سئل: عن مسائل في الحيض يبتلى بها شطر النسوة في الحج؟
 
وسئل شيخ الإسلام عن هذه الضرورة التي في الحيض المبتلي بها شطر النسوة في الحج وكثرة اختلاف الأنواع فيه‏:‏ منهم من تكون حائضا في ابتداء الإحرام ومنهم من تحيض أيام التشريق‏.‏
المسألة الأولي‏:‏ امرأة تحيض أول الشهر، ولم يمكن أن تطوف إلا حائضا، وعند الوقوف بعرفة تري شيئا من الصفرة والكدرة التي تراها بعد القصة البيضاء، فما الحكم في ذلك‏.‏
المسألة الثانية‏:‏ فيمن تحيض في خامس إلى تاسع، ويبقي حيضها إلى سابع عشر، أو أكثر، فوقفت وهي حائض، ورمت وهي حائض وطافت للإفاضة وهي حائض ولم يمكنها عمرة‏.‏
المسألة الثالثة‏:‏ امرأة وقفت ورمت الجمار، وتريد طواف الإفاضة فحاضت قبل الطواف، فلم تطف وكتمت، وكانت تريد العمرة فلم تعتمر ورجعت ولم تفعل لا طوافا ولا عمرة، ولا دما‏.‏
فأجاب ـ رحمه الله‏:‏
الحمد لله رب العالمين‏.‏
أما ‏[‏المسألة الأولي‏]‏‏:‏ /فإن المرأة الحائض تقضي جميع المناسك‏.‏ وهي حائض غير الطواف، بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، واتفاق الأئمة‏.‏ فإنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت‏)‏، وأمر أسماء بنت أبي بكر لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل، وتحرم، وأمر عائشة لما حاضت بسرف أن تغتسل وتحرم بالحج، ولا تطوف قبل التعريف‏.‏
فهذه التي قدمت مكة وهي حائض قبل التعريف، لا تطوف بالبيت لكن تقف بعرفة، ولو كانت حائضا، فكيف إذا كانت تري شيئا من الصفرة والكدرة‏.‏ و ‏[‏الصفرة والكدرة‏]‏ للفقهاء فيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد، وغيره‏:‏ هل هي حيض مطلقا، أو ليست حيضا مطلقا‏.‏ والقول الثالث ـ وهو الصحيح ـ‏:‏ أنها إن كانت في العادة مع الدم الأسود والأحمر فهي حيض، وإلا فلا؛ لأن النساء كن يرسلن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فتقول لهن‏:‏ لا تعجلن حتي ترين القصة البيضاء‏.‏ وكذلك غيرها، فكن يجعلن ما قبل القصة البيضاء حيضا‏.‏ وقالت أم عطية‏:‏ كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا‏.‏
وليس في المناسك ما تجب له الطهارة إلا الطواف، فإن الطواف بالبيت تجب له الطهارة باتفاق العلماء‏.‏ وأما الطواف بين الصفا والمروة /ففيه نزاع، والجمهور على أنه لا تجب له الطهارة، وما سوي ذلك لا تجب له الطهارة باتفاق العلماء‏.‏
ثم تنازع العلماء في الطهارة‏:‏ هل هي شرط في صحة الطواف‏.‏ كما هي شرط في صحة الصلاة، أم هي واجبة إذا تركها جبرها بدم، كمن ترك الإحرام من الميقات، أو ترك رمي الجمار، أو نحو ذلك‏؟‏ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد‏.‏
أشهرهما عنه ـوهي مذهب مالك، والشافعيـ أن الطهارة شرط فيها، فإذا طاف جنبا أو محدثا أو حائضا ناسيًا أو جاهلاً، ثم علم أعاد الطواف‏.‏
والثاني‏:‏ أنه واجب، فإذا فعل ذلك جبره بدم؛ لكن عند أبي حنيفة‏:‏ الجنب والحائض عليه بدنة، والمحدث عليه شاة‏.‏
وأما أحمد فأوجب دما، ولم يعين بدنة، ونص في ذلك على الجنب إذا طاف ناسيا فقال في هذه الرواية‏:‏ عليه دم‏.‏ فمن أصحابه من جعل الروايتين في المعذور خاصة، كالناسي‏.‏ ومنهم من جعل الروايتين مطلقا في الناسي والمتعمد، ونحوهما‏.‏
