فصــل: ليس رأسه في القاهرة ولا مشهد عسقلان
 
فصــل
ثم نقول ‏:‏ بل نحن نعلم ونجزم بأنه ليس فيه رأس الحسين، ولا كان ذلك المشهد العسقلاني مشهدًا للحسين، من وجوه متعددة‏:‏
منها ‏:‏ أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه وإظهاره إلى ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة‏.‏ ودولة بني أمية انقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة وبضع وخمسين سنة‏.‏ وقد جاءت خلافة بني العباس‏.‏ وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذبا‏.‏ وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هناك مشهدًا‏.‏ وكان ينتابه أمراء عظماء، حتى أنكر ذلك عليهم الأئمة‏.‏ وحتى إن المتوكل لما تقدموا له بأشياء يقال‏:‏ إنه بالغ في إنكار ذلك وزاد علي الواجب‏.‏
دع خلافة بني العباس في أوائلها، وفي حال استقامتها، فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون المشاهد، سواء منها ما كان صدقا أو كذبًا، كما /حدث فيما بعد؛ لأن الإسلام كان حينئذ ما يزال في قوته وعنفوانه‏.‏ ولم يكن علي عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا علي قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلا، بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك‏.‏ وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون علي المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب‏.‏ ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر‏.‏
ويقال‏:‏ إنه حدث قريبًا من ذلك المكوس في الإسلام ‏.‏
وقريبًا من ذلك ظهر بنو بويه‏.‏ وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية‏.‏ وفي دولتهم قوي بنو عبيد القداح بأرض مصر، وقي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي ـ رضي الله عنه ـ بناحية النجف ، وإلا فقبل ذلك لـم يكن أحـد يقول ‏:‏ إن قبر علي هناك ، وإنما دفن علي ـ رضي الله عنه ـ بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكي عن الرشيد‏:‏ أنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا‏:‏ إنه علي، وأنه اعتذر إليه مما فعل بولده فقالوا‏:‏ هذا قبر علي، وقد قال قوم‏:‏/ إنه قبر المغيرة بن شعبة، والكلام عليه مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
فإذا كان بنو بويه وبنو عبيد ـ مع ما كان في الطائفتين من الغلو في التشيع، حتى إنهم كانوا يظهرون في دولتهم ببغداد يوم عاشوراء من شعار الرافضة ما لم يظهر مثله،مثل تعليق المسوح علي الأبواب، وإخراج النوائح بالأسواق، وكان الأمر يفضي في كثير من الأوقات إلى قتال تعجز الملوك عن دفعه‏.‏ وبسبب ذلك خرج الخرقي ـ صاحب المختصر في الفقه ـ من بغداد، لما ظهر بها سب السلف‏.‏ وبلغ من أمر القرامطة الذين كانوا بالمشرق في تلك الأوقات أنهم أخذوا الحجر الأسود، وبقي معهم مدة، وأنهم قتلوا الحجاج وألقوهم ببئر زمزم‏.‏
فإذا كان مع كل هذا لم يظهر حتى مشهد للحسين بعسقلان، مع العلم بأنه لو كان رأسه بعسقلان لكان المتقدمون من هؤلاء أعلم بذلك من المتأخرين، فإذا كان مع توفر الهمم والدواعي والتمكن والقدرة لم يظهر ذلك، علم أنه باطل مكذوب، مثل من يدعي أنه شريف علوي‏.‏ وقد علم أنه لم يدع هذا أحد من أجداده، مع حرصهم علي ذلك لو كان صحيحًا، فإنه بهذا يعلم كذب هذا المدعي، وبمثل ذلك علمنا كذب من يدعي النص علي خلافة علي، أو غير ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي علي نقله ولم ينقل‏.‏
/الوجه الثاني ‏:‏ أن الذين جمعوا أخبار الحسين ومقتله ـ مثل أبي بكر بن أبي الدنيا، وأبي القاسم البغوي وغيرهما ـ لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان ولا إلى القاهرة‏.‏
