طلبه من السلطان النظر في فتواه وانصافه
 
/ وَقَــال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
أما بعد، يقول أحمد بن تيمية‏:‏ إنني لما علمت مقصود ولي الأمر السلطان ـ أيده الله وسدده فيما رسم به ـ كتبت إذ ذاك كلامًا مختصرًا، لأن الحاضر استعجل بالجواب‏.‏ وهذا فيه شرح الحال أيضًا مختصرًا، وإن رسم ولي الأمر ـ أيده الله وسدده ـ أحضرت له كتبًا كثيرة من كتب المسلمين ـ قديمًا وحديثًا ـ مما فيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم /والصحابة والتابعين، وكلام أئمة المسلمين الأربعة، وغير الأربعة وأتباع الأربعة، مما يوافق ما كتبته في الفتيا؛ فإن الفتيا مختصرة، لا تحتمل البسط، ولا يقدر أحد أن يذكر خلاف ذلك، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أئمة المسلمين؛ لا الأربعة، ولا غيرهم‏.‏
وإنما خالف ذلك من يتكلم بلا علم، وليس معه بما يقوله نقل، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين، ولا يمكنه أن يحضر كتابًا من الكتب المعتمدة عن أئمة المسلمين بما يقوله، ولا يعرف كيف كان الصحابة والتابعون يفعلون في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره‏.‏ وأنا خطي موجود بما أفتيت به، وعندي مثل هذا كثير كتبته بخطي، ويعرض على جميع من ينسب إلى العلم شرقًا وغربًا، فمن قال‏:‏ إن عنده علمًا يناقض ذلك فليكتب خطه بجواب مبسوط، يعرف فيه من قال هذا القول قبله، وما حجتهم في ذلك، وبعد ذلك فولي الأمر السلطان ـ أيده الله ـ إذا رأي ما كتبته وما كتبه غيري فأنا أعلم أن الحق ظاهر مثل الشمس، يعرفه أقل غلمان السلطان، الذي ما رؤي في هذه الأزمان سلطان مثله، زاده الله علمًا وتسديدًا وتأييدًا‏.‏ فالحق يعرفه كل أحد، فإن الحق الذي بعث الله به الرسل لا يشتبه بغيره على / العارف كما لا يشتبه الذهب الخالص بالمغشوش على الناقد‏.‏ والله تعالى أوضح الحجة، وأبان المحجة بمحمد خاتم المرسلين، وأفضل النبيين ، وخير خلق الله أجمعين‏.‏ فالعلماء ورثة الأنبياء،عليهم بيان ما جاء به الرسول ورد ما يخالفه‏.‏
فيجب أن يعرف ـ أولا ـ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الأحاديث المكذوبة كثيرة، وبعض المنتسبين إلى العلـم قـد صنف في هـذه المسألـة وما يشبهها مصنفًا ذكـر فيه من الكـذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابـة ألوانًا يغتر بهـا الجاهلـون‏.‏ وهو لم يتعمد الكـذب، بل هو محب للرسول صلى الله عليه وسلم معظم له، لكن لا خبرة له بالتمييز بين الصدق والكذب، فإذا وجد بعض المصنفين في فضائل البقاع وغيرها قد نسب حديثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابة اعتقده صحيحًا وبني عليه، ويكون ذلك الحديث ضعيفًا، بل كذبًا عند أهل المعرفة بسنته صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم إذا ميز العالم بين ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما لم يقله، فإنه يحتاج أن يفهم مراده، ويفقه ما قاله، ويجمع بين الأحاديث، ويضم كل شكل إلى شكله، فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله، ويفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله‏.‏ فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون، ويجب تلقيه وقبوله، وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم / ـ رضي الله عنهم أجمعين‏.‏
وولي الأمر سلطان المسلمين ـ أيده الله وسدده ـ هو أحق الناس بنصر دين الإسلام، وما جاء به الرسول ـ عليه السلام ـ وزجر من يخالف ذلك ويتكلم في الدين بلا علم، ويأمر بما نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يسعي في إطفاء دينه إما جهلاً وإما هوي‏.‏ وقد نزه الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذين الوصفين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1 ـ 4‏]‏، وقال تعالى عن الذين يخالفونه‏:‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَي‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏، ويخالفون شريعته وما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين الذين يعرفون سنته ومقاصده، ويتحرون متابعته صلى الله عليه وسلم، وبحسب جهدهم ـ رضي الله عنهم أجمعين‏.‏
فولي الأمر السلطان ـ أعزه الله ـ إذا تبين له الأمر فهو صاحب السيف الذي هو أولي الناس بوجوب الجهاد في سبيل الله باليد، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، ويبين تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتظهر حقيقة التوحيد، ورسالة الرسول الذي جعله الله أفضل الرسل وخاتمهم، ويظهر الهدي ودين الحق الذي بعث به، والنور الذي أوحي إليه، ويصان ذلك /عما يخلطه به أهل الجهل والكذب الذين يكذبون على الله ورسوله، ويجهلون دينه، ويحدثون في دينه من البدع ما يضاهي بدع المشركين، وينتقصون شريعته وسنته وما بعث به من التوحيد، ففي تنقيص دينه وسنته وشريعته من التنقص له والطعن عليه ما يستحق فاعله عقوبة مثله‏.‏
