعلم فيه نزاعًا أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا /كانت قادرة على الطواف مع الطهر‏.‏ فما أعلم منازعا أن ذلك يحرم عليها وتأثم به، وتنازعوا في إجزائه‏:‏ فمذهب أبي حنيفة يجزئها ذلك، وهو قول في مذهب أحمد، فإن أحمد نص في رواية على أن الجنب إذا طاف ناسيا أجزأه ذلك، فمن أصحابه من قصر ذلك على حال النسيان، ومنهم من قال‏:‏ هذا يدل على أن الطهارة ليست فرضا، إذ لو كانت فرضا لما سقطت بالنسيان؛ لأنها منباب المأمور به لا منباب المنهي عنه كطهارة الحدث في الصلاة؛ بخلاف اجتناب النجاسة في الصلاة، فإن ظاهر مذهب أحمد أنه إذا صلى ناسيا لها أو جاهلا بها لا يعيد؛ لأن ذلك منباب المنهي عنه، فإذا فعله ناسيا أو جاهلا به لم يكن عليه إثم فيكون وجوده كعدمه‏.‏
ثم إن من أصحابه من قال‏:‏ هذا يدل على أن الطهارة في الطواف ليست عنده ركنا على هذه الرواية، بل واجبة تجبر بدم، وحكي هؤلاء في صحة طواف الحائض روايتين‏:‏
إحداهما‏:‏ لا يصح، والثانية‏:‏ يصح وتجبره بدم‏.‏ وممن ذكر هذا أبو البركات وغيره، وكذلك صرح غير واحد منهم بأن هذا النزاع في الطهارة من الحيض والجنابة كمذهب أبي حنيفة‏.‏ فعلى هذا القول تسقط بالعجز كسائر الواجبات‏.‏
/وذكر آخرون من أصحابه عنه ثلاث روايات‏:‏ رواية يجزئه الطواف مع الجنابة ناسيًا ولا دم عليه‏.‏ ورواية أن عليه دمًا‏.‏ ورواية أنه لا يجزئه ذلك، وبعض الناس يظن أن النزاع في مذهب أحمد إنما هو في الجنب والمحدث، دون الحائض، وليس الأمر كذلك‏.‏ بل صرح غير واحد من أصحابه بأن النزاع في الحائض وغيرها، وكلام أحمد يدل على ذلك وتبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض، وفي طواف الجنب، وكان يذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في ذلك‏.‏ فذكر أبو بكر عبد العزيز في ‏[‏الشافي‏]‏ عن الميموني قال‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ من سعي وطاف طواف الواجب على غير طهارة، ثم واقع أهله فقال‏:‏ هذه مسألة الناس فيها مختلفون، وذكر قول ابن عمر، وما يقول عطاء، وما يسهل فيه، وما يقول الحسن، وأمر عائشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين حاضت‏:‏ ‏(‏افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت، إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم‏)‏، فقد بليت به، نزل بها ليس من قبلها‏.‏ قال الميموني‏:‏ قلت‏:‏ فمن الناس من يقول‏:‏ عليه الحج، فقال‏:‏ نعم كذلك أكثر علمي، ومن الناس من يذهب إلى أن عليه دما‏؟‏ قال أبو عبد الله‏:‏ أولاً وآخرًا هي مسألة مشتبهة فيها نظر، دعني حتي أنظر فيها‏.‏ ومن الناس من يقول‏:‏ وإن رجع إلى بلده يرجع حتي يطوف‏.‏ قلت‏:‏ والنسيان‏.‏ قال‏:‏ والنسيان أهون حكما بكثير‏؟‏ يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدًا‏.‏
/قال أبو بكر عبد العزيز‏:‏ قد بينا أمر الطواف بالبيت في أحكام الطواف على قولين، يعني لأحمد‏.‏ أحد القولين‏:‏ إذا طاف الرجل وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيًا‏.‏ والقول الآخر‏:‏ أنه لا يجزئه حتي يكون طاهرًا، فإن وطئ وقد طاف غير طاهر ناسيًا فعلى قولين‏:‏ مثل قوله في الطواف، فمن أجاز الطواف غير طاهر قال‏:‏ تم حجه، ومن لم يجزه إلا طاهرًا رده من أي المواضع ذكر حتي يطوف‏.‏ قال‏:‏ وبهذا أقول‏.‏