والذين جعلوا ذلك شرطا احتجوا بأن الطواف بالبيت كالصلاة، /كما في النسائي وغيره عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أباح لكم فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير‏)‏، وهذا قد قيل‏:‏ إنه موقوف على ابن عباس‏.‏ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يطوف بالبيت عريان‏)‏، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏31‏]‏، نزلت لما كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا الحمس، فإنهم كانوا يطوفون في ثيابهم، وغيرهم لا يطوف في ثيابه، يقولون‏:‏ ثياب عصينا الله فيها، فإن وجد ثوب أحمسي طاف فيه، وإلا طاف عريانا، فإن طاف في ثيابه ألقاها فسميت لقاء‏.‏
وكان هذا مما ابتدعه المشركون في الطواف، وابتدعوا ـأيضاًـ تحريم أشياء من المطاعم في الإحرام، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31، 32‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً‏}‏ كالطواف بالبيت عراة ‏{‏قَالُواْ وَجَدْنَا عليها آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ على اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏
فما ثبت بالنص من إيجاب الطهارة والستارة في الطواف متفق عليه، وأما ما ثبت باللزوم من كون ذلك شرطا فيه كالصلاة، ففيه نزاع‏.‏ /ومن قال‏:‏ إن ذلك ليس بشرط، قال‏:‏ إن الحج قد وجب فيه أشياء تجبر بدم، ليست شرطًا في صحة الحج، إذا تركها الحاج عمدًا، أو سهوًا، جبرها بدم، بخلاف الصلاة‏.‏
وأما الصلاة، فهل يجب فيها ما لا تبطل بتركه مطلقا، أم لا‏؟‏ أم لا تبطل إذا تركه نسيانًا‏؟‏ هذا فيه نزاع مشهور‏.‏ فأبو حنيفة يوجب فيها ما لا تبطل بتركه مطلقا؛ كقراءة الفاتحة، والطمأنينة، وكذلك أحمد في أحد القولين في مذهبه، إذ أوجب الجماعة، ولم يجعلها شرطا في صحة الصلاة، وأحمد في المشهور عنه يوجب فيها ما إذا تركه سهوا جبره بسجدتي السهو، وما لا يحتاج إلى جبر كاجتناب النجاسات في المشهور عنه‏.‏ وكذلك مالك يوجب فيها من اجتناب النجاسة ونحوها ما إذا تركه أعاد في الوقت، ولم يعد بعده، كما هو مشهور في مذاهبهم‏.‏
وأما ‏[‏المسألة الثانية‏]‏‏:‏ فإن المرأة إذا حاضت وطهرت قبل يوم النحر، سقط عنها طواف القدوم، وطافت طواف الإفاضة يوم النحر وبعده، وهي طاهر‏.‏ وكذلك لو طافت طواف الإفاضة وهي طاهر ثم حاضت فلم تطهر قبل الخروج، فإنه يسقط عنها طواف الوداع؛ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث رخص للمرأة إذا طافت وهي طاهر ثم حاضت أنه يسقط عنها طواف الوداع، وحاضت امرأته صفية أم المؤمنين يوم النحر، فقال‏:‏ ‏(‏أحابستنا هي‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ إنها /قد أفاضت، قال‏:‏ ‏(‏فلا إذا‏)‏‏.‏
وإن حاضت قبل طواف الإفاضة فعليها أن تحتبس حتي تطهر وتطوف إذا أمكن ذلك، وعلى من معها أن يحتبس لأجلها إذا أمكنه ذلك‏.‏ ولما كانت الطرقات آمنة في زمن السلف، والناس يردون مكة، ويصدرون عنها في أيام العام، كانت المرأة يمكنها أن تحتبس هي وذو محرمها، ومكاريها، حتي تطهر ثم تطوف، فكان العلماء يأمرون بذلك‏.‏ وربما أمروا الأمير أن يحتبس لأجل الحيض، حتي يطهرن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أحابستنا هي‏؟‏‏)‏‏.‏ وقال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ أمير، وليس بأمير‏:‏ امرأة مع قوم حاضت قبل الإفاضة فيحتبسون لأجلها حتي تطهر وتطوف، أو كما قال‏.‏