وقد ذكر نحو ذلك أبو الخطاب بن دَحْية في كتابه الملقب بـ ‏(‏العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور‏)‏، ذكر أن الذين صنفوا في مقتل الحسين أجمعوا أن الرأس لم يغترب، وذكر هذا بعد أن ذكر أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق، وأنه لا أصل له، وبسط القول في ذلك، كما ذكر في يوم عاشوراء ما يتعلق بذلك‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين‏:‏ أن الرأس حمل إلى المدينة، ودفن عند أخيه الحسن‏.‏
ومن المعلوم‏:‏ أن الزبير بن بكار، صاحب كتاب ‏[‏الأنساب‏]‏ ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات، ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والاطلاع، أعلم بهذا الباب، وأصدق فيما ينقلونه من الجاهلين والكذابين، ومن بعض أهل التواريخ الذين لا يوثق بعلمهم ولا صدقهم، بل قد يكون الرجل صادقًا، ولكن لا خبرة له بالأسانيد حتى يميز بين المقبول والمردود، أو يكون سيئ الحفظ أو متهمًا بالكذب أو بالتزيد في الرواية، كحال كثير من الإخباريين والمؤرخين، / لا سيما إذا كان مثل أبي مِخْنَف لوط بن يحيي وأمثاله‏.‏
ومعلوم أن الواقدي نفسه خير عند الناس من مثل هشام بن الكلبي، وأبيه محمد بن السائب وأمثالهما، وقد علم كلام الناس في الواقدي، فإن ما يذكره هو وأمثاله إنما يعتضد به، ويستأنس به، وأما الاعتماد عليه بمجرده في العلم فهذا لا يصلح‏.‏
فإذا كان المعتمد عليهم يذكرون أن رأس الحسين دفن بالمدينة، وقد ذكر غيرهم أنه إما أن يكون قد عاد إلى البدن، فدفن معه بكربلاء، وإما أنه دفن بحلب، أو بدمشق أو نحو ذلك من الأقوال التي لا أصل لها، ولم يذكر أحد ممن يعتمد عليه أنه بعسقلان ـ علم أن ذلك باطل، إذ يمتنع أن يكون أهل العلم والصدق علي الباطل، وأهل الجهل والكذب علي الحق في الأمور النقلية، التي إنما تؤخذ عن أهل العلم والصدق،لا عن أهل الجهل والكذب‏.‏
الوجه الرابع ‏:‏ أن الذي ثبت في صحيح البخاري‏:‏ أن الرأس حمل إلى قدام عبيد الله ابن زياد، وجعل ينكت بالقضيب علي ثناياه بحضرة أنس بن مالك‏.‏ وفي المسند‏:‏ أن ذلك كان بحضرة أبي برزة الأسلمي‏.‏ ولكن بعض الناس روي بإسناد منقطع‏:‏ أن هذا النكت كان بحضرة يزيد بن معاوية‏.‏ وهذا باطل‏.‏ فإن أبا برزة، وأنس / بن مالك كانا بالعراق، لم يكونا بالشام، ويزيد بن معاوية كان بالشام، لم يكن بالعراق حين مقتل الحسين، فمن نقل أنه نكت بالقضيب ثناياه بحضرة أنس وأبي برزة قدام يزيد فهو كاذب قطعًا،كذبًا معلومًا بالنقل المتواتر‏.‏
ومعلوم بالنقل المتواتر‏:‏ أن عبيد الله بن زياد كان هو أمير العراق حين مقتل الحسين، وقد ثبت بالنقل الصحيح‏:‏ أنه هو الذي أرسل عمر بن سعد بن أبي وقاص مقدمًا علي الطائفة التي قاتلت الحسين، وكان عمر قد امتنع من ذلك، فأرغبه ابن زياد وأرهبه حتى فعل ما فعل‏.‏
وقد ذكر المصنفون من أهل العلم بالأسانيد المقبولة‏:‏ أنه لما كتب أهل العراق إلى الحسين، وهو بالحجاز‏:‏ أن يقدم عليهم، وقالوا‏:‏ إنه قد أميتت السنة، وأحييت البدعة‏.‏ وأنه، وأنه، حتى يقال‏:‏ إنهم أرسلوا إليه كتبًا ملء صندوق وأكثر، وأنه أشار عليه الأحباء الألباء فلم يقبل مشورتهم فإنه كما قيل‏:‏
وما كــل ذي لب بمؤتيك نصحــه ** ومـا كـل مـؤت نصحـــه بلبيـب
فقد أشار عليه مثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهما بألا يذهب إليهم، وذلك كان قد رآه أخوه الحسن ـ واتفقت كلمتهم علي أن هذا لا مصلحة فيه، وأن هؤلاء العراقيين يكذبون /عليه ويخذلونه؛ إذ هم أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم فيها عن ثبات، وأن أباه كان أفضل منه وأطوع في الناس، وكان جمهور الناس معه‏.‏ ومع هذا فكان فيهم من الخلاف عليه والخذلان له ما الله به عليم‏.‏ حتى صار يطلب السلم، بعد أن كان يدعو إلى الحرب‏.‏ وما مات إلا وقد كرههم كراهة الله بها عليم، ودعا عليهم وبرم بهم‏.‏
