فتبين أن الأمن من عذاب الله وحصول السعادة إنما هو بطاعته
 
فتبين أن الأمن من عذاب الله وحصول السعادة إنما هو بطاعته تعالى لقوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 147‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قٍلً مّا يّعًبّأٍ بٌكٍمً رّبٌَي لّوًلا دٍعّاؤٍكٍمً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 77‏]‏، أي‏:‏لو لم تدعوه كما أمر فتطيعوه فتعبدوه وتطيعوا رسله، فإنه لا يعبأ بكم شيئا‏.‏
وهذه الوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إليه الْوَسِيلَةَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏، قال عامة المفسرين؛ كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء‏:‏ الوسيلة‏:‏ القربة‏.‏ قال قتادة‏:‏ تقربوا إلى الله بما يرضيه‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ توسلت إليه‏:‏ أي تقربت‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ تحببوا إلى الله‏.‏ والتحبب والتقرب إليه إنما هو بطاعة رسوله‏.‏ فالإيمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق إلى الله، ليس لهم وسيلة يتوسلون بها البتة إلا الإيمان برسوله وطاعته‏.‏ وليس لأحد من الخلق وسيلة إلى الله تبارك وتعالى إلا بوسيلة الإيمان بهذا الرسول الكريم وطاعته‏.‏ وهذه يؤمر بها الإنسان حيث كان من الأمكنة، وفي كل وقت‏.‏ وما خص من العبادات بمكان كالحج، أو زمان كالصوم والجمعة، فكل في مكانه وزمانه‏.‏ وليس لنفس الحجرة من داخل ـ فضلا عن جدارها من خارج ـ اختصاص بشيء في شرع / العبادات ولا فعل شيء منها‏.‏ فالقرب من الله أفضل منه بالبعد منه باتفاق المسلمين‏.‏ والمسجد خص بالفضيلة في حياته صلى الله عليه وسلم قبل وجود القبر، فلم تكن فضيلة مسجده لذلك، ولا استحب هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا علماء أمته أن يجاور أحد عند قبر، ولا يعكف عليه، لا قبره المكرم ولا قبر غيره ولا أن يقصد السكني قريبا من قبر، أي قبر كان‏.‏
وسكني المدينة النبوية هو أفضل في حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر ‏.‏ كما كان الأمر لما كان الناس مأمورين بالهجرة إليها‏.‏ فكانت الهجرة إليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع، مكة وغيرها‏.‏ بل كان ذلك واجبا من أعظم الواجبات‏.‏ فلما فتحت مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية‏)‏، وكان من أتي من أهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة، يأمره أن يرجع إلى مدينته، ولا يأمره بسكناها‏.‏ كما كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يأمر الناس عقب الحج أن يذهبوا إلى بلادهم لئلا يضيقوا على أهل مكة‏.‏ وكان يأمر كثيرا من أصحابه وقت الهجرة أن يخرجوا إلى أماكن أخر لولاية مكان وغيره، وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة أفضل من المقام عنده بالمدينة حين كانت دار الهجرة، فكيف بها بعد ذلك‏؟‏ / إذ كان الذي ينفع الناس طاعة الله ورسوله‏.‏ وأما ما سوي ذلك فإنه لا ينفعهم لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك، كما ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏.‏ يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏)‏‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما ولي الله وصالح المؤمنين‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن أوليائي المتقون، حيث كانوا ومن كانوا‏)‏‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 38‏]‏، فهو تبارك وتعالى يدافع عن المؤمنين حيث كانوا‏.‏ فالله هو الدافع، والسبب هو الإيمان‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا‏)‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏
وأما ما يظنه بعض الناس من أن البلاء يندفع عن أهل بلد أو إقليم بمن هو مدفون عنـدهم مـن الأنبياء والصالحـين،كما يظن بعض الناس أنه يندفع عن أهل بغداد البلاء لقبور ثلاثة‏:‏أحمد بن حنبل،وبشر الحافي، ومنصور بن عمار، ويظن بعضهم أنه يندفع البلاء عن / أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء‏:‏ الخليل وغيره ـ عليهم السلام ـ وبعضهم يظن أنه يندفع البلاء عن أهل مصر بنفيسة أو غيرها‏.‏ أو يندفع عن أهل الحجاز بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البقيع أو غيرهم، فكل هذا غلو مخالف لدين الإسلام، مخالف للكتاب والسنة والإجماع‏.‏ فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم من انتقم منهم‏.‏ والرسل الموتي ما عليهم إلا البلاغ المبين،وقد بلغوا رسالة ربهم‏.‏وكذلك نبيـنا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في حقه‏:‏ ‏{‏إِنْ عليك إِلَّا الْبَلَاغُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 48‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا على الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏‏.‏
وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره‏.‏ فمن خالف أمر الرسول استحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏.‏ يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏.‏ يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لمن ولاه من أصحابه‏:‏ ‏(‏لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول‏:‏ يا رسول الله، أغثني‏.‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك‏)‏‏.‏ وكان أهل المدينة في خلافة / أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان على أفضل أمور الدنيا والآخرة، لتمسكهم بطاعة الرسول‏.‏ ثم تغيروا بعض التغير بقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وخرجت الخلافة النبوية من عندهم، وصاروا رعية لغيرهم‏.‏ ثم تغيروا بعض التغير فجري عليهم عام الحرة من القتل والنهب وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك‏.‏ والذي فعل بهم ذلك وإن كان ظالما معتديا فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما فعل، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّي هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة‏.‏
وكذلك الشام، كانوا في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين، ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم، ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصاري بذنوبهم، واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه وجعلوه كنيسة‏.‏ ثم صلح دينهم فأعزهم الله ونصرهم على عدوهم لما أطاعوا الله ورسوله واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم‏.‏ فطاعة الله ورسوله قطب السعادة وعليها تدور، ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا /نفسه، ولا يضر الله شيئا‏)‏‏.‏
ومكة نفسها لا يدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله‏.‏ كما قال الخليل ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إليهمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وكانوا في الجاهلية يعظمون حرمة الحرم، ويحجون ويطوفون بالبيت، وكانوا خيرا من غيرهم من المشركين‏.‏ والله لا يظلم مثقال ذرة‏.‏ وكانوا يكرمون ما لا يكرم غيرهم، ويؤتون ما لا يؤتاه غيرهم، لكونهم كانوا متمسكين بدين إبراهيم بأعظم مما تمسك به غيرهم‏.‏ وهم في الإسلام إن كانوا أفضل من غيرهم كان جزاؤهم بحسب فضلهم، وإن كانوا أسوأ عملا من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيئاتهم‏.‏ فالمساجد والمشاعر إنما ينفع فضلها لمن عمل فيها بطاعة الله عز وجل‏.‏ وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب، وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهى عنها‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخي بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان الفارسي بالعراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان‏:‏ هلم إلى الأرض المقدسة‏.‏ فكتب إليه سلمان‏:‏ إن الأرض لا تُقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله‏.‏