فصــل: ليس في جبل لبنان الأربعين الأبدال
 
فصــل
وأما اعتقاد بعض الجهال أن به ‏[‏الأربعين الأبدال‏]‏، فهذا جهل وضلال، ما اجتمع به الأبدال الأربعون قط، ولا هذا مشروع لهم، ولا فائدة في ذلك، واعتقاد جهال الجمهور هذا يشبه اعتقاد الرافضة في الخليفة الحجة صاحب الزمان عندهم، الذى يقولون‏:‏ إنه غائب عن الأبصار، حاضر في الأمصار‏.‏ ويعظمون قدره، ويرجون بركته‏.‏ وهو معدوم لا حقيقة له، فكل من علق دينه بالمجهولات، وأعرض عما بعث اللّه به نبيه من الهدى ودين الحق، فهو من أهل الضلال الخارج عن شريعة الإسلام، بل فيه في هذه الأوقات المتأخرة أهل الضلال من النصارى، والنصيرية، والرافضة، الذين غزاهم المسلمون‏.‏
وكذلك قول كثير من الجهال وأهل الإفك والمحال‏:‏ أن به أو بغيره ‏[‏رجال الغيب‏]‏، وتعظيمهم لهؤلاء هو نوع من الضلال الذى استحوذوا به على الجهال، من الأتراك والأعراب، والفلاحين، والعامة، أضلوهم بذلك عن حقيقة الدين، وأكلوا به أموالهم بالباطل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏34‏]‏‏.‏
ولم يكن من أنبياء اللّه وأوليائه من كان غائب الجسد عن أبصار الناس، ولكن كثير منهم قد تغيب عن الناس حقيقة قلبه، وما في باطنه من ولاية اللّه، وعظيم العلم والإيمان، والأحوال الزكية، فيكون في الأمصار والمساجد، وبين الناس من يكون من أولياء اللّه وأكثر الناس لا يعلمون حاله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رب أشعث، أغبر، ذى طِمْرَين، مدفوع بالأبواب‏:‏ لو أقسم على اللّه لأبره‏)‏، أى‏:‏ قد يكون فيمن تنبو عنه الأبصار لرثاثة حاله من يبر اللّه قسمه، وليس هذا وصفاً لازماً، بل ولاية اللّه هى ما ذكرنا في قوله‏:‏‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏ فأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون في جميع الأصناف المباحة‏.‏
وكذلك خبر الرجل الذى نبت الشعر على جميع بدنه كالماعز باطل ومحال‏.‏ نعم يكون في الضلال من الزهاد من يترك السنة حتى ينبت الشعر ويكثر على جسده، وهذا ينبغى أن يؤمر بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من إحفاء الشوارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك‏.‏
فإن ظن أن غير هدى النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، /أو أن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ـ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام ـ فهذا كافر يجب قتله بعد استتابته؛ لأن موسى ـ عليه السلام ـ لم تكن دعوته عامة، ولم يكن يجب على الخضر اتباع موسى ـ عليهما السلام ـ بل قال الخضر لموسى‏:‏ إنى على علم من اللّه علمنيه اللّه لا تعلمه، وأنت على علم من اللّه علمكه اللّه لا أعلمه‏.‏
فأما محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب فهو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين؛ الجن والإنس، عربهم وعجمهم، دانيهم وقاصيهم، ملوكهم ورعيتهم، زهادهم وغير زهادهم‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏158‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏)‏‏.‏ وهو خاتم الرسل، ليس بعده نبي ينتظر، ولا كتاب يرتقب، بل هو آخر الأنبياء، والكتاب الذى أنزل عليه مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏.‏ فمن اعتقد أن لأحد من جميع الخلق علمائهم وعبادهم وملوكهم خروجا عن اتباعه وطاعته وأخذ ما بعث به من الكتاب والحكمة، فهو كافر‏.‏
ويجب التفريق بين العبادات الإسلامية الإيمانية النبوية الشرعية التى/ يحبها اللّه ورسوله وعباده المؤمنون، وبين العبادات البدعية الضلالية الجاهلية التى قال اللّه فيها‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏21‏]‏‏.‏ وإن ابتلى بشىء منها بعض أكابر النساك والزهاد‏.‏ ففي الصحاح عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن بعض أصحابه قال‏:‏ أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكنى أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم‏.‏ فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏‏.‏ والراغب عن الشىء الذى لا يحبه ولا يريده، بل يحب ويريد ما ينافي المشروع الذى أحبه اللّه ورسوله، فقد تبرأ منه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، مثل الذى يتعرى دائماً، أو يصمت دائماً، أو يسكن وحده في البرية دائماً، أو يترك أكل الخبز واللحم دائماً، أو يترهب دائماً؛ متعبداً بذلك، ظاناً أن هذا يحبه اللّه ورسوله؛ دون ضده من اللباس بالمعروف، والكلام بالمعروف، والأكل بالمعروف، ونحو ذلك‏.‏
