القول الثالث أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها
 
القول الثالث‏:‏ أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل‏.‏ فكل ما عده الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة؛ وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال، انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم، من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر، لا في شرع، ولا في لغة، بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس، كما تتنوع لغاتهم‏.‏
فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب، ليس هو اللفظ الذي في لغة الفرس، أو الروم، أو الترك، أو البربر، أو الحبشة، بل قد تختلف أنواع اللغة الواحدة، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم، إذا كان ما تعاقدوا به دالًا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك‏.‏ وظاهر مذهب أحمد‏.‏
ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقًا، وإن كان قد /وجد اللفظ من أحدهما، والفعل من الآخر؛ بأن يقول‏:‏ خذ هذا لله، فيأخذه‏.‏ أو يقول‏:‏ أعطني خبزًا بدرهم فيعطيه‏.‏ أو لم يوجد لفظ من أحدهما؛ بأن يضع الثمن، ويقبض جرزة البقل، أو الحلواء، أو غير ذلك، كما يتعامل به غالب الناس‏.‏ أو يضع المتاع ليوضع له بدله، فإذا وضع البدل الذي يرضي به أخذه، كما يجلبه التجار على عادة بعض أهل المشرق‏.‏
فكل ما عده الناس بيعًا فهو بيع‏.‏ وكذلك في الهبة مثل الهدية‏.‏ ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها، إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية‏.‏ وكذلك الإجارات؛ مثل ركوب سفينة الملاح المكاري، وركوب دابة الجمّال، أو الحمّار، أو البغّال المكاري على الوجه المعتاد أنه إجارة، ومثل الدخول إلى حمام الحمّامي؛ يدخلها الناس بالأجرة، ومثل دفع الثوب إلى غسّال، أو خيّاط، يعمل بالأجر، أو دفع الطعام إلى طباخ، أو شوّاي للآخر، سواء شوي اللحم مشروحًا أو غير مشروح‏.‏
حتى اختلف أصحابه، هل يقع الخلع بالمعاطاة، مثل أن تقول‏:‏ اخلعني بهذه الألف، أو بهذا الثوب، فيقبض العِوَض على الوجه المعتاد أنه رضي منه بالمعاوضة، فذهب العكبريون؛ كأبي حفص، وأبي على بن شهاب، إلى أن ذلك خلع صحيح، وذكروا من كلام أحمد، ومن كلام غيره / من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم‏.‏ ولعله هو الغالب على نصوصه، بل قد نص على أن الطلاق يقع بالفعل والقول‏.‏ واحتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وإذا كتب فقد عمل‏.‏ وذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت، كأبي عبد الله بن حامد، ومن اتبعهم؛ كالقاضي أبي يعلي ومن سلك سبيله‏:‏ أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام، وذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك؛ بناء على أن الفرقة فسخ النكاح، والنكاح يفتقر إلى لفظ‏.‏ فكذلك فسخه‏.‏