فلما ذهب الحسين ـ رضي الله عنه ـ وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إليهم، واتبعه طائفة‏.‏ ثم لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة، قاموا مع ابن زياد، وقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وغيرهما‏.‏ فبلغ الحسين ذلك، فأراد الرجوع، فوافته سرية عمر بن سعد، وطلبوا منه أن يستأسر لهم فأبي، وطلب أن يردوه إلى يزيد ابن عمه، حتى يضع يده في يده، أو يرجع من حيث جاء، أو يلحق ببعض الثغور، فامتنعوا من إجابته إلى ذلك بغيا وظلمًا وعدوانا‏.‏ وكان من أشدهم تحريضًا عليه شمر بن ذي الجَوْشَن‏.‏ ولحق بالحسين طائفة منهم‏.‏ ووقع القتل حتى أكرم الله الحسين ومن أكرمه من أهل بيته بالشهادة ـ رضي الله عنهم وأرضاهم‏.‏ وأهان بالبغي والظلم والعدوان من أهانه بما انتهكه من حرمتهم، واستحله من دمائهم، ‏{‏وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وكان ذلك من نعمة الله علي الحسين، وكرامته له لينال منازل الشهداء، حيث لم يجعل له في أول الإسلام من الابتلاء /والامتحان ما جعل لسائر أهل بيته، كجده صلى الله عليه وسلم وأبيه وعمه، وعم أبيه ـ رضي الله عنهم‏.‏ فإن بني هاشم أفضل قريش، وقريشًا أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم‏.‏ كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله اصطفي من ولد إبراهيم بني إسماعيل، واصطفي كنانة من بني إسماعيل، واصطفي قريشًا من كنانة، واصطفي بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم‏)‏‏.‏
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يوم غدِير خُمٍّ‏:‏ ‏(‏أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي‏)‏‏.‏
وفي السنن أنه شكا إليه العباس‏:‏ أن بعض قريش يحقرونهم، فقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي‏)‏‏.‏
وإذا كانوا أفضل الخلق، فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال‏.‏
وكان أفضلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا عدل له من البشر، ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش والعرب، بل ومن بني إسرائيل وغيرهم‏.‏
ثم علي وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث هم من السابقين الأولين من المهاجرين‏.‏ فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل‏.‏ ولهذا / لما كان يوم بدر أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمبارزة لما برز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة‏.‏ فقال النبي ‏:‏ ‏(‏قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قم يا علي‏)‏‏.‏ فبرز إلى الثلاثة ثلاثة من بني هاشم‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أن فيهم نزل قوله‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وإن كان في الآية عموم‏.‏
ولما كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد ولدا بعد الهجرة في عز الإسلام، ولم ينلهما من الأذي والبلاء ما نال سلفهما الطيب، فأكرمهما الله بما أكرمهما به من الابتلاء ليرفع درجاتهما وذلك من كرامتهما عليه لا من هوانهما عنده، كما أكرم حمزة وعليا وجعفرًا وعمر وعثمان وغيرهم بالشهادة وفي المسند وغيره‏:‏ عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته، وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها‏)‏‏.‏
فهذا الحديث رواه الحسين، وعنه بنته فاطمة التي شهدت مصرعه‏.‏
وقد علم الله أن مصيبته تذكر علي طول الزمان‏.‏
فالمشروع، إذا ذكرت المصيبة وأمثالها أن يقال‏:‏‏{‏إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إليه رَاجِعونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏ ‏(‏اللهم آجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيرًا منها‏)‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إليه رَاجِعونَ ‏}‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏155‏:‏ 157‏]‏‏.‏