وأما هذه الأوقات، فكثير من النساء أو أكثرهن لا يمكنها الاحتباس بعد الوفد، والوفد ينفر بعد التشريق بيوم أو يومين، أو ثلاثة، وتكون هي قد حاضت ليلة النحر، فلا تطهر إلى سبعة أيام، أو أكثر، وهي لا يمكنها أن تقيم بمكة حتي تطهر؛ إما لعدم النفقة، أو لعدم الرفقة التي تقيم معها، وترجع معها، ولا يمكنها المقام بمكة لعدم هذا أو هذا أو لخوف الضرر على نفسها، ومالها في المقام، وفي الرجوع بعد الوفد‏.‏ والرفقة التي معها‏:‏ تارة لا يمكنهم الاحتباس لأجلها إما لعدم القدرة على المقام والرجوع وحدهم، وإما لخوف الضرر على أنفسهم /وأموالهم‏.‏ وتارة يمكنهم ذلك لكن لا يفعلونه فتبقي هي معذورة‏.‏
فهذه ‏[‏المسألة‏]‏ التي عمت بها البلوي‏.‏ فهذه إذا طافت وهي حائض وجبرت بدم أو بدنة أجزأها ذلك عند من يقول‏:‏ الطهارة ليست شرطا، كما تقدم في مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأولي فإن هذه معذورة؛ لكن هل يباح لها الطواف مع العذر هذا محل النظر‏.‏ وكذلك قول من يجعلها شرطا؛ هل يسقط هذا الشرط للعجز عنه، ويصح الطواف‏؟‏ هذا هو الذي يحتاج الناس إلى معرفته‏.‏
فيتوجه أن يقال‏:‏ إنما تفعل ما تقدر عليه من الواجبات، ويسقط عنها ما تعجز عنه، فتطوف‏.‏ وينبغي أن تغتسل ـوإن كانت حائضاـ كما تغتسل للإحرام، وأولي‏.‏ وتستثفر كما تستثفر المستحاضة، وأولي وذلك لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن هذه لا يمكن فيها إلا أحد أمور خمسة‏:‏ إما أن يقال‏:‏ تقيم حتي تطهر وتطوف، وإن لم يكن لها نفقة ولا مكان تأوي إليه بمكة، وإن لم يمكنها الرجوع إلى بلدها، وإن حصل لها بالمقام بمكة من يستكرهها على الفاحشة، فيأخذ مالها إن كان معها مال‏.‏
وإما أن يقال‏:‏ بل ترجع غير طائفة بالبيت وتقيم على ما بقي من إحرامها، إلى أن يمكنها الرجوع، وإن لم يمكنها بقيت محرمة /إلى أن تموت‏.‏
وإما أن يقال‏:‏ بل تتحلل كما يتحلل المحصر، ويبقي تمام الحج فرضًا عليها تعود إليه كالمحصر عن البيت مطلقا، لعذر، فإنه يتحلل من إحرامه، ولكن لم يسقط الفرض عنه بل هو باق في ذمته باتفاق العلماء، ولو كان قد أحرم بتطوع من حج أو عمرة، فأحصر، فهل عليه قضاؤه‏؟‏ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد، أشهرهما عنه‏:‏ أنه لا قضاء عليه، وهو قول مالك والشافعي‏.‏ والثاني‏:‏ عليه القضاء، وهو قول أبي حنيفة، وكل من الفريقين احتج بعمرة القضية، هؤلاء قالوا‏:‏ قضاها النبي صلى الله عليه وسلم، وأولئك قالوا‏:‏ لم يقضها المحصرون معه، فإنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، والذين اعتمروا معه عمرة القضية في العام القابل كانوا دون ذلك بكثير، وقالوا‏:‏ سميت عمرة القضية؛ لأنه قاضي عليها المشركون، لا لكونه قضاها، وإنما كانت عمرة قائمة بنفسها‏.‏
وإما أن يقال‏:‏ من تخاف أن تحيض فلا يمكنها الطواف طاهرا لا تؤمر بالحج، لا إيجابا ولا استحبابا، ونصف النساء أو قريب من النصف يحضن؛إما في العاشر، وإما قبله بأيام، ويستمر حيضهن إلى ما بعد التشريق بيوم أو يومين، أو ثلاثة، فهـؤلاء في هـذه الأزمنـة في كثير من الأعوام، أو أكثرها لا يمكنهن طواف الإفاضة مع الطهر، /فلا يحججن، ثم إذا قدر أن الواحدة حجت فلابد لها من أحد الأمور الثلاثة المتقدمة، إلا أن يسوغ لها الطواف مع الحيض‏.‏
ومن المعلوم أن الوجه الأول لا يجوز أن تؤمر به، فإن في ذلك من الفساد في دينها ودنياها ما يعلم بالاضطرار أن الله ينهى عنه، فضلاً عن أن يأمر به‏.‏