فأبو بكر وغيره من أصحاب أحمد يقولون في إحدى الروايتين‏:‏ يجزئه مع الع ذر، ولا دم عليه، وكلام أحمد بين في هذا‏.‏ وجواب أحمد المذكور يبين أن النزاع عنده في طواف الحائض وغيره‏.‏
وقد ذكر عن ابن عمر وعطاء وغيرهما التسهيل في هذا‏.‏ ومما نقل عن عطاء في ذلك أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف، فإنها تتم طوافها، وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطًا، وقوله‏:‏ مما اعتد به أحمد، وذكر حديث عائشة، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم‏)‏ يبين أنه أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها فهي معذورة في ذلك‏.‏
ولهذا تعذر إذا حاضت وهي معتكفة فلا يبطل اعتكافها، بل /تقيم في رحبة المسجد، وإن اضطرت إلى المقام في المسجد أقامت به، وكذلك إذا حاضت في صوم الشهرين لم ينقطع التتابع باتفاق العلماء‏.‏ وهذا يقتضي أنها تشهد المناسك بلا كراهة، وتشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة، وتدعو وتذكر الله، والجنب يكره له ذلك، لأنه قادر على الطهارة، وهذه عاجزة عنها فهي معذورة، كما عذرها من جوز لها القراءة، بخلاف الجنب الذي يمكنه الطهارة، فالحائض أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة، فإن ذلك يمكنه الطهارة، وهذه تعجز عن الطهارة، وعذرها بالعجز والضرورة أولي من عذر الجنب بالنسيان، فإن الناسي لما أمر بها في الصلاة يؤمر بها إذا ذكرها، وكذلك من نسي الطهارة للصلاة فعليه أن يتطهر ويصلي إذا ذكر، بخلاف العاجز عن الشرط؛ مثل من يعجز عن الطهارة بالماء فإنها تسقط عنه، وكذلك العاجز عن سائر أركان الصلاة؛ كالعاجز عن القراءة والقيام، وعن تكميل الركوع والسجود، وعن استقبال القبلة، فإن هذا يسقط عنه كل ما عجز عنه، ولم يوجب الله على أحد ما يعجز عنه من واجبات العبادات‏.‏
فهذه إذا لم يمكنها الطواف على الطهارة، سقط عنها ما تعجز عنه، ولا يسقط عنها الطواف الذي تقدر عليه بعجزها عما هو ركن فيه أو واجب، كما في الصلاة وغيرها، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏، وهذه لا تستطيع إلا هذا، وقد اتقت الله ما استطاعت، فليس عليها غير ذلك‏.‏
ومعلوم أن الذي طاف على غير طهارة متعمدًا آثم‏.‏ وقد ذكر أحمد القولين‏:‏ هل عليه دم‏؟‏ أم يرجع فيطوف‏؟‏ وذكر النزاع في ذلك، وكلامه يبين في أن توقفه في الطائف على غير طهارة يتناول الحائض والجنب مع التعمد، ويبين أن أمر الناسي أهون بكثير، والعاجز عن الطهارة أعذر من الناسي‏.‏
وقـال أبـو بكر عبد العزيز في ‏[‏الشافي‏]‏‏:‏ ‏[‏باب في الطواف بالبيت غير طاهر‏]‏‏:‏ قـال أبـو عبد الله في رواية أبي طالب‏:‏ ولا يطوف بالبيت أحد إلا طاهرًا، والتطوع أيسر، ولا يقف مشاهد الحج إلا طاهرًا‏.‏ وقال في رواية محمد بن الحكم‏:‏ إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتي رجع فإنه لا شيء عليه، واختار له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماض، ولا شيء عليه‏.‏
