فَصْـــل: في كتاب الجواب الباهر
 
قَالَ شَيخ الإسْلام ـ أسْكَنَه الله الجَنّة آمين ‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم، ولا قوة إلا بالله العلى العظيم‏.‏
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‏.‏ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا‏.‏
/ فَصْـــل
في الجواب عما كتب على نسخة جواب الفتيا، وبيان بطلان ذلك، وأن الحكم به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة، قد بسطت في غير هذا الموضع‏.‏ وهي خمسون وجهًا‏:‏ تبين بطلان ما كتب به، وبطلان الحكم به‏.‏
الأول‏:‏ أنه نقل عن الجواب ما ليس فيه، ورتب الحكم على ذلك النقل الباطل‏.‏ ومثل هذا باطل بالإجماع؛ فإنه نقل أن المجيب قال‏:‏ إن زيارة الأنبياء بدعة، أو أنه ذكر نحو ذلك، والمجيب لم يذكر ذلك، ولا نقل ذلك عن أحد من العلماء، وإنما في الجواب ذكر قول العلماء فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين‏:‏ هل يحرم هذا السفر، أو يجوز، وأن الطائفتين اتفقوا على أنه غير مستحب، والطائفتان لم يقولا ذلك في الزيارة المطلقة، بل جمهورهم يقولون‏:‏ إن زيارة القبور مستحبة، وهذا هو الصحيح، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولكن لا يقولون‏:‏ إنه يستحب السفر إليها، كما اتفق المسلمون على أنه يشرع إتيان المساجد غير المساجد الثلاثة، وأن إتيانها /قد يكون فرضًا، وقد يكون سنة؛ مثل إتيانها للجمعة والجماعة‏.‏ واتفقوا على أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بفرض ولا سنة، فهكذا زيارة القبور على الوجه الشرعي مستحبة، وهي سنة، والسفر إلى ذلك ليس بفرض ولا سنة عند الطائفتين‏.‏
والمجيب لم يذكر لنفسه في الجواب قولاً، بل حكي أقوال علماء المسلمين، وأدلتهم، وهؤلاء نقلوا عنه ما لم يقله، واستدلوا بما لا ينازع فيه، وأخطؤوا فيما نقلوه وفهموه من كلام من نقل الإجماع، وفيما استدلوا به عليه، وذلك من وجوه كثيرة جدًا، ولكن مقصود هذا الوجه‏:‏ أن الذي كتب على الجواب نقل عنه أنه هو القائل، وأنه قال‏:‏ إن زيارة الأنبياء بدعة ، وهذا باطل عنه‏.‏ والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن الطائفتين من علماء المسلمين اتفقوا على أن السفر لمجرد زيارة القبور ليس بفرض ولا سنة، وهؤلاء جعلوا السفر إلى زيارة القبور سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسن لأمته السفر لذلك، ولا قال علماء شريعته‏:‏ إن السفر إليها سنة‏.‏ فقد حكموا بما يخالف السنة والإجماع، وهذا الحكم باطل بالإجماع‏.‏ وذلك أن المجيب ذكر القولين ـ فيمن لم يسافر إلا إلى القبور، ولم يقصد مع ذلك المسجد ـ قول من جوز ذلك ولم يستحبه /وقول من حرمه‏.‏ وهم لم يقتصروا على رد أحد القولين، فإن هذا لا يناقض ما ذكره المجيب، بل قالوا‏:‏ وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند العلماء، ومتي ما بطل ما ذكره في الجواب بالقولين، تعين جعل السفر سنة مستحبة‏.‏
وأيضًا، فإنهم احتجوا بنقل من نقل الإجماع على استحباب السفر الذي ذكر فيه القولين‏.‏
الثالث‏:‏ أنهم احتجوا بنقل من نقل من العلماء أن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة مرغب فيها وسنة مجمع عليها‏.‏ وهؤلاء نقلوا الإجماع على الزيارة، لا على السفر لمجرد القبر‏.‏ ولو نقلوا الإجماع على السفر للزيارة فمعلوم أن المسلمين يقصدون المسجد والقبر، لا يقصد القبر دون المسجد إلا جاهل، وإذا قصد الزائر المسجد والقبر جميعًا فالمجيب لم يذكر القولين في هذه الصورة، وإنما ذكرهما فيمن لم يسافر إلا لمجرد زيارة القبور، والجواب لم يكن في خصوص قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان في جنس القبور‏.‏ وجعلوا ذلك إجماعًا على السفر إلى سائر قبور الأنبياء، فإن المجيب فرق بين الزيارة النبوية الشرعية التي أجمع المسلمون على استحبابها، وبين ما أجمعوا على أنه لا يستحب، وما تنازعوا فيه، وما نقلوه من الإجماع وإن كان عندهم لا يدل على مثل ما ذكره المجيب لم يكن حجة عليه، وهم جعلوه حجة /على بطلان الجواب،وذلك إنما يكون إذا قيل باستحباب السفر مطلقًا فغلطوا على من نقل الإجماع فلم يفهموا مراده، وحكموا بناء على هذا الاعتقاد الباطل، ومثل ذلك باطل بالإجماع‏.‏