والوجه الثاني‏:‏ كذلك لثلاثة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الله لم يأمر أحدًا أن يبقي محرمًا إلى أن يموت، فالمحصر بعدو له أن يتحلل باتفاق العلماء، والمحصر بمرض، أو فقر فيه نزاع مشهور، فمن جوز له التحلل فلا كلام فيه، ومن منعه التحلل قال‏:‏ إن ضرر المرض والفقر لا يزول بالتحلل، بخلاف حبس العدو فإنه يستفيد بالتحلل الرجوع إلى بلده، وأباحوا له أن يفعل ما يحتاج إليه من المحظورات، ثم إذا فاته الحج تحلل بعمرة الفوات، فإذا صح المريض ذهب، والفقير حاجته في إتمام سفر الحج كحاجته في الرجوع إلى وطنه، فهذا مأخذهم في أنه لا يتحلل‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه لا يستفيد بالتحلل شيئا، فإن كان هذا المأخذ صحيحا، وإلا كان الصحيح هو القول الأول وهو التحلل، وهذا المأخذ يقتضي اتفاق الأئمة على أنه متي كان دوام الإحرام يحصل به ضرر يزول بالتحلل فله التحلل‏.‏
/ومعلوم أن هذه المرأة إذا دام إحرامها تبقي ممنوعة من الوطء دائما، بل وممنوعة في أحد قوليهم من مقدمات الوطء، بل ومن النكاح، ومن الطيب، ومن الصيد عند من يقول بذلك‏.‏ وشريعتنا لا تأتي بمثل ذلك‏.‏
ولو قدر أن بعض القائلين بأن المحصر بمرض أو نفقة يقول بمثل ذلك ـ فالمريض المأيوس من برئه، والفقير الذي يمكنه المقام دون السفر ـ كان قوله مردودا بأصول الشريعة، فإنه لا يقول فقيه‏:‏ إن الله أمر المريض المعضوب المأيوس من برئه، أن يبقي محرما حتي يموت، بل أكثر ما يقال‏:‏ إنه يقيم مقامه من يحج عنه، كما قال ذلك الشافعي وأحمد في أصل الحج‏.‏ فأوجباه على المعضوب إذا كان له مال يحج به غيره عنه، إذ كان مناط الوجوب عندهما هو ملك الزاد والراحلة، وعند مالك القدرة بالبدن كيفما كان، وعند أبي حنيفة مجموعهما، وعند أحمد في كل من الأمرين مناط للوجوب، فيجب على هذا وهذا، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين‏:‏ إن المعضوب عليه أن يحج أو يعتمر ببدنه، فكيف يبقي محرما عليه إتمام الحج إلى أن يموت‏؟‏‏!‏
الثاني‏:‏ أن هذه إذا أمكنها العود فعادت أصابها في المرة الثانية نظير ما أصابها في الأولي، إذا كان لا يمكنها العود إلا مع الوفد، والحيض قد يصيبها مدة مقامهم بمكة‏.‏
/ الثالث‏:‏ أن هذا إيجاب سفرين كاملين على الإنسان للحج، من غير تفريط منه، ولا عدوان، وهذا خلاف الأصول، فإن الله لم يوجب على الناس الحج إلا مرة واحدة، وإذا أوجب القضاء على المفسد فذلك بسبب جنايته على إحرامه، وإذا أوجبه على من فاته الحج فذلك بسبب تفريطه؛ لأن الوقوف له وقت محدود، يمكن في العادة ألا يتأخر عنه، فتأخره يكون لجهله بالطريق، أو بما بقي من الوقت، أو لترك السير المعتاد، وكل ذلك تفريط منه، بخلاف الحائض فإنها لم تفرط؛ ولهذا أسقط النبي صلى الله عليه وسلم عنها طواف الوداع، وطواف القدوم كما في حديث عائشة وصفية‏.‏
وأما التقدير الثالث‏:‏ وهو أن يقال‏:‏ إنها تتحلل كما يتحلل المحصر، فهذا أقوي، كما قال ذلك طائفة من العلماء، فإن خوفها منعها من المقام حتي تطوف، كما لو كان بمكة عدو منعها من نفس الطواف، دون المقام على القول بذلك، لكن هذا القدر لا يسقط عنها فرض الإسلام، ولا يؤمر المسلم بحج يحصر فيه، فمن اعتقد أنه إذا حج أحصر عن البيت، لم يكن عليه الحج، بل خلو الطريق وأمنه، وسعة الوقت‏:‏ شرط في لزوم السفر باتفاق المسلمين‏.‏
وإنما تنازعوا‏:‏ هل هو شرط في الوجوب، بمعني إن ملك الزاد والراحلة مع خوف الطريق، أو ضيق الوقت، هل يجب عليه‏؟‏ فيحج /عنه إذا مات‏؟‏ أو لا يجب عليه بحال‏؟‏ على قولين معروفين‏.‏ فعلى قول من لم يجعل لها رخصة إلا رخصة الحصر يلزمه القول الرابع وهو‏:‏ أنها لا تؤمر بالحج، بل لا يجب ولا يستحب، فعلى هذا التقدير يبقي الحج غير مشروع لكثير من النساء، أو أكثرهن في أكثر هذه الأوقات، مع إمكان أفعالها كلها لكونهن يعجزن عن بعض الفروض في الطواف‏.‏
