فصــل:ظنه أن زيارة قبر الرسول من جنس الزيارة المعهودة في قبر غيره؟
 
/فصــل
ومنها‏:‏ ظنه أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس الزيارة المعهودة في قبر غيره، حتى يحتج عليها بزيارة البقيع، وشهداء أحد، وزيارة قبر أمه‏.‏
ومنها‏:‏ أنه جعل من حرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور مجاهرا بالعداوة للأنبياء، مظهرا لهم العناد‏.‏ ومعلوم أن هذا قول أكثر المتقدمين‏:‏ كمالك وأكثر أصحابه، والجوينى أبي محمد، وغيره من أصحاب الشافعي، وأكثر متقدمى أصحاب أحمد‏.‏ فيلزمه أن يكون إمامه مالك وغيره من أئمة الدين مجاهرين للأنبياء بالعداوة، معاندين لهم‏.‏ وهذا لو قاله فيما أخطؤوا فيه لاستحق العقوبة البليغة؛ فكيف إذا قاله فيما اتبعوا فيه الرسول، واتبعوا فيه سنته الصحيحة، فحرموا ما حرم‏.‏ فقد جعل المطيع لله ورسوله الذى رضى الله ورسوله وأنبياؤه عمله مجاهرا لهم بالعداوة، معاندا لهم‏.‏ فكفر من حكم الله ورسوله بإيمانه‏.‏
ومثل هذا يبين له الصواب، وأن هذا القول هو الذى جاء به / الرسول، وكان عليه السابقون الأولون من الأمة وأئمتها، وعليه دل الكتاب والسنة، فإذا تبين له أن هذا هو الذى جاء به الرسول ثم أصر على مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏
وكذلك إذا تبين أن هذا القول ليس بكفر، بل هو مما اتفق المسلمون على أنه قول سائغ، وقائله مجتهد مأجور على اجتهاده، سواء أصاب أو أخطأ، فإذا أصر على تكفير من تبين بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يكفر، وتبين له أنه يكفر، فأصر على مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كمن جعل اعتقاد أن المسيح عبد الله معاداة للمسيح، أو اعتقد أن من قال‏:‏ لا تحلف بالأنبياء فقد عاداهم وكفر، فإن مثل هذا يستتاب‏.‏
ومنها‏:‏ أن هذه المسألة قد نص عليها مالك إمامه وجمهور أصحابه، وهو في كتبهم الكبار والصغار، وهو لم يعرف ما قالوا، بل يكفر ويلعن ويشتم من قال بنفس القول الذى قالواه، فيلزمه تكفيرهم، وسبهم، واستحلال دمائهم‏.‏
ومنها‏:‏ أنه قال‏:‏ ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة، وغيرها مما لم يبلغ درجة الصحيح؛ لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام /الشرعية‏.‏ وهذا كلام من لا يعرف ما رروي في هذا الباب، ولا ما قاله فيه علماء المسلمين، بل هو بمنزلة الرافضى الذى يقول‏:‏ قد رروي في النص عَلَى علِىٍّ أنه الإمام بعد رسول الله أحاديث صحيحة وأخر دونها‏.‏ ومعلوم أن الأحاديث التى فيها ذكر زيارة قبره لم يخرج شيئا منها أهل الصحيح، ولا السنن المعتمد عليها؛ كسنن أبي داود، والترمذى؛ ولا المسانيد التى هى من هذا الجنس؛ كمسند أحمد‏.‏ ولا استدل بشىء منها إمام، وهو مع ذلك لم يذكر منها حديثا واحدا فضلا عن أن يعزوه إلى كتاب‏.‏
وقوله‏:‏ إن ما لم يبلغ درجة الصحيح منها يجوز الاستدلال بها، إنما يكون إذا كانت حسنة عند من قسم الحديث إلى ثلاثة أنواع، وهذا موقوف على العلم بحسنها، وأئمة الحديث لم يحكموا بذلك، وهو وأمثاله لا يعرفون ذلك‏.‏ فالقول بذلك من أعظم القول بلا علم في الدين، والجرأة على سنة رسول رب العالمين، بأن يدخل فيها ما ليس منها بالجهل والضلال‏.‏ فكيف إذا كان جميع ما رروي في هذا الباب مما ضعفه أهل المعرفة بالحديث، بل حكموا بأنه كذب موضوع، كما قد بسط الكلام على ما رروي في هذا الباب في غير هذا الكتاب‏.‏
ومنها‏:‏ أنه لم يفرق بين ‏[‏الزيارة الشرعية‏]‏ التى كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، ومقصودها الدعاء للميت؛ كالصلاة على جنازته، /وبين ما ابتدعه الضالون من الإشراك بالميت، والحج إلى قبره، ودعائه من دون الله ، ومقصوده بزيارته والسفر إليه أنه يدعوه من دون الله؛ لا أنه يدعو له‏.‏ وهذه الزيارة لم يفعلها الرسول، ولا أذن فيها قط، فكيف بالسفر إليها‏؟‏‏!‏ وهو من جنس الحج إلى الطواغيت‏.‏