فهذا النص من أحمد صريح بأن الطهارة ليست شرطًا، وأنه لا شيء عليه إذا طاف ناسيًا لطهارته، لا دم ولا غيره، وأنه إذا وطئ بعد ذلك فحجه ماض، ولا شيء عليه، كما أنه لما فرق بين التطوع /وغيره في الطهارة، فأمر بالطهارة فيه، وفي سائر المناسك، دل ذلك على أن الطهارة ليست شرطا عنده، فقطع هنا بأنه لا شيء عليه مع النسيان‏.‏ وقال في رواية أبي طالب أيضا‏:‏ إذا طاف بالبيت وهو غير طاهر يتوضأ ويعيد الطواف، وإذا طاف وهو جنب فإنه يغتسل ويعيد الطواف‏.‏ وقال في رواية أبي داود‏:‏ حدثنا سفيان عن ابن جُرَيْج عن عطاء‏:‏ إذا طاف على غير وضوء فليعد طوافه‏.‏ وقال أبو بكر عبد العزيز‏:‏ ‏[‏باب في الطواف في الثوب النجس‏]‏ قال‏:‏ أبو عبد الله في رواية أبي طالب‏:‏ وإذا طاف رجل في ثوب نجس، فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك، ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر‏.‏
وهذا الكلام من أحمد يبين أنه ليس الطواف عنده كالصلاة في شروطها، فإن غاية ما ذكر في الطواف في الثوب النجس أن الحسن كره ذلك، وقال‏:‏ لا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر‏.‏ ومثل هذه العبارة تقال في المستحب المؤكد، وهذا بخلاف الطهارة في الصلاة‏.‏ ومذهب أبي حنيفة وغيره أنه إذا طاف وعليه نجاسة صح طوافه، ولا شيء عليه‏.‏
وبالجملة، هل يشترط للطواف شروط الصلاة‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد، وغيره‏:‏
أحدهما‏:‏ يشترط، كقول مالك، والشافعي، وغيرهما‏.‏
/والثاني‏:‏ لا يشترط، وهذا قول أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، وغيره، وهذا القول هو الصواب، فإن المشترطين في الطواف كشروط الصلاة ليس معهم حجة إلا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الطواف بالبيت صلاة‏)‏، وهذا لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم فيه حجة، كما تقدم‏.‏ والأدلة الشرعية تدل على خلاف ذلك‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على الطائفين طهارة ولا اجتناب نجاسة، بل قال‏:‏ ‏(‏مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏)‏، والطواف ليس كذلك، والطواف لا يجب فيه ما يجب في الصلاة، ولا يحرم فيه ما يحرم في الصلاة، فبطل أن يكون مثلها‏.‏
وقد ذكروا من القياس أنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة وغيرها شرطا فيها كالصلاة، وهذا القياس فاسد، فإنه يقال‏:‏ لا نسلم أن العلة في الأصل كونها متعلقة بالبيت، ولم يذكروا دليلا على ذلك‏.‏ والقياس الصحيح ما بين فيه أن المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم أو دليل العلة‏.‏
وأيضا، فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة، سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق، ألا تري أنهم لما كانوا يصلون إلى الصخرة كانت الطهارة أيضا شرطا فيها، ولم تكن متعلقة بالبيت، وكذلك ـ أيضا ـ إذا صلى إلى /غير القبلة كما يصلي المتطوع في السفر، وكصلاة الخوف راكبًا، فإن الطهارة شرط وليست متعلقة بالبيت‏.‏
وأيضا، فالنظر إلى البيت عبادة متعلقة بالبيت، ولا يشترط له الطهارة ولا غيرها‏.‏ ثم هناك عبادة من شرطها المسجد، ولم تكن الطهارة شرطا فيها كالاعتكاف، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏125‏]‏، فليس إلحاق الطائف بالراكع الساجد بأولي من إلحاقه بالعاكف، بل بالعاكف أشبه؛ لأن المسجد شرط في الطواف والعكوف، وليس شرطا في الصلاة‏.‏
