ما يوقع الناس في الحيل المبتدعة
 
ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل، فوجدته أحد شيئين‏:‏ إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم، فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جري لأصحاب السبت من اليهود، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏ ، وهذا الذنب ذنب عملي‏.‏ وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل‏.‏ وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقي الله وأخذ ما أحل / له، وأدي ما وجب عليه، فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدًا‏.‏ فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة‏.‏ فالسبب الأول‏:‏ هو الظلم‏.‏ والسبب الثاني‏:‏ هو عدم العلم‏.‏ والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏
وأصل هذا‏:‏ أن الله ـ سبحانه ـ إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان؛ كالدم، والميتة، ولحم الخنزير، أو من التصرفات؛ كالميسر، والربا، وما يدخل فيهما من بيوع الغرر وغيره؛ لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله ـ سبحانه ـ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ ، فأخبر ـ سبحانه ـ أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء، سواء كان ميسرًا بالمال أو باللعب، فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك‏.‏ وكذلك روي فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال‏:‏ كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار‏.‏ فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع‏:‏ إنه أصاب الثمر دمان‏:‏ أصابه مراض، أصابه قشام‏:‏ عاهات يحتجون بها‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لما كثرت عنده الخصومة في ذلك ـ‏:‏ ‏(‏فأما لا، فلا تبايعوا حتي يبدو / صلاح الثمر‏)‏، كالمشورة لهم يشير بها؛ لكثرة خصومتهم واختلافهم وذكر خارجة بن زيد‏:‏ ‏(‏أن زيدًا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتي تطلع الثريا، فيتبين الأحمر من الأصفر‏)‏ رواه البخاري تعليقًا، وأبو داود إلى قوله‏:‏ ‏(‏خصومتهم‏)‏‏.‏ وروي أحمد في المسند عنه قال‏:‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة‏.‏ فقال‏:‏‏(‏ما هذا‏؟‏‏)‏ فقيل له‏:‏ إن هؤلاء ابتاعوا الثمار، يقولون‏:‏أصابنا الدمان، والقشام‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلا تبايعوها حتي يبدو صلاحها‏)‏‏.‏
فقد أخبر أن سبب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ‏:‏ ما أفضت اليه من الخصام‏.‏وهكذا بيوع الغرر‏.‏ وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتي يبدو صلاحها في الصحيحين، من حديث ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس‏.‏ وفي مسلم من حديث أبي هريرة، وفي حديث أنس تعليله، ففي الصحيحين عن أنس‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتي تزهي، قيل‏:‏ وما تزهي‏؟‏ قال‏:‏ حتي تحمر أو تصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه‏؟‏‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتي يزهو، فقلنا لأنس‏:‏ ما زهوها‏؟‏ قال‏:‏ تحمر/ أو تصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك‏؟‏‏)‏‏.‏ قال أبو مسعود الدمشقي‏:‏جعل مالك والدراوردي قول أنس‏:‏‏(‏أرأيت إن منع الله الثمرة‏)‏ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم،أدرجاه فيه،ويرون أنه غلط‏.‏
فهذا التعليل ـ سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو كلام أنس ـ فيه بيان أن في ذلك أكلًا للمال بالباطل، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون‏.‏
وإذا كانت مفسدة بيع الغَرَر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل‏.‏ لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض‏.‏ وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة ـ وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق‏)‏ ـ صار هذا اللهو حقًا‏.‏
ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، وأكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها / يسير كما تقدم، والحاجة اليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر‏.‏ والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية‏؟‏‏!‏ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، وقاله جمهور العلماء‏.‏ كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى‏.‏
ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث‏:‏ أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة كانت من ضمان البائع، كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة‏.‏ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا‏.‏ بم تأخذ مال أخيك بغير حق‏؟‏‏)‏‏.‏ وفي رواية لمسلم عنه‏:‏ ‏(‏أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح‏)‏‏.‏
والشافعي ـ رضي الله عنه ـ لما لم يبلغه هذا الحديث ـ وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة فيه اضطراب ـ أخذ في ذلك بقول الكوفيين‏:‏ إنها تكون من ضمان المشتري؛ لأنه مبيع قد تلف بعد القبض؛ لأن التخلية بين المشتري وبينه قبض‏.‏ وهذا على أصل الكوفيين أمشي؛ لأن المشتري لا يملك إبقاءه على الشجر، وإنما موجب العقد عندهم‏:‏ القبض الناجز بكل حال‏.‏ وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه، مع /أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك، مع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع، وينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا‏.‏ ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصحيح يوافقه‏.‏ وهو ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق‏؟‏‏)‏ فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها، لا عند العقد، كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئًا فشيئًا‏.‏ فتلف الثمرة قبل التمكن من الجذاذ كتلف العين المؤجرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة، وفي الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق‏.‏ فكذلك في البيع‏.‏
وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة، وأن المشتري لم يملك الإبقاء‏.‏ وهذا الفرق لا يقول به الشافعي، وسنذكر أصله‏.‏
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتي يبدو صلاحها‏.‏ وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تبايعوا الثمر حتي يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة‏)‏ وفي لفظ لمسلم عنه‏:‏ ‏(‏نهى عن بيع النخل حتي تزهو، وعن السنبل حتي يبيض ويأمن العاهة‏:‏ نهى البائع والمشتري وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتي يحرز من كل عارض‏)‏‏.‏
/فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدومًا، فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة، فإن هذا لا سبيل اليه؛ إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين ‏{‏أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏17، 18‏]‏ ، وما ذكره في ‏[‏سورة يونس‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏ ، وإنما المقصود ذهاب العاهة التي يتكرر وجودها، وهذه إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب، وقبل ظهور النضج في الثمر؛ إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله، ولأنه لو منع بيعه بعد هذه الغاية لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح‏.‏ وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر؛ لأنه لا يكمل جملة واحدة‏.‏ وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر‏.‏
فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج اليه على مفسدة الغرر اليسير، كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته‏.‏
ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح، أفسد كثيرًا من أمر الدين، وضاق عليه عقله ودينه‏.‏
/وأيضًا، ففي صحيح مسلم عن أبي رافع‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره،فرجع اليه أبو رافع،فقال‏:‏لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء‏)‏‏.‏ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوي المكيل والموزون من الحيوان ونحوه،كما عليه فقهاء الحجاز والحديث،خلافًا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك؛لأن القرض موجبه رد المثل،والحيوان ليس بمثلي،وبناء على أن ما سوي المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضًا عن مال‏.‏ وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبًا في الذمة،كما هو المشهور من مذاهبهم؛خلافًا للكوفيين ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة‏.‏
وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه هو التقريب، وإلا فيعز وجود حيوان مثل ذلك الحيوان؛ لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي،وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة‏.‏
وأيضًا، فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجذاذ، وفيه روايتان عن أحمد‏.‏ إحداهما‏:‏ يجوز كقول مالك‏.‏ وحديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه‏.‏
/وأيضًا، فقد دل الكتاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏ ، والسنة في حديث بروع بنت واشق، وإجماع العلماء‏:‏ على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق، وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم، وإذا مات عند فقهاء الحديث، وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ ومعلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود، فلو كان التحديد معتبرًا في المهر ما جاز النكاح بدونه، وكما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتي يبين له أجره، وعن بيع اللمس، والنجش، وإلقاء الحجر‏)‏، فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر، فدل على الفرق بينهما‏.‏
وسببه‏:‏ أن المعقود عليه في النكاح ـ وهو منافع البضع ـ غير محدودة، بل المرجع فيها إلى العرف، فكذلك عوضه الآخر؛ لأن المهر ليس هو المقصود، وإنما هو نحلة تابعة، فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه‏.‏ وكذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم، وخيرهم بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي، وقال لهم‏:‏ ‏(‏إني قائم فخاطب الناس، فقولوا‏:‏ إنا نستشفع برسول الله/ صلى الله عليه وسلم على المسلمين، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله‏)‏‏.‏ وقام فخطب الناس، فقال‏:‏ ‏(‏إني قد رددت على هؤلاء سبيهم، فمن شاء طيب ذلك، ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا‏)‏ فهذا معاوضة عن الإعتاق، كعوض الكتابة بابل مطلقة في الذمة، إلى أجل متفاوت غير محدود‏.‏
وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتي ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح، ويخرجون منها‏.‏ واشترط عليهم ألا يكتموا، ولا يغيبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد‏.‏ فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم‏.‏
وعن ابن عباس قال‏:‏ صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة‏:‏ النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعًا، وثلاثين فرسًا، وثلاثين بعيرًا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتي يردوها عليهم، إن كان باليمن كيد أو غارة ‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏ فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة/ الجنس، غير موصوفة بصفات السلم‏.‏ وكذلك كل عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط، قد يكون وقد لا يكون‏.‏
فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال؛ كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب، ليس بواجب أن يعلم الثمن والأجرة‏.‏ ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر؛ لأن الأموال إما أنها لا تجب في هذه العقود، أو ليست هي المقصود الأعظم منها، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع، بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعًا ما يزيد على ضرر ترك تحديده‏.