ومعلوم أن هذا خلاف أصول الشريعة، فإن العبادات المشروعة إيجابا أو استح
بابا، إذا عجز عن بعض ما يجب فيها، لم يسقط عنه المقدور؛ لأجل المعجوز، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏، وذلك مطابق لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، ومعلوم أن الصلاة وغيرها من العبادات التي هي أعظم من الطواف لا تسقط بالعجز عن بعض شروطها، وأركانها فكيف يسقط الحج بعجزه عن بعض شروط الطواف وأركانه‏؟‏‏!‏
ومثل هذا القول أن يقال‏:‏ يسقط عنها طواف الإفاضة، فإن هذا خلاف الأصول، إذ الحج عبارة عن الوقوف والطواف، والطواف أفضل الركنين وأجلهما؛ ولهذا يشرع في الحج، ويشرع في العمرة، ويشرع منفرداً، ويشترط له من الشروط ما لا يشترط للوقوف، فكيف يمكن أن يصح الحج بوقوف بلا طواف‏.‏
/ولكن أقرب من ذلك أن يقال‏:‏ يجزيها طواف الإفاضة قبل الوقوف‏.‏ فيقال‏:‏ إنها إن أمكنها الطواف بعد التعريف، وإلا طافت قبله، لكن هذا لا نعلم أحداً من الأئمة قال به في صورة من الصور، ولا قال بإجزائه، إلا ما نقله البصريون عن مالك فيمن طاف وسعى قبل التعريف، ثم رجع إلى بلده ناسيا، أو جاهلاً، أن هذا يجزيه عن طواف الإفاضة‏.‏
وقد قيل‏:‏ على هذا يمكن أن يقال في الحائض مثل ذلك إذا لم يمكنها الطواف إلا قبل الوقوف، ولكن هذا لا أعرف به قائلا‏.‏
والمسألة المنقولة عن مالك قد يقال فيها‏:‏ إن الناسي والجاهل معذور، ففي تكليفه الرجوع مشقة عظيمة، فسقط الترتيب لهذا العذر، وكما يقال في الطهارة في أحد الوجهين، على إحدى الروايتين في مذهب أحمد‏:‏ أنه إذا طاف محدثا ناسيا حتي أبعد كان معذورًا، فيجبره بدم‏.‏
وأما إذا أمكنه الإتيان بأكثر الواجبات فكيف يسقط بعجزه عن بعضها، وطواف الحائض قد قيل‏:‏ إنه يجزئ مطلقا، وعليها دم‏.‏
وأما تقديم طواف الفرض على الوقوف، فلا يجزي مع العمد بلا نزاع، وترتيب قضاء الفوائت يسقط بالنسيان عند أكثر /العلماء، ولا يسقط بالعجز عن بعض شروط الصلاة ولا بضيق الوقت عند أكثرهم‏.‏
وأيضا، فالمستحاضة ومن به سَلَس البول، ونحو هؤلاء، لو أمكنه أن يطوف قبل التعريف بطهارة، وبعد التعريف بهذا الحدث لم يطف إلا بعد التعريف، ولهذا لا يجوز للمرأة أن تصوم قبل شهر رمضان؛ لأجل الحيض في رمضان ولكن تصوم بعد وجوب الصوم‏.‏
وأيضا، فإن الأصول متفقة على أنه متي دار الأمر بين الإخلال بوقت العبادة، والإخلال ببعض شروطها، وأركانها، كان الإخلال بذلك أولي كالصلاة، فإن المصلى لو أمكنه أن يصلي قبل الوقت بطهارة وستارة، مستقبل القبلة، مجتنب النجاسة، ولم يمكنه ذلك في الوقت، فإنه يفعلها في الوقت على الوجه الممكن، ولا يفعلها قبله بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏
وكذلك ـ أيضا ـ لا يؤخر العبادة عن الوقت، بل يفعلها فيه بحسب الإمكان، وإنما يرخص للمعذور في الجمع لأن الوقت وقتان‏:‏ وقت مختص لأهل الرفاهية، ووقت مشترك لأهل الأعذار‏.‏ والجامع بين الصلاتين صلاهما في الوقت المشروع، لم يفوت واحدة منهما، ولا قدمها على الوقت المجزئ باتفاق العلماء‏.‏
/وكذلك الوقوف، لو فرضنا أنه أمكنه الوقوف قبل الوقت، أو بعده، إذا لم يمكنه في وقته، لم يكن الوقوف في غير وقته مجزيا باتفاق العلماء والطواف للإفاضة هو مشروع بعد التعريف، ووقته يوم النحر، وما بعده، وهل يجزئ بعد انتصاف الليل ليلة النحر‏؟‏ فيه نزاع مشهور‏.‏
