سئل: هل الأفضل المجاورة بمكة أو بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أو المسجد الأقصى؟
 
وَسُئِــل الشيّخ ـ رحمه الله‏:‏
هل الأفضل المجاورة بمكة، أو بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أو المسجد الأقصى، أؤ بثَغْر من الثغور لأجل الغزو، وفيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من زار قبري وجبت له شفاعتي‏)‏، و‏(‏من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني‏)‏ ‏؟‏ وهل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاستحباب أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة، بل قد اختلفوا في المجاورة‏:‏ فكرهها أبو حنيفة، واستحبها مالك وأحمد وغيرهما، ولكن المرابطة عندهم أفضل من المجاورة، وهذا متفق عليه بين السلف، حتى قال أبو هريرة ـ رضى الله عنه ـ‏:‏ لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود‏.‏ وذلك أن الرباط من جنس الجهاد، وجنس الجهاد مقدم على جنس الحج، كما في الصحيحين عن النبي/ صلى الله عليه وسلم أنه قيل له‏:‏ أى العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الإيمان بالله ورسوله‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏جهاد في سبيل الله‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏حج مبرور‏)‏‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏:‏ 22‏]‏‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏(‏من زار قبري وجبت له شفاعتي‏)‏‏:‏ فهذا الحديث رواه الدارقطني ـ فيما قيل ـ بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد‏.‏
وأما الحديث الآخر‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏من حج البيت ولم يزرنى فقد جفإني‏)‏، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه مخالف للإجماع؛ فإن جفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبائر، بل هو كفر ونفاق، بل يجب أن يكون أحب إلينا من أهلينا وأموالنا، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين‏)‏‏.‏
/ وأما ‏[‏زيارته‏]‏ فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنة، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم‏.‏ فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏ وأكثر ما اعتمده العلماء في ‏[‏الزيارة‏]‏ قوله في الحديث الذي رواه أبو داود‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يُسلِّم عَلَىَّ، إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام‏)‏‏.‏ وقد كره مالك وغيره أن يقال‏:‏ زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد كان الصحابة ـ كابن عمر وأنس وغيرهما ـ يسلمون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، كما في الموطأ‏:‏ أن ابن عمر كان إذا دخل المسجد يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت‏.‏
وشد الرحل إلى مسجده مشروع باتفاق المسلمين، كما في الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام‏)‏‏.‏ فإذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسلم عليه وعلى صاحبيه، كما كان الصحابة يفعلون‏.‏
وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده، فهذه المسألة فيها خلاف‏.‏ فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير /مشروع، ولا مأمور به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى‏)‏‏.‏ ولهذا لم يذكر العلماء أن مثل هذا السفر إذا نذره يجب الوفاء به، بخلاف السفر إلى المساجد الثلاثة لا للصلاة فيها والاعتكاف، فقد ذكر العلماء وجوب ذلك في بعضها ـ في المسجد الحرام ـ وتنازعوا في المسجدين الآخرين‏.‏
فالجمهور يوجبون الوفاء به في المسجدين الآخرين؛ كمالك والشافعي وأحمد؛ لكون السفر إلى الفاضل لا يغنى عن السفر إلى المفضول‏.‏ وأبو حنيفة إنما يوجب السفر إلى المسجد الحرام؛ بناء على أنه إنما يوجب بالنذر ما كان جنسه واجبًا بالشرع‏.‏ والجمهور يوجبون الوفاء بكل ما هو طاعة؛ لما في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من نَذَر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏)‏‏.‏ بل قد صرح طائفة من العلماء ـ كابن عقيل وغيره ـ بأن المسافر لزيارة قبور الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وغيرها لا يقصر الصلاة في هذا السفر؛ لأنه معصية، لكونه معتقدًا أنه طاعة وليس بطاعة، والتقرب إلى الله عز وجل بما ليست بطاعة هو معصية؛ ولأنه نهى عن ذلك والنهي يقتضي التحريم‏.‏
ورخص بعض المتـأخرين في السـفر لزيـارة القبور، كما ذكر أبو حامد في ‏[‏الإحياء‏]‏ وأبو الحسن ابن عبدوس، وأبو محمد المقدسي، وقد روى حديثًا رواه الطبرإني من حديث ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من جاءني زائرًا لا تنزعه إلا زيارتي كان حقًا على أن أكون له شفيعًا يوم القيامة‏)‏‏.‏ لكنه من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر العمري، وهو مضعف؛ ولهذا لم يحتج بهذا الحديث أحد من السلف والأئمة‏.‏ وبمثله لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء المسلمين، والله أعلم‏.