الرابع‏:‏ أنهم جعلوا هذا النقل مخالفًا للجواب، وليس مخالفًا له، بل المفتي قد ذكر في الجواب استحباب العلماء لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحك عن أحد أنه قال‏:‏ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم محرمة، والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع‏.‏
الخامس‏:‏ أن هؤلاء جعلوا جنس الزيارة مستحبًا بالإجماع، ولم يفصلوا بين المشروع والمحرم، والزيارة بعضها مشروع وبعضها محرم بالإجماع، كما ذكر ذلك في جواب الفتيا، وهم أنكروا هذا التفصيل، وهذا مخالف للإجماع والحكم به باطل بالإجماع‏.‏ فإن المجيب لم ينكر السفر للزيارة الشرعية بالإجماع، بل بين في الجواب ما أجمع عليه المسلمون من السفر، ومن الزيارة‏.‏ وهذا مبسوط في مواضع كثيرة من كلامه، مشهور عنه‏.‏ وذكر ما تنازعوا فيه، وما اتفقوا على النهي عنه‏.‏ فلو وافقوا على التفصيل لم ينكروا الجواب، فلما جعلوا الجواب باطلا عند العلماء تبين أنهم لم يفصلوا‏.‏
/السادس‏:‏ أن الزيارة ثلاثة أنواع‏:‏ نوع اتفق العلماء على استحبابه، ونوع اتفقوا على النهي عنه، ونوع تنازعوا فيه‏.‏ وفي الجواب ذكر الأنواع الثلاثة‏.‏ وهؤلاء لم يفصلوا بين ما أجمع عليه وبين ما تنازع العلماء فيه، ولا ذكروا أن ما تنازع فيه العلماء يرد إلى الله والرسول، بل جعلوه مردودًا بمجرد قولهم، وهذا باطل بالإجماع‏.‏ والحكم بذلك باطل بالإجماع‏.‏ والمجيب إنما ذكر اتفاق الطائفتين على أن السفر غير مستحب إذا سافر لمجرد زيارة قبر بعض الأنبياء والصالحين، وهذا منتف في الغالب في قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن من هو عارف بشريعة الإسلام لابد أن يقصد المسجد مع القبر، لاسيما مع علمه بأنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صـلاة في مسـجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام‏)‏‏.‏ ولهذا احتج طائفة من العلماء على استحباب زيارة قبره بهذا الحديث‏.‏ وهذه الزيارة التي يفعلها من يعلم الشريعة لم يذكر المجيب أنها لا تستحب بالإجماع‏.‏ وكيف يقول ذلك واستحبابها موجود في كلام العلماء‏؟‏‏!‏
السابع‏:‏ أن الإجماع على أن الزيارة سنة وفضيلة ليس هو إجماعًا على كل ما يسمي زيارة، ولا على هذا اللفظ، بل هو إجماع على ما شرعه الله من حقوقه في مسجده‏.‏ وهل يكره أن يسمي ذلك زيارة لقبره على قولين‏.‏ وكثير مما يسمي زيارة لقبره فيه نزاع أو هو منهي /عنه بالإجماع، وهؤلاء جعلوا الإجماع متناولا لما تنازع العلماء فيه، واحتجوا بالإجماع في موارد النزاع، وهذا خطأ‏.‏
الثامن‏:‏ أن ما تنازع فيه العلماء يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوه إلى الله ولا إلى الرسول، بل قالوا‏:‏ إنه كلام باطل مردود على قائله بلا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا باطل بالإجماع‏.‏
التاسع‏:‏ أن الذين حكوا الإجماع على استحباب السفر لمجرد زيارة القبر بل الإجماع، إنما هو على استحباب السفر إلى مسجده‏.‏ وأما السفر لمجرد القبر فهذا فيه النزاع المشهور‏.‏ وما فيه نزاع يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوا ما تنازع العلماء فيه إلى الله والرسول، بل ادعوا فيـه الإجماع وغلطوا على مـن حكوا عنه الإجماع، ومن زجر عن قول لكونه مخالفًا للإجماع ولم يكن مخالفًا للإجماع كان هو المخطئ بالإجماع‏.‏