ومنها‏:‏ أنه جعل زيارة الميت كزيارته حيا، واستدل بحديث ‏(‏الذى زار أخا له في الحياة‏)‏ على أنه يستحب زيارة الميت، وهذه التسوية والقياس ما عرفت عن أحد من علماء المسلمين؛ فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين سافروا إلى الرسول فساعدوه، وسمعوا كلامه، وخاطبوه وسألوه فأجابهم، وعلمهم، وأدبهم، وحملهم رسائل إلى قومهم، وأمرهم بالتبليغ عنه، لا يكون مثلهم أحد بالأعمال الفاضلة؛ كالجهاد، والحج‏.‏ فكيف يكون بمجرد رؤية ظاهر حجرته مثلهم‏؟‏‏!‏ أو تقاس هذه الزيارة بهذه الزيارة‏؟‏‏!‏
فقد ثبت بالسنة واتفاق الأمة أن كل ما يفعل من الأعمال الصالحة في المسجد عن حجرته من صلاة عليه، وسلام، وثناء، وإكرام، وذكر محاسن، وفضائل، ممكن فعله في سائر الأماكن، ويكون لصاحبه من الأجر ما يستحقه، كما قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا بيتى عيداً، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم‏)‏‏.‏ ولو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة؛ فلما منعوا من الوصول إلى القبر، / وأمروا بالعبادة في المسجد، علم أن فضيلة العمل فيه لكونه في مسجده، كما أن صلاة في مسجده بألف صلاة فيما سواه، ولم يأمر قط بأن يقصد بعمل صالح أن يفعل عند قبره صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومنها‏:‏ افتراؤه على المجيب في مواضع متعددة افتراء ظاهرا، وسبب افترائه عليه أنه ذكر قول علماء المسلمين، ورجح ما قاله مالك وغيره من السلف، لكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة توافقهم، وهذا يستلزم معاداة الله ورسوله؛ إذ كان من عادى سنته وشريعته ودينه فقد عاداه، ومن عادى شخصا لأجل ذلك فإنما عادى الرسول في الحقيقة وإن لم يقصد ذلك‏.‏ فكيف يجوز الكذب والافتراء مرة بعد مرة‏؟‏‏!‏ وهو كذب ظاهر‏.‏ ولو كان المجيب مخطئا لما جاز ذلك؛ فإن الكذب والافتراء حرام مطلقا، والله أوجب الصدق والعدل لكل أحد على كل أحد في كل حال‏.‏
فكيف إذا كان ما ذكره المجيب من الأقوال هى أقوال المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم، والمعترض القادح فيهم وفيما قالوه الشاتم المكفر لمن آمن بالرسول وأطاعه واتبعه على نفس ما هو متابعة للرسول وإيمان به، قوله هذا المتضمن عداوة الرسول، وعداوة ما جاء به، وعداوة من اتبعه، وإن لم يكن عالما بما تضمنه قوله‏.‏ فقوله مع عدم العلم من جنس أقوال المحادين لله ولرسوله، الموالين لأهل / الإفك والشرك، المضاهين للنصارى وأمثالهم، مع أنهم لا يعلمون أن قولهم يتضمن ذلك؛ لقلة العلم، وسوء الفهم، والبعد عن أهلية الاجتهاد، والاستدلال بالأدلة الشرعية، ومعرفة ما قاله أئمة الدين‏.‏
بل هم في مثل هذه المسألة العظيمة يتكلمون بأنواع من الكلام صاحبها إلى الاستتابة والتعزير والتعليم والتفهيم أحوج منه إلى الرد عليه والمناظرة له، كما يوجد في جهال أهل البدع من الرافضة والخوارج وغيرهم من يسارع إلى تكفير من اتبع الرسول من السلف؛ لقلة علمه، وسوء فهمه لما جاء به الرسول‏.‏ فهم مبتدعون بدعة بجهلهم، ويكفرون من خالفهم‏.‏
وأهل السنة والعلم والإيمان يعرفون الحق، ويتبعون سنة الرسول، ويرحمون الخلق، ويعدلون فيهم، ويعذرون من اجتهد في معرفة الحق فعجز عن معرفته؛ وإنما يذمون من ذمه الله ورسوله، وهو المفرط في طلب الحق لتركه الواجب، والمعتدى المتبع لهواه بلا علم، لفعله المحرم‏.‏ فيذمون من ترك الواجب، أو فعل المحرم، ولا يعاقبونه إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، لاسيما في مسائل تنازع فيها العلماء، وخفي العلم فيها على أكثر الناس، ومن كان لا يتكلم بطريقة أهل /العلم بل جازف في القول بلا علم‏.‏