والكلام في أحوال الملوك علي سبيل التفصيل متعسر أو متعذر، لكن ينبغي أن نعلم من حيث الجملة‏:‏ أنهم هم وغيرهم من الناس ممن له حسنات وسيئات يدخلون بها في نصوص الوعد أو نصوص الوعيد‏.‏
وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله، موافقا للسنة‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له‏:‏ الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِية، ويقاتل ليقال، فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏)‏‏.‏
وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بألا يكون متأولا ولا مجتهدًا مخطئًا‏.‏ فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان‏.‏
وكثير من تأويلات المتقدمين وما يعرض لهم فيها من الشبهات معروفة يحصل بها من الهوي والشهوات‏.‏ فيأتون ما يأتونه بشبهة وشهوة‏.‏ والسيئات التي يرتكبها أهل الذنوب تزول بالتوبة‏.‏ وقد تزول بحسنات ماحية، ومصائب مكفرة، وقد تزول بصلاة المسلمين عليه، وبشفاعة / النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في أهل الكبائر، فلهذا كان أهل العلم يختارون فيمن عرف بالظلم ونحوه مع أنه مسلم له أعمال صالحة في الظاهر ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ أنهم لا يلعنون أحدًا منهم بعينه، بل يقولون كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَي الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏ فيلعنون من لعنه الله ورسوله عامًا، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها، وبائعها ومشتريها، وساقيها وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها‏)‏، ولا يلعنون المعين‏.‏ كما ثبت في صحيح البخاري وغيره‏:‏ أن رجلا كان يدعي حمارا، وكان يشرب الخمر‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلده‏.‏ فأتي به مرة‏.‏ فلعنه رجل‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله‏)‏‏.‏
وذلك لأن اللعنة من باب الوعيد، والوعيد العام لا يقطع به للشخص المعين لأحد الأسباب المذكورة؛ من توبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، وغير ذلك‏.‏
وطائفة من العلماء يلعنون المعين، كيزيد‏.‏ وطائفة بإزاء هؤلاء يقولون‏:‏ بل نحبه، لما فيه من الإيمان الذي أمرنا الله أن نوإلى عليه؛ إذ ليس كافرًا‏.‏
والمختار عند الأمة‏:‏ أنا لا نلعن معينا مطلقًا، ولا نحب معينًا مطلقًا،/ فإن العبد قد يكون فيه سبب هذا وسبب هذا إذا اجتمع فيه من حب الأمرين‏.‏
إذ كان من أصول أهل السنة التي فارقوا بها الخوارج‏:‏ أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات، فيثاب علي حسناته، ويعاقب علي سيئاته‏.‏ ويحمد علي حسناته ويذم علي سيئاته‏.‏ وأنه من وجه مرضي محبوب، ومن وجه بغيض مسخوط؛ لهذا كان لأهل الأحداث هذا الحكم‏.‏
وأما أهل التأويل المحض الذين يسوغ تأويلهم، فأولئك مجتهدون مخطئون، خطؤهم مغفور لهم‏.‏ وهم مثابون علي ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم واجتهادهم في طلب الحق واتباعه‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏
ولهذا كان الكلام في السابقين الأولين ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير ونحوهم، له هذا الحكم، بل ومن هو دون هؤلاء، كأبر أهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ /‏(‏ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة‏)‏‏.‏