العاشر‏:‏ أن ما لا إجماع فيه يجب رده إلى الله والرسول بالإجماع، وإن احتج فيه بالكتاب والسنة كان هو المصيب، والجواب فيه ذكر النزاع والاحتجاج بالكتاب والسنة في موارد النزاع، وهؤلاء جعلوا ذلك مردودًا، ولم يردوه إلى الله والرسول، بل ردوا على من احتج /بالكتاب والسنة في مسائل النزاع، وحكموا بهذا الرد المخالف للإجماع‏.‏ والحكم بمثل ذلك باطل بالإجماع‏.‏
الحادي عشر‏:‏ أن الذي ذكر في الفتيا ما أجمع عليه كالزيارة المستحبة، وما أجمعوا على النهي عنه، وما تنازعوا فيه، وهذا أقصي ما يكون عند المفتين‏.‏ وهؤلاء جعلوا ذلك من الفتاوي الباطلة عند العلماء، وهذا التفصيل ليس باطلا عند أحد من علماء المسلمين، وهم جعلوه باطلا، وحكموا بذلك، ومثل هذا الحكم باطل بالإجماع‏.‏
الثاني عشر‏:‏ أن ما تنازع فيه العلماء ليس لأحد من القضاة أن يفصل النزاع فيه بحكم، وإذا لم يكن لأحد من القضاة أن يقول‏:‏ حكمت بأن هذا القول هو الصحيح، وأن القول الآخر مردود على قائله، بل الحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين أو أجمعوا عليه، قوله في ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالمًا، وإن كان مقلدًا كان بمنزلة العامة المقلدين، والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالمًا مجتهدًا عالمًا مجتهدًا، ولو كان الكلام في العلم والدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين، وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين‏.‏ فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدعي ذلك لنفسه، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله‏.‏ فمن هو دون السلطان في الولاية أولي بألا يتعدي /طوره، ولا يقيم نفسه في منصب لا يستحق القيام فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى ـ وهم الخلفاء الراشدون ـ فضلا عمن هو دونهم؛ فإنهم ـ رضي الله عنهم ـ إنما كانوا يلزمون الناس باتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول‏:‏ إنما بعثت عمالي ـ أي نوابي ـ إليكم ليعلموكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم‏.‏ بل هذه يتكلم فيها من علماء المسلمين من يعلم ما دلت عليه الأدلة الشرعية؛ والكتاب والسنة‏.‏ فكل من كان أعلم بالكتاب والسنة فهو أولي بالكلام فيها من غيره، وإن لم يكن حاكمًا،والحاكم ليس له فيها كلام لكونه حاكمًا، بل إن كان عنده علم تكلم فيها كآحاد العلماء‏.‏ فهؤلاء حكموا فيما ليس لهم فيه الحكم بالإجماع وهذا من الحكم الباطل بالإجماع‏.‏
الثالث عشر‏:‏ أن الأحكام الكلية التي يشترك فيها المسلمون ـ سواء كانت مجمعًا عليها أو متنازعًا فيها ـ ليس للقضاة الحكم فيها، بل الحاكم العالم كآحاد العلماء يذكر ما عنده من العلم، وإنما يحكم القاضي في أمور معينة‏.‏ وأما كون هذا العمل واجبًا أو مستحبًا أو محرمًا فهذا من الأحكام الكلية التي ليس لأحد فيها حكم إلا لله ورسوله‏.‏ وعلماء المسلمين يستدلون على حكم الله ورسوله بأدلة ذلك‏.‏ وهؤلاء حكموا في الأحكام الكلية، وحكمهم في ذلك / باطل بالإجماع‏.‏
الرابع عشر‏:‏ أن الكلام في هذه المسائل الكلية، إنما يجوز لمن كان عالمًا بأقوال علماء المسلمين فيها، وما أجمعوا عليه، وما تنازعوا فيه، عالمًا بالكتاب والسنة، ووجه الاستدلال بهما‏.‏ وكلام هؤلاء يتضمن أنهم لا يعرفون ما قاله علماء المسلمين في هذه المسائل، ولا يميزون بين ما أجمع عليه العلماء وتنازعوا فيه، ولا يعرفون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسائل، ولا يفرقون بين ما رغب فيه وما نهي عنه ولم يسنه، ولا يعرفون الأحاديث الصحيحة والضعيفة في هذا الباب، بل ولا يعرفون مذهبهم في هذه المسائل، ولا عندهم نقل عن الأئمة الأربعة، ولا العلماء المشهورين من أتباعهم فيما قالوه وحكموا به، بل هم فيه بمنزلة آحاد المتفقهة الطلبة الذين ينبغي لهم طلب علم هذه المسائل، بل لا يجوز لأحدهم أن يفتي فيها، ولا يناظر، ولا يصنف، فضلا عن أن يحكم‏.‏ ومعلوم أن من كان كذلك وحكم فيما ليس له الحكم فيه كان حكمه محرمًا بالإجماع، فكيف إذا حكم فيما ليس له فيه الحكم، وحكم بخلاف الإجماع؛ فإن الحاكم إذا حكم بغير اجتهاد ولا تقليد كان حكمه محرمًا بالإجماع‏.‏