فصاحب هذا الكلام لا يصلح للمناظرة، إلا كما يناظر جهال العوام المبتدعين، المضاهين للمشركين والنصارى، فإنهم يجعلون من قال الحق في المخلوق سابا له شاتماً، وهم يسبون الله ويشتمونه ويؤذونه، ولا يخافون من سب الخالق وشتمه وأشرك به ما يخافونه من قول الحق في حق المخلوق، كما قال الخليل لهم‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏81، 82‏]‏، وكما قال تعالى عن المشركين‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏، فلا يغضبون من ذكر الرحمن بالباطل كما يغضبون من ذكر آلهتهم بالحق‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفي بِاللّهِ وَكِيلاً لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171، 172‏]‏‏.‏
وقد ذكر أهل التفسير‏:‏ أن النصارى ـ نصارى نجران ـ / لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا محمد، لم تذكر صاحبنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن صاحبكم‏؟‏‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ عيسى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وأى شىء أقول له‏؟‏ هو عبد الله ‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ بل هو الله‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنه ليس بعار عليه أن يكون عبدا لله‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ بلى‏.‏ فأنزل الله هذه الآية، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مـا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله؛ يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم‏)‏، وفي الصحيحين ـ أيضا ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول الله‏:‏ شتمنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك، وكذبنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك‏.‏ فأما شتمه إياى فقوله‏:‏ إنى اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذى لم ألد ولم أولد‏.‏ ولم يكن لى كفوا أحد‏.‏ وأما تكذيبه إياى فقوله‏:‏ لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون على من إعادته‏)‏، وكان معاذ بن جبل يقول عن النصارى‏:‏ لا ترحموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر‏.‏
فهؤلاء ينتقصون الخالق ويأنفون أن يذكر المخلوق بما يستحقه ويجعلون ذلك تنقيصا له، وإنما هو إعطاؤه حقه، وخفض له عن درجة الإلهية التى لا يستحقها إلا الله ، وهذه حال من أشبههم من بعض الوجوه‏.‏
ومنها‏:‏ ظنه أن كل ما كان قربة جاز التوسل إليه بكل وسيلة، /وهذا من أظهر الخطأ‏.‏
ومنها‏:‏ ظنه أن القول بتحريم السفر لم يقل به أحد من أهل العلم، بل إنما نقله المجيب إن صح نقله عمن لا يعتمد عليه، ولا يعتد بخلافه‏.‏ وهو نص مالك الصريح في خصوص قبر الرسول، ومذهب جمهور أصحابه، وجمهور السلف والعلماء‏.‏
ومنها‏:‏ زعمه أن الذين حكى المجيب قولهم ـ وهم الغزالى وابن عبدوس وأبو محمد المقدسى ـ لا يعتد بخلاف من سواهم، ولا يرجع في ذلك لمن عداهم، ومثل هذا الكلام لا يقال في أحد من الأئمة الكبار، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب الشرع، فكيف يسوغ أن يقال في مثل هؤلاء‏؟‏‏!‏
ومنها‏:‏ أنه لما أراد أن يثبت أن النبي يسمع من القرب، ويبلغ الصلاة والسلام من البعد، لم يذكر ما في ذلك من الأحاديث الحسان التى في السنن، بل إنما اعتمد على حديث موضوع ‏(‏من صلى على عند قبرى سمعته، ومن صلى على نائيا بلغته‏)‏‏.‏ وهذا إنما يرويه محمد بن مروان السدى، عن الأعمش‏.‏ وهو كذاب بالاتفاق‏.‏ وهذا الحديث موضوع على الأعمش بإجماعهم‏.‏
ثم قد غير لفظه‏.‏ ففي النسخة التى رأيتها مصححا‏:‏ ‏(‏ومن / صلى على نائيا سمعته‏)‏، وإنما لفظه‏:‏ ‏[‏بلغته‏]‏ وهكذا ذكره القاضى عياض عن مسند بن أبي شيبة، وهو نقل منه‏.‏ ومن يحتج بمثل هذا الحديث الموضوع ويعرض عن أحاديث أهل السنن الحسان فهو من أبعد الناس عن أهل العلم والعرفان‏.‏ وإذا كان قد حرف لفظه فهو ظلمات بعضها فوق بعض، من جنس فعل الملاحدة في قوله‏:‏ ‏(‏أول ما خلق الله العقل قال له‏:‏ أقبل فأقبل‏)‏ الحديث، فهو كذب موضوع‏.‏ ومع هذا فحرفوا لفظه، فقالوا‏:‏ أول بالضم، ولفظه‏:‏ ‏(‏أول ما خلق‏)‏ بالنصب على الظرف، كما رروي‏:‏ ‏(‏لما خلق‏)‏‏.‏