فإن قيل‏:‏ الطائف لابد أن يصلي الركعتين بعد الطواف، والصلاة لا تكون إلا بطهارة‏.‏ قيل‏:‏ وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع، وإذا قدر وجوبهما لم تجب فيهما الموالاة، وليس اتصالهما بالطواف بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة‏.‏ ومعلوم أنه لو خطب محدثا، ثم توضأ، وصلى الجمعة جاز، فلأن يجوز أن يطوف محدثا ثم يتوضأ ويصلي الركعتين بطريق الأولي، وهذا كثير ما يبتلي به الإنسان إذا نسي الطهارة في الخطبة والطواف، فإنه يجوز له أن يتطهر ويصلي، وقد نص على أنه إذا خطب وهو جنب جاز‏.‏
وإذا تبين أن الطهارة ليست شرطا، يبقي الأمر دائرا بين أن / تكون واجبة، وبين أن تكون سنة، وهما قولان للسلف، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، وفي مذهب أبي حنيفة، لكن من يقول‏:‏ هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول‏:‏ مع ذلك عليها دم‏.‏ وأما أحمد فإنه يقول‏:‏ لا شيء عليها، لا دم ولا غيره، كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناس، فإذا طافت حائضا مع التعمد توجه القول بوجوب الدم عليها‏.‏
وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال‏:‏ إن عليها دمًا، والأشبه أنه لا يجب الدم؛ لأن هذا واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز، فإن لزوم الدم إنما يجب بترك مأمور، وهي لم تترك مأمورا في هذه الحالة، ولم تفعل محظورًا من محظورات الإحرام، وهذا ليس من محظورات الإحرام؛ فإن الطواف يفعله الحلال والحرام، فصار الحظر هنا من جنس حظر اللبث في المسجد، واعتكاف الحائض في المسجد، أو مس المصحف، أو قراءة القرآن، وهذا يجوز للحاجة بلا دم، وطواف الإفاضة إنما يجوز بعد التحلل الأول، وهي حينئذ يباح لها المحظورات إلا الجماع‏.‏
فإن قيل‏:‏ لو كان طوافها مع الحيض ممكنًا أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم أسقط طواف الوداع عن الحائض، وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تدع أفعال /العمرة، وتحرم بالحج، فعلم أنه لا يمكنها الطواف‏.‏
قيل‏:‏ الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد، أو للطواف، أو لهما‏.‏ والمحظورات لا تباح إلا حال الضرورة، ولا ضـرورة بــها إلى طـواف الــوداع، فإن ذلك ليــس من الحج؛ ولهذا لا يودع المقيم بمكة، وإنما يودع المسافر عنها، فيكون آخر عهده بالبيت‏.‏ وكذلك طواف القــدوم ليست مضطــرة إليه، بل لو قدم الحاج وقد ضــاق الوقت عليه بدأ بعرفة، ولم يطف للقدوم، فهو إن أمر بهمــا القـادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما، أو في أحدهما، أو استحباب‏.‏ فإن للعلماء في ذلك أقــوالاً‏.‏ وليس واحد منهما ركنا يجب على كل حاج بالسنة الثابتة باتفاق العلماء، بخلاف طواف الفــرض فإنها مضطرة إليه؛ لأنه لا حج إلا به، وهذا كما يباح لها دخول المسجد للضرورة، ولا تدخـله لصـلاة، ولا اعتكاف وإن كان منذورًا، بل المعتكفة إذا حاضت خرجت من المسجد، ونصبت لها قبة في فنائه‏.‏
