لم يسافرأحد من الصحابة إلى ‏[‏قبر الخليل‏]‏ ـ عليه السلام ـ بالشام
 
و‏[‏قبر الخليل‏]‏ ـ عليه السلام ـ بالشام لم يسافر إليه أحد من الصحابة‏.‏ وكانوا يأتون البيت المقدس فيصلون فيه ولا يذهبون إلى قبر الخليل ـ عليه السلام‏.‏ ولم يكن ظاهرًا بل كان في البناء الذي بناه سليمان بن داود ـ عليهما السلام‏.‏ ولا كان ‏[‏قبر يوسف الصديق‏]‏ يعرف، ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة، ولهذا وقع فيه نزاع، فكثير من أهل العلم ينكره، ونقل ذلك عن مالك وغيره؛ لأن الصحابة لم يكونوا يزورونه فيعرف‏.‏ولما استولي /النصاري على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل ـ عليه السلام ـ واتخذوا المكان كنيسة‏.‏ ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحا‏.‏ وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة، ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه، وهو صلى الله عليه وسلم مدفون في حجرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ فلا يدخلون الحجرة، ولا يقفون خارجا عنها في المسجد عند السور‏.‏ وكان يقدم في خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق، وهم الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ ويصلون في مسجده كما ذكرنا، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر، ولا يدخل الحجرة، ولا يقوم خارجها في المسجد، بل السلام عليه من خارج الحجرة‏.‏ وعمدة مالك وغيره فيه على فعل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ‏.‏
وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال في مسائل النزاع‏.‏ فأما أن يجعل هو الدين الحق، وتستحل عقوبة من خالفه، أو يقال بكفره، فهذا خلاف إجماع المسلمين، وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة‏.‏ فإن كان المخالف للرسول /في هذه المسألة يكفر فالذي خالف سنته وإجماع الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر‏.‏ ونحن لا نكفر أحداً من المسلمين بالخطأ، لا في هذه المسائل ولا في غيرها‏.‏ ولكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة والإجماع ـ إجماع الصحابة والعلماء ـ أولي بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها، فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نهى عنه في هذا وغيره، فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة، وما نهى عنه بخلاف ذلك، بل قد يكون شركا، كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، ويصلون إليها، وينذرون لها، ويحجون إليها، بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت اللّه الحرام‏.‏ ويسمون ذلك ‏[‏الحج الأكبر‏]‏، وصنف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات، كما صنف المفيد بن النعمان كتابا في مناسك المشاهد سماه ‏[‏مناسك حج المشاهد‏]‏، وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق‏.‏
وأصل دين الإسلام‏:‏ أن نعبد اللّه وحده ولا نجعل له من خلقه نداً ولا كفواً ولا سَمِيا، قال تعالى‏:‏‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ قلت‏:‏ يارسول اللّه، أي الذنب أعظم ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل للّه نداً وهو خلقك‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تقتل ولدك خَشْية أن يطعم معك‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تزاني بحليلة جارك‏.‏ فأنزل اللّه تصديق رسوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏‏.‏ فمن سوي بين الخالق والمخلوق في الحب له أو الخوف منه والرجاء له فهو مشرك‏.‏
والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله حتى قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف بغير اللّه فقد أشرك‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ وقال له رجل‏:‏ ما شاء اللّه وشئت، فقال‏:‏ ‏(‏أجعلتني للّه نداً‏؟‏ بل ما شاء اللّه وحده‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تقولوا ما شاء اللّه وشاء محمد، ولكن قولوا‏:‏ ما شاء اللّه ثم شاء محمد‏)‏، وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له، فقال‏:‏ ‏(‏ماهذا يامعاذ‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يامعاذ، إنه لا يصلح السجود إلا للّه، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها‏)‏‏.‏ فلهذا فرق /النبي صلى الله عليه وسلم بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك، فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم، وهي مثل الصلاة على جنائزهم؛ وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق، ينذرون له ويسجدون له، ويدعونه، ويحبونه مثل ما يحبون الخالق، فيكونون قد جعلوه للّه نداً وسووه برب العالمين‏.‏