ومنها‏:‏ أنه احتج بإجماع السلف والخلف على زيارة قبره، وظن أن الجواب يتضمن النهى عما أجمع عليه، وقد صرح في الجواب بأن السفر إلى مسجده طاعة مجمع عليها، وكذلك ما تضمنه مما يسمى بزيارة لقبره من الأمور المستحبة؛ مثل الصلاة عليه، والسلام عليه، والدعـاء له بالوسيلة وغـيرها، والشهادة له، والثناء عليه بما فضله الله بـه، ومحبتـه، ومـوالاته، وتعـزيره، وتوقـيره، وغير ذلك مما قد يدخـل في مسمى الزيـارة، فهذا كله مستحب‏.‏ والمجيب يصرح باستحباب ذلك، وقد تنازع العلماء‏:‏ هل يسمى هذا زيارة‏؟‏ وذكر تنازع العلماء فيما تنازعوا فيه من ذلك ، وإجماعهم على ما أجمعوا عليه ، فذكر جـواز مـا ثبت بالنص والإجماع مـن السفر إلى مسجده وزيارة قبره ، وذكـر بعض ما / تنـوزع فيـه مـن ذلك‏.‏ وهـذا ظـن أن السفـر إلى زيارة نبينا كالسفر إلى غـيره مـن الأنبياء والصالحين، وهو غلط من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن مسجده عند قبره، والسفر إليه مشروع بالنص والإجماع، بخلاف غيره‏.‏
والثانى‏:‏ أن زيارته كما يزار غيره ممتنعة، وإنما يصل الإنسان إلى مسجده، وفيه يفعل ما شرع له‏.‏
الثالث‏:‏ أنه لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس بذلك، كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين، فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره، بل ولا يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا‏.‏ وإن لم يسم هذا زيارة بل يكره لهم ذلك عند غير السفر، كما ذكر ذلك مالك، وبين أن ذلك من البدع التى لم يكن صدر هذه الأمة يفعلونه، علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين‏.‏
الرابع‏:‏ أنه قد نهى أن يتخذ قبره عيدا، وأمر الأمة أن تصلى عليه وتسلم حيثما كانت، وأخبر أن ذلك يبلغه‏.‏ فلم يكن تخصيص البقعة بالدعاء له مشروعا، بل يدعى له في جميع الأماكن، وعند كل / أذان،وفي كل صلاة،وعند دخول كل مسجد،والخروج منه، بخلاف غيره‏.‏ وهذا لعلو قدره، وارتفاع درجته، فقد خصه الله من الفضيلة بما لم يشركه فيه غيره؛ لئلا يجعل قبره مثل سائر القبور، بل يفرق بينهما من وجوه متعددة، ويبين فضله على غيره، وما من الله به على أمته‏.‏
ومنها‏:‏ أنه قال‏:‏ لم يلزم من دعواه بأن ذلك مجمع على تحريمه أن يكون السادة الصحابة مع التابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين للإجماع خارقين مصرين على تقرير الحرام، مرتكبين بأنفسهم وفتاويهم ما لا يجوز عليه الإقدام، مجمعين على الضلالة، سالكين طريق العماية والجهالة‏.‏
وفي هذا الكلام من الجهل بالشريعة، وما أجمع عليه المسلمون، والتسوية بين عبادة الرحمن ـ التى أجمع عليها أهل الإيمان ـ وبين عبادة الأوثان التى أجمعوا على تحريمها وغير ذلك، مما يبين اشتمال هذا الكلام على أنواع من مخالفة دين الإسلام، ولو كان صاحبه ممن يفهم ما قال ولوازمه لكان مرتدا يجب قتله، لكنه جاهل قد يتكلم بما لا يتصوره ويتصور لوازمه‏.‏
فيقال له ولأمثاله ـ ممن ظن أن في الجواب ما يخالف الإجماع ـ‏:‏ /الذى أجمع عليه المسلمون سلفا وخلفا، قرنا بعد قرن‏:‏ هو السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم، والصلاة والسلام عليه فيه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله من الأعمال المتضمنة لعبادة الله وحده، والقيام بحق رسوله من أفضل العبادات لله، كشهادتنا له، وثنائنا عليه‏.‏ وصلاتنا وسلامنا عليه من أفضل ما عبدنا الله به، وهذا ونحوه هو المشروع في مسجده، سواء سمى زيارة لقبره أو لم يسم‏.‏