وهذا ـ أيضا ـ يدل على أن منع الحائض من الطواف كمنعها من الاعتكاف فيه لحرمة المسجد، وإلا فالحيض لا يبطل اعتكافها؛ لأنها مضطرة إليه، بل إنما تمنع من المسجد، لا من الاعتكاف، فإنها ليست مضطرة إلى أن تقيم في المسجد، ولو أبيح لها ذلك مع دوام الحيض لكان في ذلك إباحة المسجد للحيض‏.‏ وأما الطواف فلا يمكن إلا في المسجد /الحرام، فإنه مختص ببقعة معينة‏.‏ ليس كالاعتكاف، فإن المعتكف يخرج من المسجد لما لابد منه‏:‏ كقضاء الحاجة، والأكل والشرب، وهو معتكف في حال خروجه من المسجد، ليس له في تلك الحال أن يباشر النساء، وهو كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فِي الْمَسَاجِدِ‏}‏ يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏عَاكِفُونَ‏}‏، لا بقوله‏:‏ ‏{‏تُبَاشِرُوهُنَّ‏}‏، فإن المباشرة في المسجد لا تجوز للمعتكف ولا لغيره، بل المعتكف في المسجد ليس له أن يباشر إذا خرج منه لما لابد منه‏.‏
فلما كان هذا يشبه الاعتكاف، والحائض تخرج لما لابد لها منه، فلم يقطع الحيض اعتكافها، وقد جمع سبحانه بين العكوف والطواف والصلاة في الأمر بتطهير بيته، بقوله‏:‏ ‏{‏أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏125‏]‏، فمنعه من الحيض من تمام طهارته، والطواف كالعكوف، لا كالصلاة، فإن الصلاة تباح في جميع الأرض لا تختص بمسجد، ويجب لها ويحرم فيها ما لا يحرم في اعتكاف ولا طواف‏.‏
وحقيقة الأمر‏:‏ أن الطواف عبادة من العبادات التي يفعلها الحلال والحرام، لا تختص بالإحرام، ولهذا كان طواف الفرض إنما يجب بعد التحلل الأول، فيطوف الحاج الطواف المذكور في قوله تعالى‏:‏ /‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏‏.‏ فيطوف الحجاج وهم حلال قد قضوا حجهم، ولم يبق عليهم محرم إلا النساء، ولهذا لو جامع أحدهم في هذه الحال لم يفسد نسكه باتفاق الأئمة، وإذا كانت عبادة من العبادات فهي عبادة مختصة بالمسجد الحرام، كما أن الاعتكاف يختص بجميع المساجد، والله تعالى قد أمر بتطهير بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، وليس هو نوعًا من الصلاة فإذا ترك من واجبه شيئا، فقد يقال‏:‏ ترك شيئا، ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم‏.‏ وإذا ترك الواجب الذي هو صفة في الطواف للعجز فهذا محل اجتهاد، هل يلحق بمن ترك شيئا من نسكه‏؟‏ أو يقال‏:‏ هذا فيمن ترك نسكا مستقلا،أو تركه مع القدرة بلا عذر، أو ترك ما يختص بالحج والعمرة‏.‏
وأما القول بأن هذه العاجزة عن الطواف مع الحيض ترجع محرمة أو تكون كالمحصر، أو يسقط عنها الحج، أو يسقط عنها طواف الفرض فهذه أقوال كلها مخالفة لأصول الشرع، مع أني لم أعلم إمامًا من الأئمة صرح بشيء منها في هذه الصورة، وإنما كلام من قال‏:‏ عليها دم، أو ترجع محرمة ونحو ذلك ـمن السلف والأئمةـ كلام مطلق، يتناول من كان يفعل ذلك في عهدهم، وكان زمنهم يمكنها أن تحتبس حتي تطهر وتطوف، وكانوا يأمرون الأمراء أن يحتبسوا حتي تطهر الحيض،/ ويطفن؛ ولهذا ألزم مالك وغيره المكاري الذي لها أن يحتبس معها حتي تطهر وتطوف‏.‏ ثم إن أصحابه قالوا‏:‏ لا يجب على مكاريها في هذه الأزمان أن يحتبس معها، لما عليه في ذلك من الضرر‏.‏
فعلم أن أجوبة الأئمة بكون الطهارة من الحيض شرطا أو واجبا؛ كان مع القدرة على أن تطوف طاهرًا لا مع العجز عن ذلك، اللهم إلا أن يكون منهم من قال بالاشتراط، أو الوجوب في الحالين، فيكون النزاع مع من قال ذلك، والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد‏.