فإذا تبين فساد هذه الأقسام الأربعة، بقي ‏[‏الخامس‏]‏ ‏:‏ وهو أنها تفعل ما تقدر عليه، ويسقط عنها ما تعجز عنه، وهذا هو الذي تدل عليه النصوص المتناولة لذلك، والأصول المتشابهة له، وليس في ذلك مخالفة الأصول، والنصوص التي تدل على وجوب الطهارة، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت‏)‏ إنما تدل على الوجوب مطلقًا، كقوله‏:‏ ‏(‏إذا أحدث أحكم فلا يصلي حتي يتوضأ‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة أحدكم حتي يتوضأ‏)‏ ، وقوله‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏حتيه، ثم اقرصيه ، ثـم اغسليـه، ثـم صلى فيه ‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ لا يطوف بالبيــت عريان ‏)‏، وأمـثال ذلك من النـصوص‏.‏ وقـد علم أن وجـوب ذلك جميعه مشروط بالـقدرة كـما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ ، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ‏)‏، وهذا تقسيم حاصر‏.‏
إذا تبين أنه لا يمكن أن تؤمر بالمقام مع العجز والضرر على نفسها /ودينها ومالها، ولا تؤمر بدوام الإحرام، وبالعود مع العجز، وتكرير السفر، وبقاء الضرر،من غير تفريط منها، ولا يكفي التحلل، ولا يسقط به الفرض، وكذلك سائر الشروط؛ كالستارة، واجتناب النجاسة، وهي في الصلاة أوكد - فإن غاية الطواف أن يشبه بالصلاة، وليس في الطواف نص ينفي قبول الطواف مع عدم الطهارة، والستارة، كما في الصلاة، ولكن فيه ما يقتضي وجوب ذلك‏.‏
ولهذا تنازع العلماء‏:‏ هل ذلك شرط‏؟‏ أو واجب ليس بشرط‏؟‏ ولم يتنازعوا أن ذلك شرط في صحة الصلاة، وأنه يستلزم أن تؤمر بترك الحج، ولا تؤمر بترك الحج بغير ما ذكرناه، وهو المطلوب‏.‏
الدليل الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ غاية ما في الطهارة أنها شرط في الطواف، ومعلوم أن كونها شرطًا في الصلاة أوكد منها في الطواف، ومعلوم أن الطهارة كالستارة، واجتناب النجاسة، بل الستارة في الطواف أوكد من الطواف؛ لأن ستر العورة يجب في الطواف، وخارج الطواف؛ ولأن ذلك من أفعال المشركين التي نهي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها نهيا عامًا؛ ولأن المستحاضة ومن به سَلَس البول ونحوهما، يطوف ويصلي باتفاق المسلمين، والحدث في حقهم من جنس الحدث في /حق غيرهم، لم يفرق بينهما إلا العذر‏.‏
وإذا كان كذلك، وشروط الصلاة تسقط بالعجز، فسقوط شروط الطواف بالعجز أولي وأحري، والمصلي يصلي عريانًا، ومع الحدث، والنجاسة في صورة المستحاضة، وغيرهما، ويصلي مع الجنابة وحدث الحيض مع التيمم، وبدون التيمم عند الأكثرين إذا عجز عن الماء، والتراب، لكن الحائض لا تصلي؛ لأنها ليست محتاجة إلى الصلاة مع الحيض، فإنها تسقط عنها إلى غير بدل؛ لأن الصلاة تتكرر بتكرر الأيام، فكانت صلاتها في سائر الأيام تغنيها عن القضاء؛ ولهذا أمرت بقضاء الصيام دون الصلاة؛ لأن الصوم شهر واحد في الحول، فإذا لم يمكنها أن تصوم طاهرًا في رمضان، صامت في غير شهر رمضان، فلم يتعدد الواجب عليها، بل نقلت من وقت إلى وقت، ولو قدر أنها عجزت عن الصوم عجزًا مستمرًا، كعجز الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، والمريض المأيوس من برئه، سقط عنها إما إلى بدل، وهو الفدية بإطعام مسكين عن كل يوم عند الأكثرين، كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏ وإما إلى غير بدل كقول مالك‏.‏