فنقول في هؤلاء ونحوهم فيما شجر بينهم‏:‏ إما أن يكون عمل أحدهم سعيا مشكورًا، أو ذنبا مغفورًا، أو اجتهادًا قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه، فلهذا كان من أصول أهل العلم‏:‏ أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم وديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، وأن هؤلاء ـ رضي الله عنهم ـ لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفتري، مثلما كان طائفة من شيعة عثمان يتهمون عليا بأنه أمر بقتل عثمان، أو أعان عليه‏.‏ وكان بعض من يقاتله يظن ذلك به‏.‏ وكان ذلك من شبههم التي قاتلوا عليا بها‏.‏ وهي شبهة باطلة‏.‏ وكان علي يحلف ـ وهو الصادق البار ـ‏:‏ أني ما قتلت عثمان، ولا أعنت علي قتله‏.‏ ويقول‏:‏ اللهم شتت قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل‏.‏ وكانوا يجعلون امتناعه من تسليم قتلة عثمان من شبههم في ذلك‏.‏ ولم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يريده من إقامة الحدود، ونحو ذلك، لكون الناس مختلفين عليه، وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به‏.‏ فإن التفرق والاختلاف يقوم فيه من أسباب الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من أهل العلم العارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة والإسلام‏.‏
/ويزيد بن معاوية‏:‏ قد أتي أمورا منكرة‏.‏ منها‏:‏ وقعة الحرة‏.‏ وقد جاء في الصحيح عن علي ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المدينة حرام ما بين عير إلى كذا‏.‏ من أحدث فيها حدثا أو آوي محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏من أراد أهل المدينة بسوء أماعه الله، كما ينماع الملح في الماء‏)‏‏.‏
ولهذا قيل للإمام أحمد ‏:‏ أتكتب الحديث عن يزيد‏؟‏ فقال‏:‏ لا، ولا كرامة أو ليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل‏؟‏‏!‏
وقيل له ـ أي في ما يقولون ـ‏:‏ أما تحب يزيد‏؟‏ فقال‏:‏ وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر‏؟‏ فقيل‏:‏ فلماذا لا تلعنه‏؟‏ فقال‏:‏ ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا‏.‏
ومذهب أهل السنة والجماعة‏:‏ أنهم لا يكفرن أهل القبلة بمجرد الذنوب، ولا بمجرد التأويل، بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله‏.‏
وهذا الذي ذكرناه هو المتفق عليه بين الناس في مقتل الحسين ـ رضي الله عنه‏.‏
/وقد رويت زيادات، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها كذب موضوع‏.‏
والمصنفون من أهل الحديث في ذلك؛ كالبغوي، وابن أبي الدنيا، ونحوهما؛ كالمصنفين من أهل الحديث في سائر المنقولات، هم بذلك أعلم وأصدق بلا نزاع بين أهل العلم لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات، أو يرسلونه عمن يكون مرسله يقارب الصحة، بخلاف الأخباريين‏.‏ فإن كثيرًا مما يسندونه عن كذاب أو مجهول‏.‏ وأما ما يرسلونه فظلمات بعضها فوق بعض‏.‏ وهؤلاء لعمري ممن ينقل عن غيره مسندًا أو مرسلا‏.‏
وأما أهل الأهواء ونحوهم، فيعتمدون علي نقل لا يعرف له قائل أصلا، لا ثقة ولا معتمد‏.‏ وأهون شيء عندهم الكذب المختلق‏.‏ وأعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة، بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين، وروايات عن أهل الإفك المبين‏.‏
فقد تبين أن القصة التي يذكرون فيها حمل رأس الحسين إلى يزيد ونكته إياها بالقضيب كذبوا فيها، وإن كان الحمل إلى ابن زياد ـ وهو الثابت بالقصة ـ فلم ينقل بإسناد معروف أن الرأس حمل إلى قدام يزيد‏.‏
ولم أر في ذلك إلا إسنادًا منقطعًا، قد عارضه من الروايات ما هو / أثبت منه وأظهر‏.‏ نقلوا فيها أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أظهر التألم من ذلك، وقال‏:‏ لعن الله أهل العراق‏.‏ لقد كنت أرضي من طاعتهم بدون هذا‏.‏ وقال في ابن زياد‏:‏أما إنه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله‏.‏ وأنه ظهر في داره النوح لمقتل الحسين، وأنه لما قدم عليه أهله وتلاقي النساء تباكين،سوأنه خير ابنه عليا بين المقام عنده والسفر إلى المدينة، فاختار السفر إلى المدينة‏.‏ فجهزه إلى المدينة جهازًا حسنا‏.‏