الخامس عشر‏:‏ أن القاضي يجب أن يكون مجتهدًا عند بعض /العلماء، وعند بعضهم يجوز له التقليد للعلماء؛ وهؤلاء لو كانت هذه المسائل مما لهم فيه الحكم فهم لم يقلدوا ـ فيما قالوه ـ أحدًا من أئمة المسلمين، فضلاً أن يكونوا فيه مجتهدين، بل حكموا بغير اجتهاد ولا تقليد، وهذا الحكم الباطل بالإجماع، ولو كان على يهودي عشرة دراهم معينة، فكيف إذا حكموا على علماء المسلمين في الأحكام الكلية التي لا حكم لهم فيها بالإجماع‏.‏
السادس عشر‏:‏ لو كان لهم فيها الحكم وقد حكموا بالكتاب والسنة والإجماع، لم يكن لهم الحكم حتى يسمعوا كلام المحكوم عليه وحجته، ويعذروا إليه، وهل له جواب أم لا‏؟‏ فإن العلماء تنازعوا في الحقوق كالأموال هل يحكم فيها على غائب‏؟‏ على قولين‏.‏ ومن جوز الحكم عليه قال‏:‏ هو باق على حجته تسمع إذا حضر‏.‏ فأما العقوبات والحدود فلا يحكم فيها على غائب، وهؤلاء حكموا على غائب في ذلك، ولم يمكنوه من سماع كلامه والإدلاء بحجته، وهذا لو كان على يهودي كان حكمًا باطلاً بالإجماع‏.‏ ولهذا كان جميع الناس أهل العلم والدين والعقل ينكرون مثل هذا الحكم، ويعلمون أنه حكم بغير حق‏.‏
السابع عشر‏:‏ أنه لو كان الحاكم خصمًا لشخص في حق من الحقوق لم يجز أن يحكم الحاكم على خصمه بإجماع المسلمين، وكذلك ‏[‏المسائل العلمية‏]‏ إذا تنازع حاكم وغيره من العلماء في تفسير آية أو / حديث أو بعض مسائل العلم لم يكن للحاكم أن يحكم عليه بالإجماع، فإنهما خصمان فيما تنازعا فيه، والحاكم لا يحكم على خصمه بالإجماع‏.‏
الثامن عشر‏:‏ أن هذه المسائل منقولة في كتب أهل العلم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهؤلاء حكموا فيها بخلاف مذاهب الأئمة الأربعة ولم يعرفوا مذاهب أئمتهم، ولا مذاهب غيرهم من الأئمة والعلماء ولا ما دلت عليه السنة والآثار‏.‏ ومعلوم أن مثل هذا الحكم باطل بالإجماع، ومن ادعي منهم أن الذي حكم به هو قول العلماء فليكتب خطه بذلك، وليذكر ما ذكره العلماء فيها من إجماع ونزاع وأدلة ذلك؛ ليتبين أن الذي يقول بخلاف جواب المفتي قولاً باطلاً، وإلا فقد علم أنهم حكموا بغير الحق، وهذا باطل بالإجماع‏.‏
التاسع عشر‏:‏ أنه لو كان أحدهم عارفًا بمذهبه لم يكن له أن يلزم علماء المسلمين بمذهبه، ولا يقول‏:‏ يجب عليكم أنكم تفتون بمذهبي، وأنه أي مذهب خالف مذهبي كان باطلا، من غير استدلال على مذهبه بالكتاب والسنة‏.‏ ولو قال‏:‏ من خالف مذهبي فقوله مردود، ويجب منع المفتي به وحبسه لكان مردودًا عليه، وكان مستحقًا العقوبة على ذلك بالإجماع، فكيف إذا كان الذي حكم به ليس هو مذهب أحد من الأئمة الأربعة‏؟‏‏!‏ بل الذي أفتي به المفتي هو موافق للإجماع، دون من أنكر قوله وخالف الإجماع‏.‏
/الوجه العشرون‏:‏ أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوي أخطأ في مائة مسألة لم يكن ذلك عيبًا، وكل من سوي الرسول صلى الله عليه وسلم يصيب ويخطئ‏.‏ ومن منع عالمًا من الإفتاء مطلقًا، وحكم بحبسه لكونه أخطأ في مسائل، كان ذلك باطلاً بالإجماع‏.‏ فالحكم بالمنع والحبس حكم باطل بالإجماع‏.‏ فكيف إذا كان المفتي قد أجاب بما هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول علماء أمته‏؟‏‏!‏
الحادي والعشرون‏:‏ أن المفتي لو أفتي في المسائل الشرعية ـ مسائل الأحكام ـ بما هو أحد قولي علماء المسلمين، واستدل على ذلك بالكتاب والسنة، وذكر أن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، دون القول الآخر ـ في أي باب كان ذلك، من مسائل البيوع، والنكاح، والطلاق، والحج، والزيارة، وغير ذلك ـ لم يكن لأحد أن يلزمه بالقول الآخر بلا حجة من كتاب أو سنة، ولا أن يحكم بلزومه، ولا منعه من القول الآخر بالإجماع‏.‏ فكيف إذا منعه منعًا عامًا، وحكم بحبسه‏؟‏ فإن هذا من أبطل الأحكام بإجماع المسلمين‏.‏