وأما الصلاة، فلا يمكن العجز عن جميع أركانها، بل يفعل منها ما يقدر عليه، فلو قدر أنه عجز عن جميع الحركات الظاهرة برأسه وبدنه سقطت عنه في أحد قولي العلماء، كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدى /الروايتين، وأحد القولين في مذهب مالك، وفي القول الآخر يومئ بطرفه ويستحضر الأفعال بقلبه، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏ والقول الأول أشبه بالأثر والنظر‏.‏
وأما الحج، فالتقدير أنه لا يمكنها أن تحج إلا على هذا الوجه، وإذا لم يمكنها ذلك كان هذا غاية المقدور، كما لو لم يمكنه أن يطوف إلا راكبًا، أو حامل النجاسة‏.‏
فإن قيل‏:‏ هنا سؤالان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه هلا جعلت الحائض كالمعضوب، فإن كانت ترجو أن تحج، ويمكنها الطواف وإلا استنابت‏؟‏
والثاني‏:‏ أنه إذا لم يسوغ لها الشارع الصلاة زمن الحيض، كما سوغها للجنب بالتيمم، وللمستحاضة، علم أن الحيض لا تصح معه العبادة بحال‏.‏
فيقال‏:‏ أما الأول فلأن المعضوب هو الذي يعجز عن الوصول إلى مكة، فأما من أمكنه الوصول إلى مكة وعجز عن بعض الواجبات فليس بمعضوب، كما لو أمكنه الوصول وعجز عن اجتناب النجاسة، مثل المستحاضة، ومن به سَلَس البول، ونحوهما، فإن عليه الحج بالإجماع،/ويسقط عنه ما يعجز عنه من الطهارة، وكذلك من لم يمكنه الطواف إلا راكبًا أو محمولًا، أو من لم يمكنه رمي الجمار ونحو ذلك فإنه يستنيب فيه ويحج ببدنه‏.‏
وأما صلاة الحائض، فليست محتاجة إليها؛ لأن في صلاة بقية الأيام غني عنها، ولهذا إذا استحيضت أمرت بالصلاة، مع الاستحاضة، ومع احتمال الصلاة مع الحيض، وإن كان خروج ذلك الدم وتنجيسها به يفسد الصلاة، لولا العذر‏.‏ فقد فرق الشارع بين المعذور وغيره في ذلك؛ ولهذا لو أمكن المستحاضة أن تطهر وتصلي حال انقطاع الدم وجب عليها ذلك، وإنما أباح الصلاة مع خروجه للضرورة‏.‏
فإن قيل‏:‏ فقد كان الجنب والمستحاضة ونحوهما يمكن إسقاط الصلاة عنه، كما أسقطت عن الحائض، ويكون صلاة بقية الأيام مغنية، فلما أمرها الشارع بالصلاة دون الحائض، علم أن الحيض ينافي الصلاة مطلقًا، وكذلك ينافي الطواف الذي هو كالصلاة‏.‏
فيقال‏:‏ الجنب ونحوه لا يدوم به موجب الطهارة، بل هو بمنزلة الحائض التي انقطع دمها، وهو متمكن من إحدى الطهارتين‏.‏ وأما المستحاضة فلو أسقط عنها الصلاة للزم سقوطها أبدًا،، فلما كان حدثها دائمًا لم تمكن الصلاة إلا معه، فسقط وجوب الطهارة عنها‏.‏ فهـذا دليل على أن /العبادة إذا لم يمكــن فعلها إلا مــع المحظــور، كان ذلك أولي مــن تركها، والأصـول كلها توافق ذلك، والجنب إذا عدم الماء والتراب صلى ـ أيضًا ـ في أشهــر قولي العلماء لعجزه عن الطهارة، فالحيض ينافي الصلاة مطلقًا لعدم الحاجة إلى الصــلاة مع الحيض، استغناء بتكرر أمثالها‏.‏ وأما الحج والطواف فيه فلا يتكرر وجــوبه، فــإن لم يصـح مع العـذر لزم ألا يصح مطلقًا‏.‏ والأصول قد دلت على أن العبادة إذا لم تمكن إلا مع العــذر كانت صحيحة مجزية معه بدون ما إذا فعلت بدون العذر، وقــد تبين أنه لا عذر للحائض في الصلاة مع الحيض، لاستغنائها بها عن ذلك بتكـرر أمثالها في غير أيام الحيض، بخلاف الطواف فإنه إذا لم يمكنها فعله إلا مع الحيض، لم تكــن مستغنية عنه بنظيره، فجاز لها ذلك، كسائر ما تعجز عنه من شروط العبادات‏.‏
الدليل الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ هذا نوع من أنواع الطهارة، فسقط بالعجز كغيره من أنواع الطهارة، فإنها لو كانت مستحاضة ولم يمكنها أن تطوف إلا مع الحدث الدائم، طافت باتفاق العلماء‏.‏ وفي وجوب الوضوء عليها خلاف مشهور بين العلماء وفي هذا صلاة مع الحدث، ومع حمل النجاسة، وكذلك لو عجز الجنب أو المحدث عن الماء والتراب صلى وطاف في أظهر قولي العلماء‏.‏