فولاة أمور المسلمين أحق بنصر الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإعلاء دين الله، وإظهار شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل الشرائع التي بعث الله بها خاتم المرسلين وأفضل النبيين، وما تضمنته من توحيد الله وعبادته لا شريك له، وأن يعبد بما أمر وشرع، لا يعبد بالأهواء والبدع‏.‏ وما من الله به على ولاة الأمر، وما أنعم الله به عليهم في الدنيا، وما يرجونه من نعمة الله في الآخرة، إنما هو باتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصر ما جاء به من الحق‏.‏
وقد طلب ولي الأمر ـ أيده الله وسدده ـ المقصود بما كتبته‏.‏ والمقصود طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا‏.‏ ولا تكون العبادة إلا بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما أوجبه الله تعالى؛ كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، أو ندب إليه؛ كقيام الليل، / والسفر إلى المسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصي للصلاة فيهما والقراءة والذكر والاعتكاف وغير ذلك، مع ما في ذلك من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلاة، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعل في المساجد، وفي زيارة القبور، وغير ذلك‏.‏ فإن الدين هو طاعته فيما أمر، والاقتداء به فيما سنه لأمته‏.‏ فلا نتجاوز سنته فيما فعله في عبادته؛ مثل الذهاب إلى مسجد قباء، والصلاة فيه، وزيارة شهداء أحد، وقبور أهل البقيع‏.‏
فأما ما لا يحبه الله ورسوله ولا هو مستحب، فهذا ليس من العبادات والطاعات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل؛ كعبادات أهل البدع من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم؛ فإن لهم عبادات ما أنزل الله بها كتابا، ولا بعث بها رسولا، مثل عبادات المخلوقين، كعبادات الكواكب، أو الملائكة، أو الأنبياء، أو عبادة التماثيل التي صورت على صورهم، كما تفعله النصاري في كنائسهم، يقولون إنهم يستشفعون بهم‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏خير الكلام كلام الله، وخير الهَدي هَدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏ أي ما كان بدعة في الشرع، وقد يكون مشروعا لكنه إذا فعل بعده سمي بدعة كقول عمر ـ رضي /الله عنه ـ في قيام رمضان لما جمعهم على قارئ واحد فقال‏:‏ نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل‏.‏ وقيام رمضان قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه‏)‏‏.‏ وكانوا على عهده صلى الله عليه وسلم يصلون أوزاعا متفرقين‏.‏ يصلي الرجل وحده، ويصلي الرجل ومعه جماعة جماعة‏.‏ وقد صلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم جماعة مرة بعد مرة‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن الرجل إذا صلي مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة‏)‏‏.‏ لكن لم يداوم على الجماعة كالصلوات الخمس، خشية أن يفرض عليهم، فلما مات أمنوا زيادة الفرض فجمعهم عمر على أبي بن كعب‏.‏
والنبي صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا، ونعظمه ونوقره ونطيعه باطنا وظاهرًا، ونوالى من يواليه، ونعادي من يعاديه‏.‏ ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولا يكون وليا لله بل ولا مؤمنا ولا سعيدًا ناجيا من العذاب إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرًا‏.‏ ولا وسيلة يتوسل إلى الله عز وجل بها إلا الإيمان به وطاعته‏.‏ وهو أفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين، والمخصوص يوم القيامة بالشفاعة العظمي التي ميزه الله بها على سائر النبيين، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، لواء الحمد، آدم فمن /دونه تحت لوائه‏.‏ وهو أول من يستفتح باب الجنة، فيقول الخازن‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا محمد‏.‏ فيقول بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك‏.‏ وقد فرض على أمته فرائض، وسن لهم سننا مستحبة، فالحج إلى بيت الله فرض، والسفر إلى مسجده والمسجد الأقصي للصلاة فيهما والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف مستحب باتفاق المسلمين‏.‏ وإذا أتي مسجده فإنه يسلم عليه، ويصلي عليه، ويسلم عليه في الصلاة، ويصلي عليه فيها، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏‏.‏ ومن صلي عليه مرة صلي الله عليه عشرًا، ومن سلم عليه، سلم الله عليه عشرًا‏.‏
وطلب الوسيلة له كما ثبت في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلي على مرة صلي الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة‏)‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ وروي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من قال حين يسمع النداء‏:‏ اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، حلت له شفاعتي يوم القيامة‏)‏‏.‏ وهذا مأمور به‏.‏ والسلام عليه عند /قبره المكرم جائز لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام‏)‏‏.‏