فإن لفظ الزيارة لقبره واستحباب ذلك لا يعرف عن أحد من الصحابة، بل المنقول عن ابن عمر ومن وافقه؛ السلام عليه هناك، والصلاة‏.‏ وهم لا يسمون هذا زيارة لقبره، فكيف بالذين لم يكونوا يقفون عند القبر بحال‏؟‏‏!‏ وهم جمهور الصحابة‏.‏
وأما ما ابتدعه بعض الناس من الشرك والبدع وسمى ذلك ‏[‏زيارة لقبره‏]‏، فهو من جنس الزيارة البدعية التى تفعل عند قبر غيره، ليس هو من الزيارة الشرعية‏.‏
وأما ما يدخل في الأعمال الشرعية، فهذا هو المستحب بسنته الثابتة عنه، وبإجماع أمته‏.‏ ثم من أئمة العلم من لا يسمى هذا ‏[‏زيارة لقبره‏]‏ بل يكره هذه التسمية؛ فضلا عن أن يقول‏:‏ إن ذلك سفر إلى قبره‏.‏ وقد صرح من قال ذلك مثل مالك وغيره بأن المسافر إلى هناك إذا / كان مقصوده القبر أنه سفر منهى عنه، داخل في قوله‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏)‏، وأن السفر الذى هو طاعة وقربة أن يقصد السفر لأجل الصلاة في المسجد، وأنه لو نذر أن يسافر إلى المدينة لغير الصلاة في المسجد، فإنه ينهى عن الوفاء بنذره؛ لأنه نذر معصية‏.‏
فإذا كان هذا من قولهم معروفا في الكتب الصغار والكبار، فكيف يظن أن السفر لمجرد زيارة القبور هو مجمع عليه بين الأئمة‏.‏ وطائفة أخرى من العلماء يسمون هذا زيارة لقبره‏.‏ ويقولون‏:‏ تستحب زيارة قبره، أو السفر لزيارة قبره، ومقصودهم بالزيارة هو مقصود الأولين، وهو السفر إلى مسجده، وأن يفعل في مسجده ما يشرع من الصلاة والسلام عليه، والدعاء له والثناء عليه، وهذا عندهم يسمى زيارة لقبره مع اتفاق الجميع على أن أحدا لا يزور قبره الزيارة المعروفة في سائر القبور‏؟‏‏!‏ فإن تلك قبور بارزة يوصل إليها، ويقعد عندها، أو يقام عندها ويمكن أن يفعل عندها ما يشرع؛ كالدعاء للميت، والاستغفار له، وما ينهى عنه؛ كدعائه، والشرك به، والنياحة عند قبره، والندب‏.‏ فهذا هو المفهوم من ‏[‏زيارة القبور‏]‏‏.‏
والرسول دفن في بيته في حجرته، ومنع الناس من الدخول إلى هناك، والوصول إلى قبره، فلا يقدر أحد أن يزور قبره كما يزور قبر غيره؛ لا زيارة شرعية، ولا بدعية، بل إنما يصل جميع الخلق / إلى مسجده، وفيه يفعلون ما يشرع لهم، أو ما يكره لهم‏.‏ والسفر إلى مسجده ـ لما شرع ـ سفر طاعة وقربة بالإجماع؛ وهو الذى أجمع عليه المسلمون‏.‏
والمجيب قد ذكر استحباب هذا السفر، وأنه يستحب بالنص والإجماع في مواضع كثيرة، وقد ذكر ذلك في هذا الجواب ، وبين ما ثبت بالنص والإجماع من السفر إلى مسجده وزيارته الشرعية، وبين ما لم يشرع من السفر إلى زيارة قبر غيره مما في قبور الأنبياء والصالحين؛ فإن السفر إلى هناك ليس هو سفر إلى مسجد شرع السفر إليه، بل المساجد التى هناك إن كانت مما يشرع بناؤه والصلاة فيه ـ كجوامع المسلمين التى في الأمصار ـ فهذه ليس السفر إليها قربة ولا طاعة، لا عند الأئمة الأربعة، ولا عامة أئمة المسلمين‏.‏ والسفر إليها داخل في قوله‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏)‏ باتفاق الناس؛ فإن هذا استثناء مفرغ‏.‏ والتقدير فيه أحد أمرين‏:‏
إما أن يقال‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال‏)‏ إلى مسجد ‏(‏إلا المساجد الثلاثة‏)‏ فيكون نهياً عنها باللفظ، ونهياً عن سائر البقاع التى يعتقد فضيلتها بالتنبيه والفحروي وطريق الأولى؛ فإن المساجد والعبادة فيها أحب إلى اللّه من العبادة في تلك البقاع بالنص والإجماع، فإذا كان السفر إلى البقاع الفاضلة قد نهى عنه، فالسفر إلى المفضولة / أولى وأحرى‏.‏
وكذلك من جعل معنى الحديث‏:‏ لا يستحب السفر إلا إلى الثلاثة‏.‏ إن جعل معناه‏:‏ لا يجب إلا إلى الثلاثة وأراد به الوجوب بالنذر ـ كما ذكر ذلك طائفة ـ فهؤلاء يقولون‏:‏ ما سروي الثلاثة لا يستحب السفر إليه، ولا يجب بالنذر‏.‏ ومن حمل معنى الحديث على نفي الاستحباب أو نفي الوجوب بالنذر فقولهما واحد في المعنى، فإذا لم يجب بالنذر إلا هذه الثلاثة فقد وجب بالنذر السفر إلى المسجدين، وليس واجباً بالشرع‏.‏ فعلم أن وجوبه لكونه مستحباً بالشرع‏.‏ فإذا لم يوجب إلا هذان مما ليس واجباً بالشرع علم أنه ليس مستحباً إلا هذان‏.‏ وقد بسط هذا في موضع آخر‏.‏