فهذا ونحوه ما نقلوا بالأسانيد التي هي أصح وأثبت من ذلك الإسناد المنقطع المجهول، تبين أن يزيد لم يظهر الرضي بقتل الحسين، وأنه أظهر الألم لقتله، والله أعلم بسريرته‏.‏
وقد علم أنه لم يأمر بقتله ابتداء، لكنه مع ذلك ما انتقم من قاتليه، ولا عاقبهم علي ما فعلوا؛ إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه الذي كان يخاف عليه من الحسين وأهل البيت ـ رضي الله عنهم أجمعين‏.‏
والمقصود هنا أن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد‏.‏ فكيف بنقله بعد زمن يزيد‏؟‏ وإنما الثابت هو نقله من كربلاء إلى أمير العراق عبيد الله بن زياد بالكوفة‏.‏ والذي ذكر العلماء‏:‏ أنه دفن بالمدينة‏.‏
/وأما ما يرويه من لا عقل له يميز به ما يقول، ولا له إلمام بمعرفة المنقول‏:‏ من أن أهل البيت سبوا، وأنهم حملوا علي البخاتي،وأن البخاتي نبت لها من ذلك الوقت سنامان، فهذا من الكذب الواضح الفاضح لمن يقوله‏.‏ فإن البخاتي قد كانت من يوم خلقها الله قبل ذلك ذات سنامين، كما كان غيرها من أجناس الحيوان، والبخاتي لا تستر امرأة، ولا سبي أهل البيت أحد، ولا سبي منهم أحد، بل هذا كما يقولون‏:‏ إن الحجاج قتلهم‏.‏
وقد علم أهل النقل كلهم أن الحجاج لم يقتل أحدًا من بني هاشم، كما عهد إليه خليفته عبد الملك، وأنه لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر شق ذلك علي بني أمية وغيرهم من قريش، ورأوه ليس بكفء لها‏.‏ ولم يزالوا به حتى فرقوا بينه وبينها، بل بنو مروان علي الإطلاق لم يقتلوا أحدًا من بني هاشم، لا آل علي، ولا آل العباس، إلا زيد بن علي المصلوب بكناسة الكوفة وابنه يحيي‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ أنه لو قدر أنه حمل إلى يزيد، فأي غرض كان لهم في دفنه بعسقلان، وكانت إذ ذاك ثغرًا يقيم به المرابطون‏؟‏ فإن كان قصدهم تعفية خبره فمثل عسقلان تظهره لكثرة من ينتابها للرباط‏.‏ وإن كان قصدهم بركة البقعة فكيف يقصد هذا من يقال‏:‏ إنه عدو له، مستحل لدمه، ساعٍ في قتله‏؟‏
/ثم من المعلوم‏:‏ أن دفنه قريبًا عند أمه وأخيه بالبقيع أفضل له‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ أن دفنه بالبقيع هو الذي تشهد له عادة القوم‏.‏ فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتلوا الرجل ـ لم يكن منهم ـ سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلمه إلى أمه‏.‏
وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينه وبينه من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه‏.‏ فإن ابن الزبير ادعي الخلافة بعد مقتل الحسين، وبايعه أكثر الناس، وحاربه يزيد حتى مات وجيشه محاربون له بعد وقعة الحرة‏.‏
ثم لما تولي عبد الملك غلبه على العراق مع الشام، ثم بعث إليه الحجاج بن يوسف، فحاصره الحصار المعروف، حتى قتل، ثم صلبه، ثم سلمه إلى أمه‏.‏
وقد دفن بدن الحسين بمكان مصرعه بكربلاء، ولم ينبش، ولم يمثل به‏.‏ فلم يكونوا يمتنعون من تسليم رأسه إلى أهله، كما سلموا بدن ابن الزبير إلى أهله، وإذا تسلم أهله رأسه، فلم يكونوا ليدعوا دفنه عندهم بالمدينة المنورة عند عمه وأمه وأخيه، وقريبًا من جده صلى الله عليه وسلم ويدفنونه بالشام، حيث لا أحد إذ ذاك ينصرهم على /خصومهم، بل كثير منهم كان يبغضه ويبغض أباه‏.‏ هذا لا يفعله أحد‏.‏
والقبة التي على العباس بالبقيع، يقال‏:‏ إن فيها مع العباس الحسن وعلي بن الحسين، وأبو جعفر محمد بن على، وجعفر بن محمد‏.‏ ويقال‏:‏ إن فاطمة تحت الحائط، أو قريبًا من ذلك، وأن رأس الحسين هناك أيضًا‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أنه لم يعرف قط أن أحدًا، لا من أهل السنة، ولا من الشيعة، كان ينتاب ناحية عسقلان لأجل رأس الحسين، ولا يزورونه ولا يأتونه‏.‏ كما أن الناس لم يكونوا ينتابون الأماكن التي تضاف إلى الرأس في هذا الوقت، كموضع بحلب‏.‏