وحيث صلي الرجل وسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها، فإن الله يوصل صلاته وسلامه إليه، لما في السنن عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت‏؟‏ـ أي صرت رميما ـ قال‏:‏ ‏(‏إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏)‏‏.‏
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم؛ فإن صلتكم تبلغني‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ فالصلاة تصل إليه من البعيد كما تصل إليه من القريب‏.‏ وفي النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام‏)‏‏.‏ وقد أمرنا الله أن نصلي عليه، وشرع ذلك لنا في كل صلاة أن نثني على الله بالتحيات ثم نقول‏:‏ ‏(‏السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته‏)‏‏.‏ وهذا السلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها‏.‏ وكذلك إذا صلينا عليه فقلنا‏:‏ ‏(‏اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏.‏ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏)‏ ‏.‏
وكان المسلمون على عهده وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلى يصلون /في مسجده، ويسلمون عليه في الصلاة، وكذلك يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد، وإذا خرجوا منه، ولا يحتاجون أن يذهبوا إلى القبر المكرم، ولا أن يتوجهوا نحو القبر ويرفعوا أصواتهم بالسلام كما يفعله بعض الحجاج ـ بل هذا بدعة لم يستحبها أحد من العلماء، بل كرهوا رفع الصوت في مسجده، وقد رأي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رجلين يرفعان أصواتهما في مسجده ورآهما غريبين، فقال‏:‏ أما علمتما أن الأصوات لا ترفع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ لو أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا‏.‏ وعذرهما بالجهل فلم يعاقبهما‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما مات دفن في حجرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه، لم يكن شيء من ذلك داخلا في المسجد، واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة‏.‏ ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسع المسجد، وأدخلت فيه الحجرة للضرورة؛ فإن الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهن كن قد توفين كلهن ـ رضي الله عنهن ـ فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد، فهدمها وأدخلها في المسجد، وبقيت حجرة عائشة على حالها، وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي /صلى الله عليه وسلم لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك إلى حين كانت عائشة في الحياة، وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، فإنها توفيت في خلافة معاوية، ثم ولي ابنه يزيد، ثم ابن الزبير في الفتنة، ثم عبد الملك ابن مروان، ثم ابنه الوليد، وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة وقد مات عامة الصحابة، قيل‏:‏ إنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ فإنه آخر من مات بها في سنة ثمان وسبعين قبل إدخال الحجرة بعشر سنين‏.‏
ففي حياة عائشة ـ رضي الله عنها ـ كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث، ولاستفتائها، وزيارتها، من غير أن يكون إذا دخل أحد يذهب إلى القبر المكرم، لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك ـ بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فتريه إياهن، وهي قبور لا لاطئة ولا مشرفة، مبطوحة ببطحاء العرصة‏.‏ وقد اختلف هل كانت مسنمة أو مسطحة، والذي في البخاري أنها مسنمة‏.‏ قال سفيان التمار‏:‏ إنه رأي قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما، لكن كان الداخل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏(‏ما من أحد يسلم على إلا رد الله عليه روحي حتى أرد عليه السلام‏)‏‏.‏ وهذا السلام مشروع لمن كان يدخل الحجرة‏.‏ وهذا السلام هو القريب الذي يرد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه‏.‏ وأما السلام المطلق /الذي يفعل خارج الحجرة وفي كل مكان فهو مثل السلام عليه في الصلاة، وذلك مثل الصلاة عليه، والله هو الذي يصلي على من يصلي عليه مرة عشرًا، ويسلم على من يسلم عليه مرة عشرًا‏.‏ فهذا هو الذي أمر به المسلمون خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف السلام عليه عند قبره، فإن هذا قدر مشترك بينه وبين جميع المؤمنين، فإن كل مؤمن يسلم عليه عند قبره كما يسلم عليه في الحياة عند اللقاء وأما الصلاة والسلام في كل مكان والصلاة على التعيين فهذا إنما أمر به في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أمر الله العباد أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما‏.‏ صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
فحجر نسائه كانت خارجة عن المسجد شرقيه وقبليه؛ ولهذا قال صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة‏)‏‏.‏ هذا لفظ الصحيحين، ولفظ‏:‏ ‏(‏قبري‏)‏ ليس في الصحيح، فإنه حينئذ لم يكن قبر ‏.‏