الدليل الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ شرط من شرائط الطواف، فسقط /بالعجز كغيره من الشرائط، فإنه لو لم يمكنه أن يطوف إلا عريانًا لكان طوافه عريانًا أهون من صلاته عريانًا، وهذا واجب بالاتفاق، فالطواف مع العربي إذا لم يمكن إلا ذلك أولي وأحري‏.‏
وإنما قل تكلم العلماء في ذلك لأن هذا نادر، فلا يكاد بمكة يعجز عن سترة يطوف بها، لكن لو قدر أنه سلب ثيابه، والقافلة خارجون لا يمكنه أن يتخلف عنهم، كان الواجب عليه فعل ما يقدر عليه من الطواف مع العري، كما تطوف المستحاضة، ومن به سَلَس البول مع أن النهي عن الطواف عريانًا أظهر وأشهر في الكتاب والسنة، من طواف الحائض‏.‏
وهذا الذي ذكرته هو مقتضي الأصول المنصوصة‏.‏ العامة المتناولة لهذه الصورة لفظًا ومعني، ومقتضي الاعتبار والقياس على الأصول التي تشابهها، والمعارض لها إنما لم يجد للعلماء المتبوعين كلامًا في هذه الحادثة المعينة، كما لم يجد لهم كلامًا فيما إذا لم يمكنه الطواف إلا عريانًا، وذلك لأن الصور التي لم تقع في أزمنتهم لا يجب أن تخطر بقلوبهم، ليجب أن يتكلموا فيها‏.‏ ووقوع هذا وهذا في أزمنتهم إما معدوم، وإما نادر جدًا، وكلامهم في هذا الباب مطلق عام، وذلك يفيد العموم، لو لم تختص الصورة المعينة بمعان توجب الفرق والاختصاص، وهذه الصورة قد لا يستحضرها المتكلم باللفظ العام من /الأئمة لعدم وجودها في زمنهم والمقلدون لهم ذكروا ما وجدوه من كلامهم‏.‏
ولهذا أوجب مالك وغيره على مكاريها أن يحتبس لأجلها إذا كانت الطرقات آمنة، ولا ضرر عليه في التخلف معها، وكانوا في زمن الصحابة وغيرهم يحتبس الأمير؛ لأجل الحيض، والمتأخرون من أصحاب مالك أسقطوا عن المكاري الوداع، وأسقط المبيت عن أهل السقاية، والرعاية، لعجزهم‏.‏ وعجزهم يوجب الاحتباس معها في هذه الأزمان، ولا ريب أن من قال‏:‏ الطهارة واجبة في الطواف وليست شرطًا، فإنه يلزمه أن يقول‏:‏ إن الطهارة في مثل هذه الصورة ليست واجبة لعدم القدرة عليها، فإنه يقول‏:‏ إذا طاف محدثًا وأبعد عن مكة لم يجب عليه العود للمشقة، فكيف يجب على هذه ما لا يمكنها إلا بمشقة أعظم من ذلك، لكن هناك من يقول‏:‏ عليه دم، وهنا يتوجه ألا يجب عليها دم؛ لأن الواجب إذا تركه من غير تفريط فلا دم عليه، بخلاف ما إذا تركه ناسيا أو جاهلًا، وقد يقال‏:‏ عليها دم لندور هذه الصورة، ونظير ذلك أن يمنعه عدو عن رمي الجمرة، فلا يقدر على ذلك حتي يعود إلى مكة، أو يمنعه العدو عن الوقوف بعرفة إلى الليل، أو يمنعه العدو عن طواف الوداع، بحيث لا يمكنه المقام حتي يودع‏.‏
/وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسقط عن الحائض طواف الوداع ومن قال‏:‏ إن الطهارة فرض في الطواف وشرط فيه، فليس كونها شرطًا فيه أعظم من كونها شرطًا في الصلاة‏.‏ ومعلوم أن شروط الصلاة تسقط بالعجز، فسقوط شروط الطواف بالعجز أولي وأحري‏.‏
هذا هو الذي توجه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا لما تجشمت الكلام، حيث لم أجد فيها كلامًا لغيري، فإن الاجتهاد عند الضرورة مما أمرنا الله به، فإن يكن ما قلته صوابًا فهو حكم الله ورسوله، والحمد لله،وإن يكن ما قلته خطأ فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من الخطأ، وإن كان المخطئ معفوًا عنه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ والحمد لله وحده، وصلي الله على محمد وآله وسلم تسليمًا‏.‏