فصــل: جبل لبنان كان ثغرا
 
فصــل
إذا عرف ذلك، فهذه السواحل الشامية كانت ثغوراً للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة، وكان المسلمون قد فتحوا ‏[‏قبرص‏]‏ في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ فتحها معاوية، فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة، وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب، وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام، وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام؛ سواحله وغير سواحله، وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح ولا دنيا منصـورة، فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام، بل وأكثر بلاد الشام، وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم، وأخذوا منهم ما أخذوا، إلى أن يسر / الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل ‏[‏نور الدين‏]‏ و‏[‏صلاح الدين‏]‏ وغيرهما، فاستنقذوا عامة الشام من النصارى‏.‏
وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره، وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى‏.‏ وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض، ليس فيه من الفضيلة شيء، ولا يشرع، بل ولا يجوز المقام بين نصارى أو روافض يمنعون المسلم عن إظهار دينه‏.‏
ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلي عن الناس ـ زهدا ونسكا ـ يحسب أن فضل هذا الجبل ونحوه، لما فيه من الخلوة عن الناس، وأكل المباحات من الثمار التي فيه، فيقصدونه لأجل ذلك غلطا منهم، وخطأ، فإن سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعا للمسلمين إلا عند الفتنة في الأمصار التي تحوج الرجل إلى ترك دينه؛ من فعل الواجبات وترك المحرمات، فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه؛ فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه‏.‏
وربما كان بعض الأوقات من هؤلاء النساك الزهاد طائفة إما ظالمون لأنفسهم، وإما مقتصدون مخطئون مغفور لهم خطؤهم، فأما السابقون / المقربون فهم الذين تقربوا إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه عن الله تعالى‏:‏ ‏(‏ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعلة ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه‏)‏‏.‏
ولا خلاف بين المسلمين أن جنـس النساك الزهاد الساكنين في الأمصار أفضـل من جنـس ساكني البوادي والجبال، كفضيلة القروي على البدوي، والمهاجر على الأعرابي، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن من الكبائر أن يرتد الرجل أعرابيا بعد الهجرة‏)‏‏.‏ هذا لمن هو ساكن في البادية بين الجماعة، فكيف بالمقيم وحده دائما في جبل أو بادية‏؟‏‏!‏ فإن هذا يفوته من مصالح الدين نظير ما يفوته من مصالح الدنيا أو قريب منه؛ فإن يد الله على الجماعة، والشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد‏.