الثاني والعشرون‏:‏ أن الحاكم لو ظن الإجماع فيما ليس فيه إجماع، وألزم الناس بذلك القول لظنه أنه مجمع عليه، ولم يستدل على ذلك بكتاب أو سنة، وكان فيه نزاع لم يعلمه، لكان مخطئًا في إلزام الناس / بذلك بالإجماع، إلا أن يدل عليه كتاب أو سنة‏.‏
الثالث والعشرون‏:‏ أن الحاكم متي خالف نصًا أو إجماعًا نقض حكمه باتفاق الأئمة، وحكم هؤلاء خالف النص والإجماع من وجوه كثيرة فهو مستحق للنقض بالإجماع‏.‏
الرابع والعشرون‏:‏ أن هذا الحكم وأمثاله هو مثل ما تقدم من الحكم مرة بعد مرة في بعض ما هو في نظيره هذه القضية، وكل واحد من تلك الأحكام باطل بالإجماع من وجوه كثيرة، فكذلك هذا‏.‏
الخامس والعشرون‏:‏ أن هذه الأحكام ـ مع أنها باطلة بالإجماع ـ فإنها مثيرة للفتن، مفرقة بين قلوب الأمة، متضمنة للعدوان على المسلمين، وعلى ولاة أمورهم، مؤذية لهم، جالبة للفتن بين المسلمين‏.‏ والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا والآخرة، والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة‏.‏ فيجب نقضه بالإجماع‏.‏
السادس والعشرون‏:‏ أن ما يحصل به أذي للمسلمين إذا كان مما أمر الله به ورسوله كانوا مطيعين في ذلك لله ورسوله، وأجرهم فيه على الله، كالجهاد‏.‏ أما إذا كان الذي يؤذيهم مما لم يأمر به الله ولا رسوله وجب رده بالإجماع‏.‏ ومثل هذه الأحكام المؤذية للمسلمين وولاة أمورهم، /وهي مخالفة للسنة والإجماع، فيجب ردها بالإجماع‏.‏
السابع والعشرون‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ إن هذا المفتي ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند العلماء والأئمة الكبار‏.‏ وقولهم هو الباطل عند العلماء والأئمة الكبار‏.‏ ومن ادعي أن قول العلماء والأئمة الكبار هو الباطل عند العلماء والأئمة الكبار كان قوله وحكمه به باطلا بالإجماع‏.‏ فإن هذه الفتيا هي قول العلماء والأئمة الكبار؛ فيها قول مالك وغيره من الأئمة الكبار‏.‏ والقول الآخر ليس للعلماء والأئمة الكبار، قول إلا ما ذكر فيها، وما ذكروه لا يعرف عن أحد من العلماء والأئمة الكبار‏.‏
الثامن والعشرون‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ يمنع من الفتاوي الغريبة المردودة عند الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين‏.‏ والحكم به باطل بالإجماع؛ فإن الأئمة الأربعة متفقون على أنه إنما ينقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو معني ذلك‏.‏ فأما ما وافق قول بعض المجتهدين في ‏[‏مسائل الاجتهاد‏]‏ فإنه لا ينقض لأجل مخالفته قول الأربعة، وما يجوز أن يحكم به الحاكم يجوز أن يفتي به المفتي بالإجماع، بل الفتيا أيسر؛ فإن الحاكم يلزم، والمفتي لا يلزم‏.‏ فما سوغ الأئمة الأربعة للحاكم أن يحكم به فهم يسوغون للمفتي أن يفتي بـه بطريق الأولي والأحري، ومن حكم بمنع الإفتاء بذلك فقد خالف الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين‏.‏ فما قالوه هو المخالف للأربعة وسائر أئمة المسلمين،/ فهو باطـل بالإجماع‏.‏
التاسع والعشرون‏:‏ أن جميع المذاهب فيها أقوال قالها بعض أهلها ليست قولاً لصاحب المذهب، وفيها جميعها ما هو مخالف لقول الأربعة، وهم يحكون ذلك قولا في المذهب، ولا يحكمون ببطلانه إلا بالحجة، لاسيما إذا خرج على أصول صاحب المذهب وبين من نصوصهم ما يقتضي ذلك، كما يفعله أتباعهم في كثير من المسائل‏.‏ والمجيب قد ذكر من كلام الأئمة الأربعة ومن قبلهم ـ ممن يعظمونهم من العلماء ـ وكلام من تقدمهم ما يعرف به أقوال علماء المسلمين‏.‏ فإبطال القول لمجرد مخالفته للأربعة هو مخالف لأقوال الأربعة، ولأتباع الأئمة الأربعة، فهو باطل بالإجماع‏.‏