وإذا عرف هذا، فكل ما ذكر من الانحناء للجبل المذكور ونحوه، أو لمن فيه، أو زيارته بلا قصد للجهاد، أو لأمر مشروع، فهو من الجهالات والضلالات‏.‏ وكذلك التبرك بما يحمل منه من الثمار هو من /البدع الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية والشركية، وقد جاء في الحديث المعروف‏:‏ أن بصرة بن أبي بصرة الغفارى رأى أبا هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ وقد سافر إلى الطور الذى كلم اللّه موسى عليه ـ فقال‏:‏ لو رأيتك قبل أن تذهب إليه لم أدعك تذهب إليه؛ لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا‏)‏‏.‏ فإذا كان السفر لزيارة الطور ـ الذى كلم اللّه عليه موسى، وسماه ‏[‏الوادى المقدس‏]‏، و‏[‏البقعة المباركة‏]‏ ـ لا يشرع، فكيف بالسفر لزيارة غيره من الأطوار ‏؟‏‏!‏ فإن ‏[‏الطور‏]‏ هو الجبل، والأطوار الجبال‏.‏
وأما القبر المشهور في سفحه بالكرك الذى يقال‏:‏ إنه ‏[‏قبر نوح‏]‏ فهو باطل محال، لم يقل أحد ممن له علم ومعرفة‏:‏ إن هذا قبر نوح، ولا قبر أحد من الأنبياء أو الصالحين، ولا كان لهذا القبر ذكر ولا خبر أصلا، بل كان ذلك المكان حاكورة يزرع فيها، ويكون بها الحاكة إلى مدة قريبة‏.‏ رأوا هناك قبراً فيه عظم كبير، وشموا فيه رائحة، فظن الجهلاء أنه لأجل تلك الرائحة يكون قبر نبي‏.‏ وقالوا‏:‏ من كان من الأنبياء كبيراً‏؟‏ فقالوا‏:‏ نوح‏.‏ فقالوا‏:‏ هو قبر نوح، وبنوا عليه في دولة الرافضة الذين كانوا مع الناصر صاحب حلب ذلك القبر، وزيد بعد ذلك في دولة الظاهر، فصار وثنا يشرك به الجاهلون، /وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏)‏‏.‏ فلو كان قبر نبي لم يتجرد العظم‏.‏ وقد حدثنى من ثقات أهل المكان عن آبائهم من ذكر‏:‏ أنهم رأوا تلك العظام الكبيرة فيه، وشاهدوه قبل ذلك مكاناً للزرع والحياكة‏.‏ وحدثنى من الثقات من شاهد في المقابر القريبة منه رؤوساً عظيمة جداً تناسب تلك العظام، فعلم أن هذا وأمثاله من عظام العمالقة، الذين كانوا في الزمن القديم أو نحوهم‏.‏
ولو كان قبر نبي أو رجل صالح لم يشرع أن يبنى عليه مسجد بإجماع المسلمين، وبسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه، كما قال في الصحاح‏:‏ ‏(‏لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتحذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏
ولا تستحب الصلاة، لا الفرض ولا النفل، عند قبر نبي ولا غيره بإجماع المسلمين، بل ينهى عنه، وكثير من العلماء يقول‏:‏ هى باطلة؛لما ورد في ذلك من النصوص، وإنما البقاع التى يحبها اللّه ويحب الصلاة والعبادة فيها هى المساجد التى قال اللّه فيها‏:‏ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أى البقاع أحب إلى اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏المساجد‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ فأى البقاع أبغض إلى اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الأسواق‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من غدا إلى المسجد أو راح أعد اللّه له نُزلا كلما غدا أو راح‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن العبد إذا تطهر فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، كانت خطوتاه، إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة‏)‏‏.‏
فدين الإسلام هو اتباع ما بعث اللّه به رسوله من أنواع المحبوبات، واجتناب ما كرهه اللّه ورسوله من البدع والضلالات، وأنواع المنهيات‏.‏ فالعبادات الإسلامية، مثل الصلوات المشروعة، والجماعات، والجمعات، وقراءة القرآن، وذكر اللّه الذى شرعه لعباده المؤمنين، ودعائه، وما يتبع ذلك من أحوال القلوب، وأعمال الأبدان، وكذلك أنواع الزكوات؛ من الصدقات، وسائر الإحسان إلى الخلق، فإن كل معروف صدقة، وكذلك سائر العبادات المشروعة، فنسأل اللّه العظيم أن يثبتنا عليها وسائر إخواننا المؤمنين، واللّه سبحانه أعلم‏.‏