القول الثاني الأصل في العقود الجواز والصحة
 
القول الثاني‏:‏ أن الأصل في العقود والشروط‏:‏ الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله ـ نصًا أو قياسًا ـ عند من يقول به‏.‏ وأصول أحمد المنصوصة عنه، أكثرها يجري على هذا القول‏.‏ ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا / للشروط‏.‏ فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه‏.‏
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضي العقد، أو لم يرد به نص‏.‏ وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى اله عليه وسلم والصحابة مالا تجده عند غيره من الأئمة‏.‏ فقال بذلك، وبما في معناه قياسا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص، فقد يضعفه، أو يضعف دلالته‏.‏ وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس‏.‏ وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة والتي سنذكرها في تصحيح الشروط؛ كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقًا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة‏.‏ وأحمد ـ في إحدي الروايتين عنه ـ يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا، ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه‏.‏ ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق‏.‏ فإذا كان لها مقتضي عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط، والنقص منه بالشرط، مالم يتضمن مخالفة الشرع‏.‏ كما سأذكره ـ إن شاء الله‏.‏
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكني الدار، ونحو ذلك، إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك / الغير، اتباعًا لحديث جابر لما باع النبي صلى اله عليه وسلم جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة‏.‏
ويجوز ـ أيضا ـ للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما، اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة واشترطت عليه خدمة النبي صلى اله عليه وسلم ما عاش‏.‏
ويجوز ـ على عامة أقواله ـ أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها؛ كما في حديث صفية، وكما فعله أنس بن مالك وغيره، وإن لم ترض المرأة؛ كأنه أعتقها واستثني منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح؛ إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة‏.‏
ويجوز ـ أيضا ـ للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته وغلته جميعا لنفسه لمدة حياته؛ كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك، وروي فيه حديث مرسل عن النبي صلى اله عليه وسلم‏.‏ وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه‏؟‏ فيه عنه روايتان‏.‏
ويجوز ـ أيضا ـ على قياس قوله ـ استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة، والصداق وفدية الخلع، والصلح على القصاص، ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك، سواء كان بإسقاط كالعتق، أو بتمليك بعوض كالبيع‏.‏ أو بغير عوض كالهبة‏.‏
/ ويجوز أحمد ـ أيضا ـ في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح؛ لما في الصحيحين عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج‏)‏ ومن قال بهذا الحديث قال‏:‏ إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة‏.‏وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح‏.‏ فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق، فتشترط ألا تسافر معه ولا تنتقل من دارها‏.‏ وتزيد على ما يملكه بالإطلاق،فتشترط أن تكون مخلية به،فلا يتزوج عليها ولا يَتَسَرَّي‏.‏
ويجوز ـ على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه ـ أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كاليسار والجمال، ونحو ذلك، ويملك الفسخ بفواته‏.‏ وهو من أشد الناس قولاً بفسخ النكاح وانفساخه، فيجوز فسخه بالعيب، كما لو تزوج عليها، وقد شرطت عليه ألا يتزوج عليها، وبالتدليس كما لو ظنها حرة فظهرت أمة، وبالخلف في الصفة على الصحيح، كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر‏.‏ وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت، واشتراط الطلاق‏.‏ وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة، ونحو ذلك‏؟‏ فيه عنه روايتان‏.‏ إحداهما‏:‏ نعم؛ كنكاح الشِّغار‏.‏ /وهو رواية عن مالك‏.‏ والثانية‏:‏ لا ينفسخ؛ لأنه تابع وهو عقد مفرد؛ كقول أبي حنيفة والشافعي‏.‏
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلاً أو تركًا في المبيع مما هو مقصود للبائع، أو للمبيع نفسه‏.‏ وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق‏.‏ وقد يروي ذلك عنه، لكن الأول أكثر في كلامه‏.‏ ففي جامع الخلال عن أبي طالب‏:‏ سألت أحمد عن رجل اشتري جارية فشرط أن يتسري بها‏:‏ تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسري بها، ولا تكون للخدمة‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس به‏.‏ وقال مهنا‏:‏ سألت أبا عبد الله عن رجل اشتري من رجل جارية، فقال له‏:‏ إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس به، ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط؛ لأن ابن مسعود قال لرجل‏:‏ لا تقربنها ولأحد فيها شرط‏.‏ وقال حنبل‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ أن ابن مسعود اشتري جارية من امرأته، وشرط لها‏:‏ إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به‏.‏ فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب‏.‏ فقال‏:‏ لا تنكحها وفيها شرط‏.‏ وقال حنبل‏:‏ قال عَمِّي‏:‏ كل شرط في فرج فهو على هذا‏.‏ والشرط الواحد في البيع جائز، إلا أن عمر كره لابن مسعود / أن يطأها؛ لأنه شرط لامرأته الذي شرط‏.‏ فكره عمر أن يطأها وفيها شرط‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ سألت أحمد عن رجل اشتري جارية وشرط لأهلها ألا يبيعها ولا يهبها‏؟‏ فكأنه رخص فيه‏.‏ ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن، فلا يقربها‏.‏ يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب، حين قال لعبد الله بن مسعود‏.‏
