وسئل:عن هؤلاء ‏الزائرين قبور الأنبياء والصالحين‏‏ كقبر الخليل وغيره؟
 

وَسُئِل ـ رحمه الله ـ عن هؤلاء ‏[‏الزائرين قبور الأنبياء والصالحين‏]‏ كقبر الخليل وغيره، فيأتون إلى الضريح ويقبلونه، والقوام بذلك المكان، أي من جاء يأتونه ويجيئون به إلى الضريح، فيعلمونهم ذلك، ويقرونهم عليه‏.‏ فهل هذا ما أمر الله تعالى به ورسوله أم لا‏؟‏ وهل في ذلك ثواب وأجر أم لا‏؟‏ وهل هو من الدين الذي بعث الله ـ سبحانه ـ به رسوله صلى الله عليه وسلم أم لا‏؟‏ وإذا لم يكن كذلك وكان أناس يعتقدون أن هذا من الدين ويفعلونه على هذا الوجه، فهل يجب أن ينهوا عن ذلك أم لا‏؟‏ وهل استحب هذا أحد من الأئمة الأربعة أم لا‏؟‏ وهل كانت الصحابة والتابعون يفعلون ذلك أم لا‏؟‏ وإذا كان في القوام أو غيرهم من يفعل ذلك، أو يأمر به أو يقر عليه لأجل جعل يأخذه أو غير ذلك، فهل يثاب ولي الأمر على منع هؤلاء أم لا‏؟‏ وهل إذا لم ينتهوا عن ذلك فهل لولي الأمر أن يصرف عن الولاية من لم ينته منهم أم لا‏؟‏ والكسب الذي يكسبه الناس من مثل هذا الأمر هل هو كسب طيب أو خبيث‏؟‏ وهل يستحقون مثل هذا الكسب، أم يؤخذ منهم ويصرف في / مصالح المسلمين‏؟‏ وهل يجوز أن يقام إلى جانب ‏[‏مسجد الخليل‏]‏ السماع الذي يسمونه ‏[‏النوبة الخليلية‏]‏ ويقام عند ذلك سماع يجتمعون له ، الفقراء وغيرهم وفيه الشبابة أم لا ‏؟‏ والذي يصفر بالشبابة مؤذن بالمكان المذكور هل يفسق أم لا‏؟‏ وهل إذا لم ينته يصرفه ولي الأمر أم لا‏؟‏ وإذا لم يستطع ولي الأمر أن يزيل ذلك، فهل له أن ينقل هذه النوبة المذكورة إلى مكان لا يمكن الرقص فيه لضيق المكان أم لا‏؟‏
فأجاب ـ رضي الله عنه ‏:‏
الحمد لله رب العالمين، لم يأمر الله ولا رسوله ولا أئمة المسلمين بتقبيل شيء من قبور الأنبياء والصالحين، ولا التمسح به، لا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا قبر الخليل صلى الله عليه وسلم، ولا قبر غيرهما، بل ولا بالتقبيل والاستلام لصخرة بيت المقدس، ولا الركنين الشاميين من البيت العتيق، بل إنما يستلم الركنان إلىمانيان فقط؛ اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يستلم إلا إلىمانيين، ولم يقبل إلا الحجر الأسود‏.‏ واتفقوا على أن الشاميين لا يستلمان ولا يقبلان‏.‏
واتفقوا على أن إليمانيين يستلمان، واتفقوا على تقبيل الأسود‏.‏
وتنازعوا في تقبيل إليماني‏؟‏ على ثلاثة أقوال معروفة‏.‏ قيل‏:‏ / يقبل‏.‏وقيل‏:‏يستلم وتقبل اليد‏.‏ وقيل‏:‏ يستلم، ولا تقبل اليد‏.‏ وهذا هو الصحيح، فإن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استلمه ولم يقبله، ولم يقبل يده لما استلمه، ولا أجر ولا ثواب فيما ليس بواجب ولا مستحب؛ فإن الأجر والثواب إنما يكون على الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة إما واجبة وإما مستحبة‏.‏
فإذا كان الاستلام والتقبيل لهذه الأجسام ليس بواجب ولا مستحب لم يكن في ذلك أجر ولا ثواب، ومن اعتقد أنه يؤجر على ذلك ويثاب فهو جاهل ضال مخطئ، كالذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا سجد لقبور الأنبياء والصالحين، والذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا دعاهم من دون الله، والذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا صور صورهم، كما يفعل النصارى ودعا تلك الصور، وسجد لها، ونحو ذلك من البدع التي ليست واجبة ولا مستحبة، بل هي إما كفر وإما جهل وضلال‏.‏
وليس شيء من هذا من الدين الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين‏.‏ ومن اعتقد أن هذا من الدين وفعله وجب أن ينهى عنه، ولم يستحب هذا أحد من الأئمة الأربعة، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏.‏
