سئل: عمن يأتي إلى قبر بعض الأنبياء فيدعوه لكشف كربته؟
 
ما قول السادة أئمة الدين في من ينزل به حاجة من أمر الدنيا أو الآخرة، ثم يأتى قبر بعض الأنبياء أو غيره من الصلحاء، ثم يدعو عنده في كشف كربته‏.‏ فهل ذلك سنة أم بدعة‏؟‏ وهل هو مشروع أم لا‏؟‏ فإن كان ما هو مشروع فقد تقضى حوائجهم بعض الأوقات، فهل يسوغ لهم أن يفعلوا ذلك‏؟‏ وما العلة في قضاء حوائجهم‏؟‏ أفتونا‏.‏
فأجاب شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏ـ
الحمد لله رب العالمين، ليس ذلك سنة، بل هو بدعة، لم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا من أئمة الدين الذين يقتدى بهم المسلمون في دينهم، ولا أمر بذلك ولا استحبه، لا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، ولا أئمة الدين، بل لا يعرف هذا عن أحد من أهل العلم والدين من القرون المفضلة التى أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لا من أهل الحجاز، ولا من اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا المغرب، ولا خراسان، وإنما أحدثت بعد ذلك‏.‏
/ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، الذين يقتدى بهم المسلمون في دينهم، فإنه يكون من البدع المنكرات، ولا يقول أحد في مثل هذا‏:‏ إنه بدعة حسنة؛ إذ البدعة الحسنة ـ عند من يقسم البدع إلى حسنة، وسيئة ـ لابد أن يستحبها أحد من أهل العلم الذين يقتدى بهم، ويقوم دليل شرعى على استحبابها، وكذلك من يقول‏:‏ البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏كل بدعة ضلالة‏)‏، ويقول قول عمر في التراويح‏:‏ ‏(‏نعمت البدعة هذه‏)‏ إنما أسماها بدعة؛ باعتبار وضع اللغة‏.‏ فالبدعة في الشرع عند هؤلاء ما لم يقم دليل شرعى على استحبابه‏.‏ ومآل القولين واحد؛ إذ هم متفقون على أن ما لم يستحب أو يجب من الشرع فليس بواجب ولا مستحب، فمن اتخذ عملاً من الأعمال عبادة وديناً وليس ذلك في الشريعة واجبًا ولا مستحبًا فهو ضال باتفاق المسلمين‏.‏
وقصد القبور لأجل الدعاء عندها؛ رجاء لإجابة، هو من هذا الباب، فإنه ليس من الشريعة لا واجبًا ولا مستحبًا فلا يكون دينًا ولا حسنًا، ولا طاعة لله، ولا مما يحبه الله ويرضاه، ولا يكون عملا صالحًا، ولا قربة، ومن جعله من هذا الباب فهو ضال باتفاق المسلمين‏.‏
/ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بهم الشدائد، وأرادوا دعاء الله لكشف الضر، أو طلب الرحمة، لا يقصدون شيئًا من القبور، لا قبور الأنبياء، ولا غير الأنبياء، حتى إنهم لم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد ثبت في صحيح البخارى عن أنس‏:‏ أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، قال‏:‏ اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بِعَمِّ نبينا فاسقنا، فيسقون‏.‏ وفي صحيـح البخارى عـن عبد الله بن دينار قال‏:‏ سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب‏:‏
وأبيض يستسقى الغَمام بوجهه ** ثِمَال اليتأمي عِصْمة للأرامل
وفيه عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال‏:‏ ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، يستسقى فما ينزل حتى يجيش له ميزاب‏:‏
وأبيض يستسقى الغَمام بوجهه ** ثِمَال اليتأمي عِصْمـة للأرامــــل
وهو قول أبي طالب وكذلك معاوية بالشام استسقوا بيزيد بن الأسود الجرشى‏.‏
وكانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، يأتون إليه ويطلبون / منه الدعاء، يتوسلون به، ويستشفعون به إلى الله، كما أن الخلائق يوم القيامة يأتون إليه يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، ثم لما مات وأصابهم الجدب عام الرمادة في خلافة عمر، وكانت شدة عظيمة، أخذوا العباس فتوسلوا به، واستسقوا به بدلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعون عنده، ولا استسقوا به ولا توسلوا به‏.‏ وكذلك في الشام لم يذهبوا إلى ما فيها من القبور، بل استسقوا بمن فيهم من الصالحين ومعلوم أنه لو كان الدعاء عند القبور والتوسل بالأموات مما يستحب لهم لكان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل من التوسل بالعباس وغيره‏.‏
وقد كانوا يستسقون على ثلاثة أوجه؛ تارة يدعون عقب الصلوات، وتارة يخرجون إلى المصلى فيدعون من غير صلاة، وتارة يصلون ويدعون‏.‏ والوجهان الأولان مشروعان باتفاق الأمة، والوجه الثالث مشروع عند الجمهور؛ كمالك، والشافعى، وأحمد، ولم يعرفه أبو حنيفة‏.‏
وقد أمروا، في الاستسقاء بأن يستسقوا بأهل الصلاح، لاسيما بأقارب النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل الصحابة‏.‏ وأمروا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏.‏ ولم يأمر أحد منهم بالاستسقاء عند شىء من قبور الأنبياء، ولا غير الأنبياء، ولا الاستعانة / بميت والتوسل به، ونحو ذلك مما يظنه بعض الناس دينا وقربة‏.‏ وهذا فيه دلالة للمؤمن على أن هذه محدثات لم تكن عند الصحابة من المعروف بل من المنكر‏.‏