وإما أن يقال‏:‏ التقدير‏:‏ لا تسافروا إلي بقعة ومكان غير الثلاثة‏.‏ أو يكون المعني‏:‏ لا يستحب إلي مكان غير الثلاثة، وهو معني كل من قال‏:‏ لايجب بالنذر إلي غير الثلاثة، أي‏:‏ لا تسافروا لقصد ذلك المكان والبقعة بعينه؛ بحيث يكون المقصود والعبادة في نفس تلك البقعة، كالسفر إلي المساجد الثلاثة، بخلاف السفر إلي الثغور، فإن المقصود السفر إلي مكان الرباط‏.‏
و ‏[‏الثغر‏]‏ قد يكون مكاناً ثم يفتح المسلمون ما جاورهم فينتقل /الثغر إلي حد بلاد المسلمين؛ ولهذا يكون المكان تارة ثغراً، وتارة ليس بثغر؛ كما يكون تارة دار إسلام وبِرٍّ، وتارة دار كفر وفسق؛ كما كانت مكة دار كفر وحرب، وكانت المدينة دار إيمان وهجرة ومكاناً للرباط، فلما فتحت مكة صارت دار إسلام، ولم تبق المدينة دار هجرة ورباط كما كانت قبل فتح مكة، بل قد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا‏)‏، وصارت الثغور أطراف أرض الحجاز المجاورة لأرض الحرب؛ أرض الشام، وأرض العراق‏.‏ ثم لما فتح المسلمون الشام والعراق صارت الثغور بالشام سواحل البحر؛ كعسقلان، وعكة، وما جاور ذلك‏.‏ وبالعراق عبادان ونحوها؛ ولهذا يكثر ذكر ‏[‏عسـقلان‏]‏، و‏[‏عبادان‏]‏ في كلام المتقدمين؛ لكونهما كانا ثغرين، وكانت أيضاً ‏[‏طرطوس‏]‏ ثغرا لما كانت للمسلمين، ولما أخذها الكفار صار الثغر ما يجاور أرض العدو من البلاد الحلبية‏.‏
فالمسافر إلي الثغور أو طلب العلم أو التجارة أو زيارة قريبه، ليس مقصوده مكاناً معيناً إلا بالعرض إذا عرف أن مقصوده فيه، ولو كان مقصوده في غيره لذهب إليه‏.‏ فالسفر إلي مثل هذا لم يدخل في الحديث باتفاق العلماء، وإنما دخل فيه من يسافر لمكان معين لفضيلة ذلك بعينه، كالذي يسافر إلي المساجد، وآثار الأنبياء‏:‏ كالطور الذي كلم اللّه /عليه موسي، وغار حراء الذي نزل فيه الوحي ابتداء على الرسول ، وغار ثَوْر المذكور في القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏، وما هو دون ذلك من المغارات والجبال؛ كالسفر إلي جبل لبنان، ومغارة الدم، ونحو ذلك‏.‏ فإن كثيراً من الناس يسافر إلي ما يعتقد فضله من الجبال والغيران‏.‏ فإذا كان الطور الذي كلم اللّه عليه موسي وسماه البقعة المباركة والوادي المقدس لا يستحب السفر إليه ، فغير ذلك من الجبال أولي ألا يسافر إليه‏.‏
وقولي‏:‏ بالإجماع؛ أعني به إجماع السلف والأئمة؛ فإن الصحابة كابن عمر وأبي سعيد وأبي بصرة وغيرهم فهموا من قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد‏)‏ أن الطور الذي كلم اللّه عليه موسي، وسماه‏:‏ ‏[‏الوادي المقدس‏]‏ و ‏[‏البقعة المباركة‏]‏ داخل في النهي، ونهوا الناس عن السفر إليه، ولم يخصوا النهي بالمساجد‏.‏ ولهذا لم يوجب أحد ذلك بالنذر، وما علمت في هذا نزاعا قديماً، ولا رأيت أحداً صرح بخلاف ذلك؛ إلا ابن حزم الظاهري، فإنه يحرم السفر إلي مسجد غير الثلاثة إذا نذره كقول الجمهور، وإذا نذر السفر إلي أثر من آثار الأنبياء أوجب الوفاء به؛ لأنه لا يقول بفحوي الخطاب وتنبيهه، وهذا هو إحدي الروايتين عن داود، فلا يجعل قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ دليلا على النهي عـن السـب والشتم /والضرب، ولا نهيه عن أن يبال في الماء الدائم ثم يغتسل فيه نهياً عن صب البول ثم الاغتسال فيه، وجمهور العلماء يرون أن مثل هذا من نقص العقل والفهم، وأنه من ‏[‏باب السفسطة‏]‏ في جحد مراد المتكلم، كما هو مبسوط في موضع آخر‏.‏