ومن أمر الناس بشيء من ذلك أو رغبهم فيه أو أعانهم عليه /من القوام أو غير القوام، فإنه يجب نهىه عن ذلك، ومنعه منه‏.‏ ويثاب ولي الأمر على منع هؤلاء، ومن لم ينته عن ذلك فإنه يعزر تعزيرًا يردعه‏.‏ وأقل ذلك أن يعزل عن القيامة، ولا يترك من يأمر الناس بما ليس من دين المسلمين‏.‏
والكسب الذي يكسب بمثل ذلك خبيث، من جنس كسب الذين يكذبون على الله ورسوله، ويأخذون على ذلك جُعْلاً، ومن جنس كسب سَدَنة الأصنام الذين يأمرون بالشرك ويأخذون على ذلك جعلا؛ فإن هذه الأمور من جملة ما نهى عنه من أسباب الشرك ودواعيه وأجزائه، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد‏)‏‏.‏ رواه مالك في الموطأ وغيره‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ وفي الصحيحين عنه‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ ـ يحذر ما فعلوا‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وفي الصحيح عنه‏:‏ أنه قال قبل أن يموت بخمس‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من شرار الناس من / تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد‏)‏‏.‏ والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة‏.‏
ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى ‏[‏قبر الخليل‏]‏ ولا غيره من قبور الصالحين، ولا سافروا إلى زيارة ‏[‏جبل طور سيناء‏]‏ وهو ‏{‏الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 30‏]‏، و‏[‏الوادي المقدس‏]‏ الذي ذكره الله في كتابه، وكلم عليه كليمه موسى، بل ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حياته وبعد مماته يزورون ‏[‏جبل حِرَاء‏]‏ الذي نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يكونوا يزورون بمكة غير المشاعر ـ كالمسجد الحرام ، ومني، ومزدلفة وعرفة ـ في الحج‏.‏ وكذلك لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقصد الدعاء عند قبر أحد من الأنبياء، لا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا قبر الخليل، ولا غيرهما‏.‏
ولهذا ذكر الأئمة ـ كمالك وغيره ـ أن هذا بدعة، بل كانوا إذا أتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه، ويصلون عليه، كما ذكر مالك في الموطأ‏:‏ أن ابن عمر كان إذا أتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وعلى أبي بكر وعمر‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ كان يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت‏.‏ ثم ينصرف‏.‏
ومن اكتسب مالاً خبيثاً؛ مثل هذا الذي يأمر الناس بالبدع /ويأخذ على ذلك جُعْلاً، فإنه لا يملكه، فإذا تعذر رده على صاحبه، فإن ولاة الأمور يأخذونه من هذا الذي أكل أموال الناس بالباطل، وصد عن سبيل الله، ويصرفها في مصالح المسلمين التي يحبها الله ورسوله، فيؤخذ المال الذي أنفق في طاعة الشيطان فينفق في طاعة الرحمن‏.‏
و ‏[‏أما السماع‏]‏ الذي يسمونه‏:‏ ‏[‏نوبة الخليل‏]‏، فبدعة باطلة لا أصل له، ولم يكن الخليل صلى الله عليه وسلم يفعل شيئًا من هذا، ولا الصحابة لما فتحوا البلاد فعلوا عند الخليل شيئًا من هذا، ولا فعل شيئًا من هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه، بل هذا إما أن يكون من إحداث النصارى؛ فإنهم هم الذين نقبوا حجرة الخليل بعد أن كانت مسدودة لا يدخل أحد إليها‏.‏ وإما أن يكون من إحداث بعض جهال المسلمين، ولا يجوز أن يقام هناك رقص ولا شبابة، ولا ما يشبه ذلك، بل يجب النهى عن ذلك، ومن أصر على حضور ذلك من مؤذن وغيره قدح ذلك في عدالته، والله أعلم‏.‏