الوجه الموفي ثلاثين‏:‏ أن ما أنكروه في مسائل الزيارة ومسائل الطلاق من فتاوي المفتي المدلول ليس فيها شيء يخرج عن المذاهب الأربعة، بل إما أن يكون ما أفتي به قول جميع أهل المذاهب الأربعة ـ كالذي أفتي في هذه المسألة ـ مسألة الزيارة ـ فإن الذي قاله هو قول جميع أهل المذاهب الأربعة ، بل وقول جميع علماء المسلمين قد ذكروا ما أجمعوا عليه وما تنازعوا فيه ـ وإما أن يكون ما أفتي به فيها قول بعض الأئمة الأربعة ، أو بعض المنتسبين إليهم ، كمسائل الطلاق ، فإن مسائـل النزاع فيهـا قـد تنازع فيهـا أهـل المذاهب الأربعـة ، والمفتي /المذكور لم يفت فيها إلا بما قاله بعضهم، وما يمكن الإفتاء فيها إلا بذلك‏.‏ ومن أنكر ما لا يعلمه وحكم بلا علم وخالف النص والإجماع كان حكمه باطلا بالإجماع‏.‏
الحادي والثلاثون‏:‏ أن قولهم‏:‏ يحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره؛ ليتحفظ الناس من الاقتداء به‏.‏ وإنما يستحق ذلك من أظهر البدعة في دين المسلمين، واستحبها، ودعا إليها الناس، وحكم بعقوبة من أمر بالسنة ودعا إليها، والسفر إلى زيارة القبور هي البدعة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين‏.‏ وكذلك جعل زيارة القبور جنسًا واحدًا لا يفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية خطأ باتفاق المسلمين‏.‏ وكذلك التسوية بين ‏[‏الزيارة النبوية الشرعية‏]‏ التي يسافر فيها المسلمون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين السفر إلى زيارة قبر غيره، كل ذلك مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإجماع أمته‏.‏ فمن أمر بذلك كان أحق بالمنع، ويشهر خطأه؛ ليتحفظ الناس من الاقتداء به، أولي ممن أفتي بالسنة والإجماع، مع أن الله ـ سبحانه ـ هو الفاعل لذلك، فهو الذي يظهر خطأ هؤلاء في مشارق الأرض ومغاربها في هذا الزمان وما بعده من الأزمنة، كما فعله في سائر من ابتدع في الدين، وخالف شريعة سيد المرسلين‏.‏ فإن المفتي ذكر في الجواب ما اتفق المسلمون على استحبابه /وما اتفقوا على النهي عنه‏.‏ وما تنازعوا فيه، ولم ينه عن الزيارة مطلقًا، لا لفظًا، ولا معني‏.‏ والإجماع الذي ذكروه هو موافق لما ذكره لا مخالف له‏.‏ فالزيارة التي أجمع المسلمون عليها هو من أعظم القائلين باستحبابها، لا يجعل المستحب مسمي الزيارة ويسوي بين دين الرحمن ودين الشيطان، كما فعل هؤلاء، وأنكروا على من فرق بين دين الرحمن، ودين الشيطان‏.‏
الثاني والثلاثون‏:‏ أن قبول قول الحاكم وغيره بلا حجة مع مخالفته للسنة مخالف لإجماع المسلمين، وإنما هو دين النصاري الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم‏)‏‏.‏ والمسلمون متفقون على أن ما تنازعوا فيه يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول، بل حكموا برده بقولهم، وهذا باطل بإجماع المسلمين‏.‏
وأيضًا، فحكموا بقول ثالث خلاف قولي علماء المسلمين فخرجوا وحكمهم عن إجماع المسلمين، وهذا باطل بإجماع المسلمين‏.‏
/الثالث والثلاثون‏:‏ أن كلامهم تضمن الاعتراف بأن ما أفتي به المفتي هو قول بعض علماء المسلمين‏.‏ وحينئذ فما تنازع فيه المسلمون يجب رده إلى الله والرسول، ولا يحكم فيه إلا كتاب الله أو سنة نبيه، وهؤلاء حكموا فيما تنازع فيه المسلمون بغير كتاب الله ولا سنة رسوله‏.‏ ومثل هذا الحكم باطل بإجماع المسلمين‏.‏ وهذا لو كان ما أفتي به قول بعضهم، فكيف وهو ذكر القولين اللذين اتفق المسلمون عليهما‏.‏ والقول الذي أنكروه هو قول الأئمة الكبار، وقولهم لم ينقله أحد من الأئمة الكبار ولا الصغار‏؟‏‏!‏
الرابع والثلاثون‏:‏ أنه لو قدر أن المفتي أفتي بالخطأ، فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة، فالواجب أن تبين دلالة الكتاب والسنة على خطئه، ويجاب عما احتج به، فإنه لابد من ذكر الدليل والجواب عن المعارض، وإلا فإذا كان مع هذا حجة ومع هذا حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح، وهؤلاء لم يفعلوا شيئًا من ذلك، فلو كان المفتي مخطئًا لم يقيموا عليه، فكيف إذا كان هو المصيب وهم المخطئون‏؟‏‏!‏ فحكم مثل هؤلاء الحكام باطل بالإجماع‏.‏
