والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكني الحرمين
 
والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكني الحرمىن باتفاق العلماء‏.‏ /ولهذا كان سكني الصحابة بالمدينة أفضل للهجرة والجهاد‏.‏
والله تعالى هو الذي خلق الخلق، وهو الذي يهديهم ويرزقهم وينصرهم، وكل من سواه لا يملك شيئا مـن ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22، 23‏]‏، وقد فسروها بأنه يؤذن للشافع والمشفوع له جميعا، فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم إذا أراد الشفاعة قال‏:‏ ‏(‏فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمده بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال لي‏:‏ ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة‏)‏‏.‏ وكذلك ذكر في المرة الثانية والثالثة‏.‏
ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ استثناء منقطع، أي‏:‏ من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة منهم الشافع ومنهم المشفوع له‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله أبو هريرة فقال‏:‏ من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا هريرة، لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، / لما رأيت من حرصك على الحديث‏.‏ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال‏:‏ لا إله إلا الله، خالصا من قلبه‏)‏‏.‏ رواه البخاري فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا‏.‏ وقال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة‏)‏‏.‏ فالجزاء من جنس العمل، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا‏.‏ ومن سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة‏.‏ ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي بل قال‏:‏ ‏(‏أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال‏:‏ لا إله إلا الله خالصا من قلبه‏)‏‏.‏
فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول، وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال، وإن كان صالحا كسؤاله الوسيلة للرسول فكيف بما لم يأمر به من الأعمال، بل نهى عنه‏؟‏ فذاك لا ينال به خيرا لا في الدنيا ولا في الآخرة، مثل غلو النصاري في المسيح عليه السلام، فإنه يضرهم ولا ينفعهم‏.‏ ونظير هذا ما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتى يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك /بالله شيئا‏)‏‏.‏ وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها، إنما يشفع في أهل التوحيد، فبحسب توحيد العبد لله وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الشفاعة وغيرها‏.‏
وهو ـ سبحانه ـ علق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان به وتوحيده وطاعته، فمن كان أكمل في ذلك كان أحق بتولي الله له بخير الدنيا والآخرة‏.‏ ثم جميع عباده مسلمهم وكافرهم هو الذي يرزقهم، وهو الذي يدفع عنهم المكاره، وهو الذي يقصدونه في النوائب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإليه تَجْأَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 42‏]‏، أي بدلا عن الرحمن‏.‏ هذا أصح القولين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 60‏]‏، أي‏:‏ لجعلنا بدلا منكم كما قاله عامة المفسرين، ومنه قول الشاعر‏:‏
فليت لنا من ماء زمزم شـربة**مبردة باتت على طهيـان
أي بدلا من ماء زمزم‏.‏ فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم المكاره إلا الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏20، 21‏]‏‏.‏
/ومن ظن أن أرضا معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقا لخصوصها، أو لكونها فيها قبور الأنبياء والصالحين، فهو غالط‏.‏ فأفضل البقاع مكة، وقد عذب الله أهلها عذابا عظيما، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ َأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏112، 113‏]‏‏.