فإذا كانت تلك البقاع لم يكن الناس ينتابونها ولا يقصدونها، وإنما كانوا ينتابون كربلاء؛ لأن البدن هناك، كان هذا دليلاً على أن الناس فيما مضي لم يكونوا يعرفون أن الرأس في شيء من هذه البقاع، ولكن الذي عرفوه واعتقدوه هو وجود البدن بكربلاء، حتى كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتى إن في مسائله، مسائل فيما يفعل عند قبره، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير في زيارة المشاهد‏.‏
ولم يذكر أحد من العلماء أنهم كانوا يرون موضع الرأس في شيء من هذه البقاع غير المدينة‏.‏
/فعلم أن ذلك لو كان حقا لكان المتقدمون به أعلم‏.‏ ولو اعتقدوا ذلك لعملوا ما جرت عادتهم بعمله، ولأظهروا ذلك وتكلموا به، كما تكلموا في نظائره‏.‏
فلما لم يظهر عن المتقدمين ـ بقول ولا فعل ـ ما يدل على أن الرأس في هذه البقاع علم أن ذلك باطل، واللّه أعلم‏.‏
الوجه السابع‏:‏ أن يقال‏:‏ مازال أهل العلم في كل وقت وزمان يذكرون في هذا المشهد القاهري المنسوب إلى الحسين‏:‏ أنه كذب ومِينٌ ، كما يذكرون ذلك في أمثاله من المشاهد المكذوبة؛ مثل المشاهد المنسوبة بدمشق إلى أُبي بن كعب، وأويس القرني، أو هود، أو نوح، أو غيرهما، والمشهد المنسوب بحران إلى جابر بن عبد اللّه، وبالجزيرة إلى عبد الرحمن بن عوف وعبد اللّه بن عمر ونحوهما، وبالعراق إلى علي ـ رضي اللّه عنه ـ ونحوه، وكذلك ما يضاف إلى الأنبياء غير قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل ـ عليه السلام‏.‏
فإنه لما كان كثير من المشاهد مكذوبا مختلقاً كان أهل العلم في كل وقت يعلمون أن ذلك كذب مختلق، والكتب والمصنفات المعروفة عن أهل العلم بذلك مملوءة من مثل هذا‏.‏ يعرف ذلك من تتبعه وطلبه‏.‏
/ومازال الناس في مصنفاتهم ومخاطباتهم يعلمون أن هذا المشهد القاهري من المكذوبات المختلقات‏.‏ ويذكرون ذلك في المصنفات، حتى من سكن هذا البلد من العلماء بذلك‏.‏
فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية في كتابه ‏[‏العلم المشهور‏]‏ في هذا المشهد فصلا مع ما ذكره في مقتل الحسين من أخبار ثابتة وغير ثابتة، ومع هذا فقد ذكر أن المشهد كذب بالإجماع، وبين أنه نقل من عسقلان في آخر الدول العبيدية، وأنه وضع لأغراض فاسدة، وأنه بعد ذلك بقليل أزال اللّه تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها‏.‏
ومازال ذلك مشهوراً بين أهل العلم حتى أهل عصرنا، من ساكني الديار المصرية، القاهرة وما حولها‏.‏
فقد حدثني طائفة من الثقات‏:‏ عن الشيخ أبي عبد اللّه محمد بن على الغنوي، المعروف بابن دقيق العيد، وطائفة عن الشيخ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، وطائفة عن الشيخ أبي محمد بن القسطلاني، وطائفة عن الشيخ أبي عبد اللّه محمد القرطبي صاحب التفسير وشرح أسماء اللّه الحسني، وطائفة عن الشيخ عبد العزيز الديريني ـ كل من هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، وحدثني عن بعضهم عدد كثير، كل يحدثني عمن حدثني من هؤلاء ـ‏:‏ أنه كان ينكر أمر هذا المشهد، ويقول‏:‏/ إنه كذب، وإنه ليس فيه الحسين ولا غيره‏.‏ والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال‏:‏ إن فيه نصرانيا، بل القرطبي والقسطلاني ذكرا بطلان أمر هذا المشهد في مصنفاتهما‏.‏ وبينا فيها أنه كذب‏.‏ كما ذكره أبو الخطاب بن دحية‏.‏
وابن دحية هو الذي بني له الكامل دار الحديث الكاملية‏.‏ وعنه أخذ أبو عمرو بن الصلاح ونحوه كثيراً مما أخذوه من ضبط الأسماء واللغات‏.‏ وليس الاعتماد في هذا على واحد بعينه، بل هو الإجماع من هؤلاء‏.‏ ومعلوم أنه لم يكن بهذه البلاد من يعتمد عليه في مثل هذا الباب أعلم ولا أدق من هؤلاء ونحوهم‏.‏
فإذا كان كل هؤلاء متفقين على أن هذا كذب ومين، علم أن اللّه قد برأ منه الحسين‏.‏