وإذا كان غار حراء الذي كان أهل مكة يصعدون إليه للتعبد فيه، ويقال‏:‏ إن عبد المطلب سن لهم ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يتحنث فيه، وفيه نزل عليه الوحي أولا، لكن من حين نزل الوحي عليه ما صعد إليه بعد ذلك، ولا قربه، لا هو ولا أصحابه، وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة لم يزره ولم يصعد إليه، وكذلك المؤمنون معه بمكة‏.‏ وبعد الهجرة أتي مكة مراراً في عمرة الحديبية، وعام الفتح، وأقام بها قريباً من عشرين يوماً، وفي عمرة الجِعْرَانة، ولم يأت غار حِرَاء، ولا زاره‏.‏ فإذا كان هذا الغار لا يسافر إليه ولا يزار فغيره من المغارات كمغارة الدم ونحوها أولي ألا تزار‏.‏ فإن العبادات بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلاة والذكر والدعاء مشروعة في كل مكان جعلت الأرض كلها له ولأمته مسجداً وطهوراً‏.‏
والأماكن المفضلة هي المساجد، وهي أحب البقاع إلي اللّه؛ كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفيها الاعتكاف،/ فلا يكون الاعتكاف إلا في المساجد باتفاق العلماء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، لا يكون الاعتكاف لا بخلوة ولا غير خلوة، لا في غار ولا عند قبر، ولا غير ذلك مما يقصد الضالون السفر إليه والعكوف عنده، كعكوف المشركين على أوثانهم‏.‏ قال الخليل‏:‏ ‏{‏مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَي اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏138، 139‏]‏‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
وقد صح عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ من نذر أن يعتكف في مسجد إيليا فاعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف على رؤوس الجبال فإنه لا ينبغي له ذلك، ليعتكف في مسجد جماعة‏.‏ وهذا الذي نهي عنه سعيد متفق عليه عند عامة العلماء، وإن قدر أن الرجل لا يسمي ذلك اعتكافا، فمن فعل ما يفعل المعتكف في المسجد فهو معتكف في غير المسجد، وذلك منهي عنه بالاتفاق‏.‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
والمقصود هنا أن السفر إلي غير المساجد الثلاثة من قبر، وأثر/ نبي، ومسجد وغير ذلك‏:‏ ليس بواجب ولا مستحب بالنص والإجماع، والسفر إلي مسجد نبينا مستحب بالنص والإجماع، وهو مراد العلماء الذين قالوا‏:‏ تستحب زيارة قبره بالإجماع‏.‏ فهذا هو الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من المجتهدين، وللّه الحمد‏.‏ والمجيب قد ذكر استحباب هذا بالنص والإجماع، فكلام المجيب يبين أنه متبع للصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين، وأنهم منزهون عن تقرير الحرام، أو خرق الإجماع، منزهون أن يجمعوا على ضلالة، أو يسلكوا طريق العماية والجهالة‏.‏
وهذا المعترض وأشباهه من الجهال سووا بين هذا السفر الذي ثبت استحبابه بنص الرسول وإجماع أمته، وبين السفر الذي ثبت أنه ليس مستحباً بنص الرسول وإجماع أمته‏.‏ وقاسوا هذا بهذا، والمجيب إنما ذكر القولين في النوع الثاني‏:‏ في الذي لا يسافر إلا لقصد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وذكر أن الذي يسافر إلي مسجد الرسول وزيارته الشرعية يتسحب السفر إليه بالنص والإجماع‏.‏ فحكوا عن المجيب أنه ينهي عن زيارة قبر الرسول والسفر إليه، ويحرم ذلك، ويحرم قصر الصلاة فيه، بحيث جعلوه ينهي عما يفعله الحجاج من السفر إلي مسجده، وأن من سافر إلي هناك لا يقصر الصلاة، وهذا كله افتراء وبهتان‏.‏
/وذلك أنه لا حجة لهم على السفر إلي سائر قبور الأنبياء إلا السفر إلي نبينا‏.‏ فلما كان السفر إلي ذلك المكان مشروعا في الجملة قاسوا عليه السفر إلي سائر القبور، فضلوا، وأضلوا، وخالفوا كتاب اللّه وسنة رسوله وإجماع المسلمين‏.‏ وضلوا من وجوه كثيرة‏.‏
منها‏:‏ أنه ليس في الأرض قبر نبي معلوم بالتواتر والإجماع إلا قبر نبينا، وما سواه ففيه نزاع‏.‏
