فصــل: قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة
 
/وَقَــال‏:‏
فصــل
وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة، بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه، فهذا كما تقدم لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله؛ فـإنه ليس فيـه متابعتهم، لا في عمل عملوه، ولا قصد قصدوه، ومعلوم أن الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحل فيها؛ إما في سفره، وإما في مقامه؛ مثل طرقه في حجه وغزواته، ومنازلـه في أسفاره، ومثـل بيـوته التي كان يسكنها والبيوت التي كان يأتي إليها أحيانا من‏.‏‏.‏‏.‏ فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏
فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم، ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم، ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها واتخاذها مساجد‏.‏
ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وأراد أن / تكون المساجد خالصة للّه تعإلى تبني لأجل عبادته فقط لا يشركه في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراما، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل‏.‏
ولهذا كانت النصاري يبنون الكنائس على قبر النبي والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه‏.‏ وهـذا الذي خـاف عمـر ـ رضي اللّه عنه ـ أن يقـع فيه المسلمون وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم مـنع أمتـه مـنه، كما قال اللّه تعإلى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏، وقال تعإلى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏، وقال تعإلى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 17، 18‏]‏ ‏.‏
ولـو كـان هـذا مستحبـاً لكـان يستحب للصحابـة والتابعين أن يصـلوا فـي جميع حـجر أزواجه، وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره‏.‏ ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد، ولم يفعل السلف شيئا من ذلك‏.‏
ولم يشرع اللّه تعإلى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلى المسجد‏.‏ ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر‏.‏ فمشاعر الحج كعرفة ومـزدلفـة ومني /تقصـد بالذكر والدعاء والتكبير، لا الصـلاة، بخـلاف المساجـد، فـإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجـد والمشاعر وفيـها الصـلاة والنسـك، قـال تعإلى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ‏}‏ ‏[‏الأنـعام‏:‏ 162، 163‏]‏، وما سوي ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة، ولا الدعاء، ولا الذكر، إذ لم يأت في شرع اللّه ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكنا لنبي أو منزلا أو ممراً‏.‏
فـإن الدين أصلـه متابعـة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقتـه بفعـل مـا أمـرنـا بـه وشـرعـه لنا وسـنه لنا، ونقتـدي بـه في أفعالـه التي شـرع لنا الاقتـداء بـه فيها، بخلاف ما كان من خصائصه‏.‏
فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلا سَنَّ لنا أن نتأسي به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم‏.‏ وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحاً كما فعله مباحاً، ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة‏؟‏ فيه قولان، كما تقدم‏.‏ وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبعه فيه؛ فإن فعله مباحا فعلناه مباحا، وإن فعله قربة فعلناه قربة‏.‏ ومن جعله عبادة رأي أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به، ورأي أن في ذلك بركة لكونه مختصاً به نوع اختصاص‏.‏