وحدثني من حدثني من الثقات‏:‏ أن من هؤلاء من كان يوصي أصحابه بألا يظهروا ذلك عنه خوفا من شر العامة بهذه البلاد، لما فيهم من الظلم والفساد؛ إذ كانوا في الأصل دعاة للقرامطة الباطنيين‏.‏ الذين استولوا عليها مائتي سنة‏.‏ فزرعوا فيهم من أخلاق الزنادقة المنافقين، وأهل الجهل المبتدعين، وأهل الكذب الظالمين، ما لم يمكن أن ينقلع إلا بعد حين‏.‏ فإنه قد فتحها ـ بإزالة ملك العبيديين ـ أهل الإيمان /والسنة في الدولة النورية والصلاحية، وسكنها من أهل الإسلام والسنة من سكنها، وظهرت بها كلمة الإيمان والسنة نوعا من الظهور، لكن كان النفاق والبدعة فيها كثيراً مستوراً، وفي كل وقت يظهر اللّه فيها من الإيمان والسنة ما لم يكن مذكوراً، ويطغي فيها من النفاق والجهل ما كان مشهوراً‏.‏
واللّه هو المسؤول أن يظهر بسائر البلاد ما يحبه ويرضاه، من الهدي والسداد‏.‏ ويعظم على عباده الخير بظهور الإسلام والسنة، ويحقق ما وعد به في القرآن من علو كلمته وظهور أهل الإيمان‏.‏
وكثير من الناس قد اعتقد وتخلق بعقائد وبأخلاق هي في الأصل من أخلاق الكفار والمنافقين، وإن لم يكن بذلك من العارفين، كما أن كثيرا منهم يشارك النصاري في أعيادهم، ويعظم ما يعظمونه من الأمكنة والأزمنة والأعمال، وهو قد لا يقصد بذلك تعظيم الكفر، بل ولا يعـرف أن ذلك من خصائصهم،فإذا عرف ذلك انتهي عنه وتاب منه‏.‏
وكذلك كثير من الناس تخلق بشيء من أخلاق أهل النفاق، وهو لا يعرف أنها من أخلاق المنافقين، وإذا عرف ذلك كان إلى اللّه من التائبين، واللّه يتوب علينا وعليه وعلى جميع المذنبين /من المؤمنين‏.‏
وهذا كله كلام في بطلان دعوي وجود رأس الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ في القاهرة أو عسقلان، وكذبه‏.‏
ثم نقول‏:‏ سواء كان صحيحاً أو كذبا، فإن بناء المساجد على القبور ليس من دين المسلمين، بل هو منهى عنه بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واتفاق أئمة الدين، بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها، بل أئمة الدين متفقون على النهى عن ذلك، وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد، لا نبي ولا غير نبي، وكل من قال‏:‏ إن قصد الصلاة عند قبر أحد، أو عند مسجد بني على قبر، أو مشهد، أو غير ذلك أمر مشروع، بحيث يستحب ذلك، ويكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه، فقد مرق من الدين، وخالف إجماع المسلمين‏.‏ والواجب أن يستتاب قائل هذا ومعتقده، فإن تاب وإلا قتل‏.‏
بل ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور، ولو لم يقصد الصلاة عندها‏.‏ فلا يفعل ذلك لا اتفاقا ولا ابتغاء؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، والذريعة إلى الشرك، ووجوب التنبيه عليه /وعلى غيره، كما قد نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم‏.‏ منهم من صرح بالتحريم، ومنهم من أطلق الكراهة، وليست هذه المسألة عندهم مسألة الصلاة في المقبرة العامة‏.‏ فإن تلك منهم من يعلل النهى عنها بنجاسة التراب، ومنهم من يعلله بالتشبه بالمشركين‏.‏
وأما المساجد المبنية على القبور، فقد نهوا عنه، معللين بخوف الفتنة بتعظيم المخلوق، كما ذكر ذلك الشافعي وغيره من سائر أئمة المسلمين‏.‏
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها وعند وجودها في كبد السماء، وقال‏:‏ ‏(‏إنه حينئذ يسجد لها الكفار‏)‏، فنهى عن ذلك لما فيه من المشابهة لهم، وإن لم يقصد المصلي السجود إلا للواحد المعبود‏.‏
فكيف بالصلاة في المساجد التي بنيت لتعظيم القبور ‏؟‏
وهذه المسألة قد بسطناها في غير هذا الجواب‏.‏
وإنما كان المقصود تحقيق مكان رأس الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ وبيان أن الأمكنة المشهورة عند الناس بمصر والشام، أنها مشهد الحسين، وأن فيها رأسه، فهي كذب واختلاق، وإفك وبهتان، واللّه أعلم، وكتبه أحمد بن تيمية‏.