الخامس والثلاثون‏:‏ أن المفتي إذا تبينت له الأدلة الشرعية، فإن تبين له الصواب وإلا كان له أسوة أمثاله من العلماء الذين يقولون قولا مرجوحًا‏.‏ ومعلوم أن هؤلاء يستحقون العقوبة والحبس والمنع /عن الفتيا مطلقًا بإجماع المسلمين، وهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين‏.‏
السادس والثلاثون‏:‏ أن إلزام الناس بما لم يلزمهم به الله ورسوله، ومنعهم أن يتبعوا ما جاء به الكتاب والسنة حرام بإجماع المسلمين، والحكم به باطل بإجماع المسلمين وهؤلاء لم يستدلوا على ما قالوه بكتاب الله ولا سنة رسوله، ولا أجابوا عن حجة من احتج بالكتاب والسنة، ومثل هذا الإلزام والحكم به باطل بالإجماع‏.‏
السابع والثلاثون‏:‏ أن علماء المسلمين إذا تنازعوا في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بل القول الثالث يكون مخالفًا لإجماعهم‏.‏ والمسلمون تنازعوا في السفر لغير المساجد الثلاثة على قولين‏:‏ هل هو حرام، أو جائز غير مستحب‏.‏ فاستحباب ذلك قول ثالث مخالف للإجماع، وليس من علماء المسلمين من قال‏:‏ يستحب السفر لزيارة القبور، ولا يستحب إلى المساجد، بل السفر إلى المساجد قد نقل عن بعضهم أنه قال‏:‏ مستحب يجب بالنذر، وأما السفر إلى القبور لم يقل أحد منهم‏:‏ إنه مستحب، ولا أنه يجب بالنذر، وكلهم متفقون على أن الذهاب إلى المساجد أفضل من الذهاب إلى القبور؛ فإن زيارة الأنبياء والصالحين حيث كانت مشروعة فلا تشرع في اليوم والليلة خمس مرات، والمسجد مشروع إتيانه في اليوم والليلة خمس مرات، فإتيانه أولي من إتيانها بالإجماع‏.‏
/ الثامن والثلاثون‏:‏ أن إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصد ذلك والسفر لذلك أولي من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين‏.‏ فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليلة خمس مرات، والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم؛ لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد، وأن يتخذوا قبره عيدًا، أو وثناً‏.‏ وأنه قال لهم‏:‏ ‏(‏صلوا على حيثما كنتم‏)‏‏.‏ وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه في المسجد أولي من عند قبره‏.‏ وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد، سواء قصد ذلك أو لم يقصده، والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع‏.‏
والمجيب قد ذكر في الجواب الزيارة المجمع عليها، والمتنازع فيها، وهؤلاء أعرضوا عن الأمر بما أمر الله به ورسوله وعلماء أمته، وعن استحباب ما أحبه الله ورسوله وجميع علماء أمته، وفهموا من كلام العلماء ما لم يقصدوه؛ فإن القاضي عياض الذي حكي ألفاظه قد صرح بما صرح به إمامه وجمهور أصحابه، أنه لا يجوز السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وهو لم يذكر استحباب قصد القبر دون المسجد، بل ذكر ما نقله عن العلماء في فضل زيارة الرسول ما بين به مراده، وذكر عن مالك أنه كره أن يقف بعد السلام، وهذا كراهته لزيارة أكثر العامة‏.‏ وهؤلاء / جعلوا مسمي الزيارة مستحبًا، وأنكروا على من فصل بين الزيارة الشرعية والبدعية‏.‏ وذكر أن أهل المدينة يكره لهم الوقوف عند القبر، وإن قصدوا مجرد السلام ، إلا عند السفر‏.‏ وذكر ـ أيضًا ـ أنه يستحب قصد المسجد ، وأن هذا لم يزل المسلمون يفعلونه، فقال‏:‏ ‏(‏فصل في حكم زيارة قبره‏)‏‏:‏ وزيارة قبره سنة بين المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها‏.‏ قال‏:‏ وكره مالك أن يقال‏:‏ زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال‏:‏ وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه‏:‏ ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ التبرك برؤية روضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه، والعمود الذي كان يستند عليه وينزل جبرائيل بالوحي فيه عليه، وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كله‏.‏
