سئل: عن جبل لبنان‏‏‏:‏ هل ورد في فضله نص في كتاب الله تعالى أو حديث؟
 
/وَسُئِلَ ـ رحمه الله تعالى ـ عن ‏[‏جبل لبنان‏]‏‏:‏ هل ورد في فضله نص في كتاب الله تعالى، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ وهل يحل في دين الله تعالى أن يصقع الناس إليه برؤوسهم إذا أبصروه‏؟‏ وحتى من أبصره صباحا أو مساء يرى أن ذلك بركة عظيمة‏؟‏ وهل ثبت عند أهل العلم أن فيه أربعين من الأبدال‏؟‏ أو كان فيه رجال عليهم شعر مثل شعر الماعز‏؟‏ وهل هذه صفة الصالحين‏؟‏ وهل يجوز أن يعقد له نية الزيارة‏؟‏ أو يعتقد أن من وطئ أرضه فقد وطئ بعض الجبل المخصوص بالرحمة‏؟‏ وهل ثبت أن فيه نبيا من الأنبياء مدفون أو في أذياله‏؟‏ أو قال أحد من أهل العلم‏:‏ إن فيه رجال الغيب‏؟‏ وكيف صفة رجال الغيب الذين يعتقد العوام فيهم‏؟‏ وهل يحل في دين الله تعالى أن يعتقد المسلمون شيئاً من هذا‏؟‏ وهل يكون كل من كابر فيه وحسنه أو داهن فيه مخطئاً آثماً‏؟‏ وهل يكون المنكر لهذا كله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحالة هذه أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
ليس في فضل ‏[‏جبل لبنان‏]‏ وأمثاله نص لا عـن الله /ولا عـن رسوله، بل هـو وأمثالـه مـن الجبال التي خلقـها الله وجعلها أوتـادا للأرض، وآيـة مـن آياتـه، وفيها مـن منافع خلقـه مـا هـو نعم لله على عباده‏.‏ وسـوف يفعل بها ما أخبر بـه في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105‏:‏ 107‏]‏‏.‏
وأما ما ذكر في بعض الحكايات عن بعض الناس من الاجتماع ببعض العباد في جبل لبنان، وجبل اللكام، ونحو ذلك، وما يؤثر عن بعض هؤلاء من جميع المقال والفعال، فأصل ذلك‏:‏ أن هذه الأمكنة كانت ثغورا يرابط بها المسلمون لجهاد العدو؛ لما كان المسلمون قد فتحوا الشام كله وغير الشام، فكانت غزة، وعسقلان، وعكة، وبيروت، وجبل لبنان، وطرابلس، ومصيصة، وسيس، وطرسوس وأذنة، وجبل اللكام، وملطية، وآمد، وجبل ليسون، إلى قزوين إلى الشاش، ونحو ذلك من البلاد، كانت ثغورا، كما كانت الإسكندرية ونحوها ثغورا، وكذلك عبادان ونحوها من أرض العراق‏.‏ وكان الصالحون يتناوبون الثغور لأجل المرابطة في سبيل الله، فإن المقام بالثغور لأجل الجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، ما أعلم في ذلك خلافا بين العلماء‏.‏
وثبت في صحيح مسلم عن سلمان الفارسى ـ رضي الله عنه قال‏:‏ قال / رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا مات مجاهدا، وجرى عليه عمله، وأجرى عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان‏)‏‏.‏ وفي السنن عن عثمان ابن عفان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل‏)‏‏.‏ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏ لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود‏.‏
وذلك لأن الرباط هو من جنس الجهاد، والمجاورة من جنس النسك، وجنس الجهاد في سـبيل الله أفضل مـن جنس النسك؛ بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19- 22‏]‏‏.‏ وفضائل الجهاد والرباط كثيرة‏.‏
فلذلك كان صالحو المؤمنين يرابطون في الثغور، مثل ما كان الأوزاعي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، وإبراهيم بن /أدهم، وعبد الله بن المبارك، وحذيفة المرعشي، ويوسف بن أسباط، وغيرهم، يرابطون بالثغور الشامية‏.‏ ومنهم من كان يجيء من خراسان والعراق وغيرهما للرباط في الثغور الشامية؛ لأن أهل الشام هم الذين كانوا يقاتلون النصارى أهل الكتاب‏.‏ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من قتله أهل الكتاب فله أجر شهيدين‏)‏؛ وذلك لأن هؤلاء يقاتلون على دين‏.‏ وأما الكفار الترك ونحوهم فلا يقاتلون على دين، فإذا غلبوا أولئك أفسدوا الدين والملك‏.‏ وأما الترك فيفسدون الملك وما يتبع ذلك من الدين، ولا يقاتلون على الدين‏.‏
ولهذا كثر ذكر ‏[‏طرسوس‏]‏ في كتب العلم والفقه المصنفة في ذلك الوقت، لأنها كانت ثغر المسلمين، حتى كان يقصدها أحمد بن حنبل، والسري السقطي؛ وغيرهما من العلماء والمشائخ للرباط، وتوفي المأمون قريبا منها‏.‏
فعامة ما يوجد في كلام المتقدمين من فضل عسقلان، والإسكندرية، أو عكة، أو قزوين، أو غير ذلك، وما يوجد من أخبار الصالحين الذين بهذه الأمكنة ونحو ذلك، فهو لأجل كونها كانت ثغورا، لا لأجل خاصية ذلك المكان‏.‏ وكون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها اللازمة لها، بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر، أو دار حرب، أو دار سلم، أو دار علم وإيمان، أو دار / جهل ونفاق‏.‏ فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإن مزيتها صفة لازمة لها، لا يمكن إخراجها عن ذلك‏.‏ وأما سائر المساجد فبين العلماء نزاع في جواز تغييرها للمصلحة، وجعلها غير مسجد، كما فعل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بمسجد الكوفة لما بدله وجعل المسجد مكانا آخر، وصار الأول حوانيت التمارين‏.‏ وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره‏.‏