فصل: في كثرة الاعتمار في رمضان للمكي وغيره
 
/فصل
وأما كثرة الاعتمار في رمضان للمكي وغيره، فهنا ثلاث مسائل مرتبة‏:‏
أحدها‏:‏ الاعتمار في العام أكثر من مرة، ثم الاعتمار لغير المكي ثم كثرة الاعتمار للمكي‏.‏
فأما كثرة الاعتمار المشروع‏:‏ كالذي يقدم من دويرة أهله، فيحرم من الميقات بعمرة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفعلون، وهذه من العمرة المشهورة عندهم، فقد تنازع العلماء هل يكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة واحدة، فكره ذلك طائفة‏:‏ منهم الحسن، وابن سيرين، وهو مذهب مالك‏.‏ وقال إبراهيم النَّخَعي‏:‏ ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة واحدة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يعتمرون إلا عمرة واحدة، لم يعتمروا في عام مرتين، فتكره الزيادة على ما فعلوه، كالإحرام من فوق الميقات، وغير ذلك؛ ولأنه في كتاب النبيصلي الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم‏:‏ إن العمرة هي الحج الأصغر، وقد دل /القرآن على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ ، والحج لا يشرع في العام إلا مرة واحدة، فكذلك العمرة‏.‏
ورخص في ذلك آخرون‏.‏ منهم من أهل مكة‏:‏ عطاء، وطاوس، وعِكْرِمة وهو مذهب الشافعي، وأحمد‏.‏ وهو المروي عن الصحابة‏.‏ كعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وعائشة؛ لأن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، عمرتها التي كانت مع الحجة، والعمرة التي اعتمرتها من التنعيم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الحصبة، التي تلي أيام مني، وهي ليلة أربعة عشر من ذي الحجة، وهذا على قول الجمهور الذين يقولون لم ترفض عمرتها، وإنما كانت قارنة‏.‏
وأيضًا، ففي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة‏)‏ وهذا مع إطلاقه وعمومه، فإنه يقتضي الفرق بين العمرة والحج، إذ لو كانت العمرة لا تفعل في السنة إلا مرة لكانت كالحج، فكان يقال‏:‏ الحج إلى الحج‏.‏
وأيضًا، فإنه أقوال الصحابة‏.‏ روي الشافعي عن على بن أبي طالب أنه قال‏:‏ في كل شهر مرة، وعن أنس أنه كان إذا حمم رأسه /خرج فاعتمر، وروي وَكِيع عن إسرائيل عن سُوَيد بن أبي ناجية عن أبي جعفر قال‏:‏ قال على‏:‏ اعتمر في الشهر إن أطقت مرارًا‏.‏ وروي سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي حسين عن بعض ولد أنس‏:‏ أن أنسًا كان إذا كان بمكة فحمم رأسه خرج إلى التنعيم، واعتمر‏.‏
وهذه ـ والله أعلم ـ هي عمرة المحرم، فإنهم كانوا يقيمون بمكة إلى المحرم، ثم يعتمرون‏.‏ وهو يقتضي أن العمرة من مكة مشروعة في الجملة، وهذا مما لا نزاع فيه، والأئمة متفقون على جواز ذلك، وهو معني الحديث المشهور مرسلا‏:‏ عن ابن سيرين، قال‏:‏ وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة التنعيم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يعتمر إذا أمكن الموسي من رأسه، إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين، وفي رواية عنه‏:‏ اعتمر في الشهر مرارًا‏.‏
وأيضًا، فإن العمرة ليس لها وقت يفوت به كوقت الحج، فإذا كان وقتها مطلقًا في جميع العام، لم تشبه الحج في أنها لا تكون إلا مرة‏.‏