فقد بين أن الإجماع الذي حكوه يتضمن قصد الصلاة في مسجده وأن القبر من جملة آثاره‏.‏ وهؤلاء زعموا أنه حكي الإجماع على السفر إلى مجرد القبر، وهو لم يذكر ذلك، ولا ما يدل عليه، بل ذكر خلاف ذلك من وجوه‏.‏ وهؤلاء أخطؤوا عليه فيما نقله، ولم يعرفوا ما في ذلك من السنة والإجماع، وهذا الحكم باطل بالإجماع‏.‏
/الوجه التاسع والثلاثون‏:‏ أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوي أفتي في عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه‏.‏ وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدون، لم يجز منعه من الفتيا مطلقًا، بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه‏.‏ فما زال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك‏.‏ فابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان يقول في ‏[‏المتعة والصرف‏]‏ بخلاف السنة الصحيحة، وقد أنكر عليه الصحابة ذلك، ولم يمنعوه من الفتيا مطلقًا، بل بينوا له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المخالفة لقوله، فعلى ـ رضي الله عنه ـ روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم المتعة، وأبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ وغيره رووا له تحريمه لربا الفضل ، ولم يردوا فتياه لمجرد قولهم وحكمهم ويمنعوه من الفتيا مطلقًا ومثل هذا كثير‏.‏ فالمنع العام حكم بغير ما أنزل الله، وهو باطل باتفاق المسلمين‏.‏ لو كان ما نازعوه فيه مخالفًا للسنة، فكيف إذا كانت معه، بل ومعه إجماع علماء المسلمين فيما أنكروه من مسائل الزيارة، وهذا مما يبين أن هذا الحكم من أبطل حكم في الإسلام ومن أعظم التغيير لدين الإسلام بإجماع المسلمين‏.‏
الوجه الموفي أربعين‏:‏ أن هذه المسائل يعرفها علماء المسلمين من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا الوقت؛ فإن جميع المسلمين / يحتاجون إليها، فيمتنع أن يعرف بعض الناس فيها الحق دون السلف والأئمة‏.‏ والمجيب قد صنف فيها مجلدات؛ بين فيها أقوال الصحابة وأفعالهم، وأقوال علماء المسلمين، ما أجمعوا عليه، وما تنازعوا فيه، وبين الأحاديث النبوية صحيحها وضعيفها، وكلام العلماء فيها، وبين خطأ من نازعه ممن صنف في ذلك، وبسط القول في ذلك‏.‏ وهؤلاء لو كانوا قد قالوا ببعض أقاويل العلماء، فلم يأتوا عليه بحجة، فكيف وقد قالوا ما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع علماء المسلمين في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد بينه الرسول لأمته، وعرف ذلك علماء أمته قرنًا بعد قرن إلى هذا الزمان، ومعلوم أن مثل هذا الحكم باطل بإجماع المسلمين‏.‏
الوجه الحادي والأربعون‏:‏ أنهم لو قالوا ببعض أقوال العلماء فظنوا أنه لا تنازع فيه كانوا عددًا، مثل من يظن‏:‏ أن السنة للزائر أن يقف عند القبر ويستقبله ويسلم عليه، وقد يظن ذلك إجماعًا، وهو غالط؛ فإن من العلماء من لم يستحب استقبال القبلة، ومنهم من لم يستحب الوقوف عند القبر، كما قد بين النقل عنهم في مواضعه‏.‏ وأما هؤلاء فحكموا بقول لم يقله أحد من علماء المسلمين، وذلك باطل بالإجماع‏.‏
الثاني والأربعون‏:‏ أن ما قالوه لو قاله مُفْتٍ لوجب الإنكار عليه، /ومنعه وحبسه إن لم ينته عن الإفتاء به؛ لأنه مخالف للسنة والإجماع، فكيف إذا قاله حاكم يلزم الناس به‏؟‏‏!‏ وهو أولي بالمنع والعقوبة على ذلك كأهل البدع؛ من الخوارج، والرافضة، وغيرهم والذين يبتدعون بدعة يلزمون بها الناس، ويعادون من خالفهم فيها، ويستحلون عقوبته‏.‏ والبدع المتضمنة للشرك واتخاذ القبور أوثانًا، والحج إليها، ودعاء غير الله، وعبادته؛ من بدع الخوارج، والروافض، والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