ومنها‏:‏ أن الذين استحبوا السفر إلي زيارة قبر نبينا مرادهم السفر إلي مسجده، وهذا مشروع بالإجماع، ولو قصد المسافر إليه فهو إنما يصل إلي المسجد، والمسجد منتهي سفره، لا يصل إلي القبر، بخلاف غيره فإنه يصل إلي القبر؛ إلا أن يكون متوغلا في الجهل والضلال، فيظن أن مسجده إنما شرع السفر إليه لأجل القبر، وأنه لذلك كانت الصلاة فيه بألف صلاة، وأنه لولا القبر لم يكن له فضيلة على غيره، أو يظن أن المسجد بني أو جعل تبعا للقبر، كما تبني المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، ويظن أن الصلاة في المسجد تبع، والمقصود هو القبر، كما يظن المسافرون إلي قبور الأنبياء والصالحين غير قبر نبينا، وكما أن الذي يذهب إلي الجمعة يصلى إذا دخل تحية المسجد ركعتين، ولكن هو إنما جاء لأجل الجمعة، لا لأجل ركعتي التحية‏.‏ فمن ظن هذا في مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم فهو من أضل الناس وأجهلهم بدين / الإسلام، وأجهلهم بأحوال الرسول وأصحابه، وسيرته، وأقواله وأفعاله، وهذا محتاج إلي أن يتعلم ما جهله من دين الإسلام حتى يدخل في الإسلام، ولا يأخذ بعض الإسلام ويترك بعضه؛ فإن مسجده أسس على التقوي في السنة الأولي من الهجرة، وهو أفضل مسجد على وجه الأرض إلا المسجد الحرام‏.‏ وقيل‏:‏ هو أفضل مطلقا‏.‏
فهـل يقـول عاقـل‏:‏ إن مساجـد المسلمـين ـ مساجـد الجـوامـع التي يصلى فيها الجمعـة وغيرها ـ فضيلتها واستحباب قصدها للصلاة فيها لأجل قبر عندها‏.‏ فإذا لم يجز أن يقال هذا في مثل هذه المساجد فكيف يقال فيما هو خير منها كلها وأفضل‏.‏
والمسجد الحرام أفضل المساجد مطلقاً عند الجمهور، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، كما في المسند والسنن‏.‏ فهل يقول عاقل‏:‏ إن فضيلته لقبر هناك‏.‏
والمسجد الأقصي أفضل المساجد بعد المسجد النبوي، وببيت المقدس من قبور الأنبياء ما لا يحصيه إلا اللّه‏.‏ فهل يقول عاقل‏:‏ إن فضيلته لأجل القبور ‏؟‏‏!‏ نعم، هذا اعتقاد النصاري، يعتقدون أن فضيلة بيت المقدس لأجل ‏[‏الكنيسة‏]‏ التي يقال‏:‏ إنها بنيت على قبر المصلوب، ويفضلونها على بيت المقدس‏.‏ وهؤلاء من أضل الناس وأجهلهم،/وهذا يضاهي ما كان المشركون عليه في المسجد الحرام لما كانت فيه الأوثان، وكانوا يقصدونه لأجل تلك الأوثان التي فيه، لم يكونوا يصلون فيه، بل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 35‏]‏، لكن كانوا يعظمون نفس البيت، ويطوفون به، كما كانوا يحجون كل عام، مع ما كانوا غيروه من شريعة إبراهيم، حتى بعث اللّه محمداً بالهدي ودين الحق، وأمره باتباع ملة إبراهيم، فأظهرها، ودعا إليها، وأقام الحج على ما شرعه اللّه لإبراهيم، ونفي الشرك عن البيت، وأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَإليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏
فبين أن عمار المساجد هم الذين لا يخشون إلا اللّه، ومن لم يخش إلا اللّه فلا يرجو ويتوكل إلا عليه، فإن الرجاء والخوف متلازمان‏.‏
والذين يحجون إلي القبور يدعون أهلها، ويتضرعون لهم، ويعبدونهم ، ويخشون غير اللّه، ويرجون غير اللّه، كالمشركين الذين يخشون آلهتهم ويرجونها؛ ولهذا لما قالوا لهود ـ عليه السلام ‏:‏‏{‏إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ على اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54‏:‏ 56‏]‏، ولما حاجوا إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال لهم‏:‏ ‏{‏وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ علىكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏:‏ 82‏]‏، ولما خوفوا محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بمن دون اللّه قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إليسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ إليسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏:‏ 38‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ ّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 195، 196‏]‏‏.