فَصْــل: ‏زيارة بيت المقدس
 
كُتب الفقــه
الجزء السابع
الزيارة وشد الرحال إليها
/قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏
فَصْــل
في ‏[‏زيارة بيت المقدس‏]‏ ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا‏)‏، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وقد روى من طرق أخرى، وهو حديث مستفيض /متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق‏.‏
واتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه، كالصلاة، والدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، والاعتكاف‏.‏ وقد روى من حديث رواه الحاكم في صحيحه‏:‏ ‏(‏أن سليمان ـ عليه السلام ـ سأل ربه ثلاثًا‏:‏ ملكًا لا ينبغى لأحد من بعده، وسأله حكمًا يوافق حكمه، وسأله أنه لا يؤم أحد هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غُفِرَ له‏)‏، ولهذا كان ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ يأتي إليه في صلى فيه ولا يشرب فيه ماء؛ لتصيبه دعوة سليمان لقوله‏:‏ ‏(‏لا يريد إلا الصلاة فيه‏)‏، فإن هذا يقتضي إخلاص النية في السفر إليه، ولا يأتيه لغرض دنيوي ولا بدعة‏.‏
وتنازع العلماء فيمن نذر السفر إليه في الصلاة فيه أو الاعتكاف فيه‏:‏ هل يجب عليه الوفاء بنذره‏؟‏ على قولين مشهورين، وهما قولان للشافعي‏:‏
أحدهما‏:‏ يجب الوفاء بهذا النذر، وهو قول الأكثرين، مثل مالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهما‏.‏
والثإني‏:‏ لا يجب، وهو قول أبي حنيفة، فإن من أصله أنه لا يجب النذر إلا ما كان جنسه واجبًا بالشرع، فلهذا يوجب نذر /الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، فإن جنسها واجب بالشرع ولا يوجب نذر الاعتكاف، فإن الاعتكاف لا يصح عنده إلا بصوم، وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏
وأما الأكثرون، فيحتجون بما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من نذر أن يُطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يَعْصي الله فلا يَعْصه‏)‏‏.‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر لكل من نذر أن يطيع الله، ولم يشترط أن تكون الطاعة من جنس الواجب بالشرع، وهذا القول أصح‏.‏
وهكذا النزاع لو نذر السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه أفضل من المسجد الأقصى‏.‏ وأما لو نذر إتيان المسجد الحرام لحج أو عمرة، وجب عليه الوفاء بنذره باتفاق العلماء‏.‏
والمسجد الحرام أفضل المساجد، ويليه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويليه المسجد الأقصى، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏صَلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام‏)‏‏.‏
والذي عليه جمهور العلمـاء‏:‏ أن الصـلاة في المسـجد الحـرام أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى أحمد والنسائي وغيرهما /عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة‏)‏‏.‏ وأما في المسجد الأقصى، فقد روى أنها بخمسين صلاة، وقيل‏:‏ بخمسمائة صلاة، وهو أشبه‏.‏
ولو نذر السفر إلى قبر الخليل ـ عليه السلام ـ أو قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى ‏[‏الطور‏]‏، الذي كلم الله عليه موسى ـ عليه السلام ـ أو إلى جبل حراء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه وجاءه الوحى فيه، أو الغار المذكور في القرآن، وغير ذلك من المقابر والمقامات والمشاهد المضافة إلى بعض الأنبياء والمشائخ، أو إلى بعض المغارات، أو الجبال، لم يجب الوفاء بهذا النذر، باتفاق الأئمة الأربعة، فـإن السفر إلى هذه المواضع منهى عنه؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏)‏‏.‏ فإذا كانت المساجد التى هي من بيوت الله التى أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها، حتى مسجد قباء الذي يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا‏.‏ وروى الترمذى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كعمرة‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏
/ فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه، وينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن، وكما ذكر مالك المواضع التى لم تبن للصلوات الخمس؛ بل ينهى عن اتخاذها مساجد، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد‏)‏ ـ يحذر ما فعلوا ـ قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏؛ ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى شيء من مشاهد الأنبياء لا مشهد إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ولا غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج صلى في بيت المقدس ركعتين كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ولم يصل في غيره ‏.‏ وأما ما يرويه بعض الناس من حديث المعراج أنه صلى في المدينة، و صلى عند قبر موسى ـ عليه السلام ـ و صلى عند قبر الخليل، فكل هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة‏.‏
وقد رَخّص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ولا احتجوا بحجة شرعية‏.‏