ومسجده إنما فضل به صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي بناه وأسسه على التقوي‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام‏)‏‏.‏ وجمهور العلماء على أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، هكذا روي أحمد والنسائي وغيرهما / بإسناد جيد‏.‏ والمسجد الحرام هـو فضل بـه وبإبراهيم الخليل، فـإن إبراهيم الخليل بني البيت ودعا الناس إلى حجه بأمره تعالى، ولم يوجبه على الناس ولهذا لم يكن الحج فرضا في أول الإسلام، وإنما فرض في آخر الأمر‏.‏ والصحيح أنه إنما فرض سنة نزلت آل عمران لما وفد أهل نجران سنة تسع أو عشر‏.‏ ومـن قال‏:‏ في سـنة ست فإنما اسـتدل بقـوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ فإن هذه نزلت عام الحديبية باتفاق الناس، لكن هذه الآية فيها الأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، ليس فيها إيجاب ابتداء به، فالبيت الحرام كان له فضيلة بناء إبراهيم الخليل ودعاء الناس إلى حجه، وصارت له فضيلة ثانية، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الذي أنقذه من أيدي الشمركين ومنعه منهم‏.‏ وهو الذي أوجب حجه على كل مستطيع‏.‏ وقد حجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها، فعبد الله فيه بسبب محمد صلى الله عليه وسلم أضعاف ما كان يعبد الله فيه قبل ذلك، وأعظم مما كان يعبد، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم‏.‏
ولما مات دفن في حجرة عائشة، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته‏:‏ ‏(‏لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذر ما فعلوا‏.‏ قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وفي صحيح /مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم ـ أيضا ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها‏)‏‏.‏ فنهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وعن الصلاة إليها، ولعن إليهود والنصاري لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ لأن هذا كان هو أول أسباب الشرك في قوم نوح، قال اللّه تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏ قال ابن عباس وغيره من السلف‏:‏هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم‏.‏ فهو صلى الله عليه وسلم لكمال نصحه لأمته حذرهم أن يقعوا فيما وقع فيه المشركون وأهل الكتاب، فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد، وعن الصلاة إليها لئلا يتشبهوا بالكفار، كما نهاهم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يتشبهوا بالكفار‏.‏
ولهذا لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك ـ كما تقدم ـ بنوا عليها حائطا وسنموه وحرفوه لئلا يصلي أحد إلى قبره الكريم صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي موطأ مالك عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم/ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏ وقد استجاب الله دعوته فلم يتخذ ولله الحمد وثنًا، كما اتخذ قبر غيره، بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة‏.‏ وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدًا من أن يدخل إليه ليدعو عنده، ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره‏.‏ لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهى عنه، وهذا إنما يفعل خارجا عن حجرته لا عند قبره‏.‏ وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنًا، فإنه في حياة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما كان أحد يدخل إلا لأجلها، ولم تكن تمكن أحدًا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر‏.‏ كل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدًا وقبره وثنا، وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم، وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم، وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة‏.‏ فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم، بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد، ولا يتخذ بيته عيدًا‏.‏ ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم‏.‏ والقبر المكرم في الحجرة إنما عليه بطحاء ـ وهو الرمل الغليظ ـ ليس عليه حجارة ولا خشب، ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره‏.‏
/وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك سدًا للذريعة، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لئلا يفضي ذلك إلى الشرك‏.‏ ودعا الله ـ عز وجل ـ ألا يتخذ قبره وثنا يعبد؛ فاستجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن مثل الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحدًا لا يدخل عنده قبره البتة، فإن من كان قبله من الأنبياء إذ ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهى عنها‏.‏ وهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا، فإن ذلك ـ والعياذ بالله ـ لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك، وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبور غيره صلى الله عليه وسلم‏.