القول الأول أن الأصل في العقود الحظر والمنع
 

القاعدة الثالثة‏:‏ في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد‏.‏ ومسائل هذه القاعدة كثيرة جداً‏.‏
والذي يمكن ضبطه فيها قولان‏.‏
أحدهما‏:‏ أن يقال‏:‏ الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك‏:‏ الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته‏.‏ فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا‏.‏ وكثير من أصول الشافعي وأصول / طائفة من أصحاب مالك وأحمد‏.‏ فإن أحمد قد يعلل ـ أحياناً ـ بطلان العقد بكونه لم يَرِدْ فيه أثر ولا قياس‏.‏ كما قاله في إحدي الروايتين في وقف الإنسان على نفسه‏.‏ وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضي العقد، ويقولون‏:‏ ما خالف مقتضي العقد فهو باطل، أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقداً ولا شرطاً إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع‏.‏ وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه، واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طرداً جارياً، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم‏.‏
وأما أبو حنيفة، فأصوله تقتضي أنه لا يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه؛ ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال؛ ولهذا منع بيع العين المؤجرة‏.‏ وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته‏.‏ وإنما جَوَّز الإجارة المؤخرة؛ لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع، أو الانتفاع به، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر، وسائر الشروط التي يبطلها غيره‏.‏ ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ؛ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب، أو إعْسَار، أو نحوهما‏.‏ ولا يبطل بالشروط / الفاسدة مطلقاً‏.‏ وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر، وهو عنده موضع استحسان‏.‏
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضي العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص‏.‏ فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع، ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع، حتي منع الإجارة المؤخرة؛ لأن موجبها ـ وهو القبض ـ لا يلي العقد، ولا يجوز ـ أيضا ـ ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق؛ لما فيه من السنة والمعني، لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه، وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء، ونحو ذلك‏.‏ ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها، ولا أن يتزوج عليها ولا يتسري، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها‏.‏ وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه، كالجمال ونحوه‏.‏ وهو ممن يري فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، كاشتراط الأجل، والطلاق، ونكاح الشِّغَار‏.‏ بخلاف فساد المهر ونحوه‏.‏
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي؛ كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها ألا ينقلها ولا / يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح‏.‏ فيقولون‏:‏ كل شرط ينافي مقتضي العقد فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين‏.‏
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي‏.‏ فقد يوافقونه في الأصل، ويستثنون للمعارض أكثر مما استثني، كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل، ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض‏.‏
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر،ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر‏.‏
وعمدة هؤلاء‏:‏ قصة بريرة المشهورة‏.‏ وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ جاءتني بريرة فقالت‏:‏ كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني‏.‏ فقلت‏:‏ إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت‏.‏ فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها‏.‏ فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى اله عليه وسلم جالس‏.‏ فقالت‏:‏ إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى اله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق‏)‏ / ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى اله عليه وسلم في الناس‏.‏ فحمد الله وأثني عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏أما بعد، ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله‏؟‏‏!‏ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل،وإن كان مائة شرط‏.‏ قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق‏)‏، وفي رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏اشتريها فأعتقيها، وليشترطوا ما شاؤوا‏)‏‏.‏ فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبي صلى اله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏شرط الله أحق وأوثق‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر‏:‏ أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها‏.‏ فقال أهلها‏:‏ نبيعكها على أن ولاءها لنا‏؟‏ فذكرت ذلك لرسول الله صلى اله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق‏)‏‏.‏ وفي مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها‏.‏ فأبي أهلها إلا أن يكون لهم الولاء‏.‏ فذكرت ذلك لرسول الله صلى اله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏لا يمنعك ذلك‏.‏ فإنما الولاء لمن أعتق‏)‏‏.‏
ولهم من هذا الحديث حجتان‏:‏
إحداهما‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل‏)‏‏.‏ فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث، ولا في / الإجماع، فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع‏.‏ فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع‏.‏
ومن قال بالقياس ـ وهو الجمهور ـ قالوا‏:‏ إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله، فهو في كتاب الله‏.‏
والحجة الثانية‏:‏ أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء؛ لأن العلة فيه كونه مخالفًا لمقتضي العقد؛ وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع‏.‏ فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات‏.‏ وهذا نكتة القاعدة‏.‏ وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع؛ ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي ـ في أحد القولين ـ لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها‏.‏ فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر، متابعة لعبد الله ابن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج‏.‏ ويقول‏:‏ اليس حسبكم سنة نبيكم‏؟‏ وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏
قالوا‏:‏ فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله، وزيادة / في الدين‏.‏
وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا‏:‏ ذلك منسوخ‏.‏ كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى اله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية، أو قالوا‏:‏ هذا عام أو مطلق، فيخص بالشرط الذي في كتاب الله‏.‏
واحتجوا ـ أيضا ـ بحديث يروي في حكاية عن أبي حنيفة، وابن أبي ليلي، وشريك‏:‏ أن النبي صلى اله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث‏.‏ وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء‏.‏ وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه، وأجمع الفقهاء المعروفـون ـ من غير خلاف أعلمـه من غيرهم ـ أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبًا أو صانعًا، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك ـ شرط صحيح‏.‏