فصــل: عسقلان و الاسكندرية ثغور
 
فصــل
وأما ‏[‏عسقلان‏]‏ فإنها كانت ثغرا من ثغور المسلمين، كان صالحو /المسلمين يقيمون بها لأجـل الرباط فى سبيل الله، وهكذا سائر البقاع التى مثل هذا الجنس مثل ‏[‏جبل لبنان‏]‏، و‏[‏الإسكندرية‏]‏، ومثل ‏[‏عبادان‏]‏ ونحـوها بأرض العـراق، ومثـل ‏[‏قزوين‏]‏ ونحـوها من البـلاد التى كانت ثغورا، فهذه كان الصالحون يقصدونها؛ لأجل الرباط فى سبل الله؛ فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن سلمان الفارسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏رباط يوم وليلة فى سـبيل الله خـير مـن صيام شهـر وقيامـه، ومـن مات مرابطا مات مجاهدا، وأجرى عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان‏)‏‏.‏ وفى سنن أبى داود وغيره عن عثمان،عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قـال‏:‏ ‏(‏ربـاط يوم فى سبيل الله خـير مـن ألف يوم فيما سـواه مـن المنازل‏)‏‏.‏ وقـال أبو هريرة‏:‏ لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود‏.‏
ولهذا قـال العلماء‏:‏ إن الرباط بالثغور أفضل من المجاورة بالحرمين الشريفين؛ لأن المرابطـة مـن جنس الجهاد، والمجاورة مـن جنس الحج‏.‏ وجنس الجهاد أفضل باتفاق المسلمـين مـن جنس الحج، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏19 ـ 22‏]‏‏.‏فهـذا هو الأصل فى تعظيم هذه الأمكنة‏.‏
ثم من هذه الأمكنة ما سكنه بعد ذلك الكفار وأهل البدع والفجور، ومنها ما خرب وصار ثغرا غير هذه الأمكنة‏.‏ والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها‏.‏ فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارا، ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها، كما كانت مكة ـ شرفها الله ـ فى أول الأمر دار كفر وحرب، وقال الله فيها‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏13‏]‏، ثم لما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم صارت دار إسلام، وهى فى نفسها أم القرى، وأحب الأرض إلى الله‏.‏ وكذلك الأرض المقدسة كان فيها الجبارون الذين ذكرهم الله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏}‏الآيات ‏[‏المائدة‏:‏ 20 ـ 22‏]‏، وقال تعالى لما أنجى موسى وقومه من الغرق‏:‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏، وكانت تلك الديار ديار /الفاسقين لما كان يسكنها إذ ذاك الفاسقون، ثم لما سكنها الصالحون صارت دار الصالحين‏.‏
وهذا أصل يجب أن يعرف، فإن البلد قد تحمد أو تذم فى بعض الأوقات لحال أهله، ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم؛ إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح، أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى‏.‏ الناس بنو آدم، وآدم من تراب ‏)‏‏.‏ وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسى ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما، لما آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان أبو الدرداء بالشام، وسلمان بالعراق نائبا لعمر بن الخطاب ـ‏:‏ أن هلم إلى الأرض المقدسة‏.‏ فكتب إليه سلمان‏:‏ إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله‏.‏