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول، كالمقايلة‏.‏ وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط، وربما تأولوا قوله‏:‏ ‏[‏جائز‏]‏ أي العقد جائز، وبقية نصوصه تصرح بأن مراده ‏[‏الشرط‏]‏ أيضا‏.‏ واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة‏.‏ وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه، ولا يهبه، أو يتسراها ونحو ذلك، مما فيه تعيين لمصرف واحد؛ كما روي عمر بن شبة في أخبار عثمان‏:‏ أنه اشتري من صهيب دارًا، وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده‏.‏
وجماع ذلك‏:‏ أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة‏.‏ فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع، وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، جوز ـ أيضا ـ استثناء بعض التصرفات‏.‏
وعلى هذا فمن قال‏:‏ هذا الشرط ينافي مقتضي العقد‏.‏ قيل له‏:‏/ أينافي مقتضي العقد المطلق، أو مقتضي العقد مطلقا‏؟‏ فإن أراد الأول، فكل شرط كذلك‏.‏ وإن أراد الثاني، لم يسلم له‏.‏ وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد؛ كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد‏.‏ فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم ينافِ مقصوده‏.‏ هذا القول هو الصحيح‏:‏ بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار، مع الاستصحاب، وعدم الدليل المنافي‏.‏
أما الكتاب‏:‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، والعقود هي العهود‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 34‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 15‏]‏، فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد‏.‏ وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ‏}‏، فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد؛ كالنذر والبيع، إنما أمر بالوفاء به؛ ولهذا قرنه بالصدق في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ‏}‏؛ لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل، كما/ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75ـ 77‏]‏ ، وقال ـ سبحانه ـ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ ، قال المفسرون ـ كالضحاك وغيره ـ‏:‏ تساءلون به‏:‏ تتعاهدون وتتعاقدون‏.‏ وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل، أو ترك، أو مال، أو نفع، ونحو ذلك، وجمع ـ سبحانه ـ في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة؛ كالرحم‏.‏ والمكسوبة؛ كالعقود التي يدخل فيها الصهر،وولاية مال اليتيم، ونحو ذلك‏.‏وقال ـ سبحانه ـ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 91، 92‏]‏ ، والأيمان‏:‏ جمع يمين، وكل عقد فإنه يمين‏.‏ قيل‏:‏ سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين، يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏4ـ 8‏]‏ ، والإلُّ‏:‏ هو القرابة‏.‏ والذمة‏:‏ العهد ـ وهما المذكوران في قوله‏:‏ ‏{‏تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ ، إلى قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 10‏]‏ ، فذمهم الله على قطيعة الرحم، ونقض الذمة‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 12‏]‏ ، وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم النبي صلى اله عليه وسلم عام الحديبية، ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة‏.‏ وأما قوله ـ سبحانه‏:‏ ‏{‏بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ ، فتلك عهود جائزة؛ لا لازمة فإنها كانت مطلقة، وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها؛ كالوكالة، ونحوها‏.‏
ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم‏:‏ إن الهدنة لا تصح إلا مؤقتة، فقوله ـ مع أنه مخالف لأصول أحمد ـ يرده القرآن‏.‏ وترده سنة رسول الله صلى اله عليه وسلم في أكثر المعاهدين، فإنه لم / يوقت معهم وقتا‏.‏
فأما من كان عهده مؤقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏ ، فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة؛ لأن المحذور من جهتهم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ‏}‏ الآية ‏[‏الصف‏:‏ 2‏]‏ ‏.‏ وجاء ـ أيضا ـ في صحيح مسلم عن أبي موسي الأشعري‏:‏ ‏(‏إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ‏}‏، في سورتي المؤمنون ‏[‏الآية‏:‏ 8‏]‏ والمعارج ‏[‏الآية‏:‏ 32‏]‏ ‏.‏ وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19ـ32‏]‏ ، وهذا يقتضي وجوب ذلك؛ لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك؛ ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب، وكذلك في سورة المؤمنين، قال في أولها‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏10، 11‏]‏ ، فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين؛ لأن ظاهر الآية الحَصْر؛ فإن إدخال الفصل بين المبتدأ والخبر يُشْعر بالحصر، ومن لم يكن من وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة، إلا أن يعفو الله عنه، وإذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته هي الوفاء به‏.‏ ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبي صلى اله عليه وسلم ضد ذلك صفة المنافق في قوله‏:‏ ‏(‏إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر‏)‏ وعنه‏:‏ ‏(‏على كل خُلِق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب‏)‏ ومازالوا يوصون بصدق الحديث وأداء الأمانة‏.‏ وهذا عام‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏26، 27‏]‏ ، فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله بصلته؛ لأن الواجب إما بالشرع، وإما بالشرط الذي عقده المرء باختياره‏.‏ وقال ـ أيضا ـ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ باب سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏20ـ25‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏100‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏75، 76‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ ، وقال / تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏89‏]‏ والأحاديث في هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى اله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتي يدعها‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعــد أخلــف، وإذا عاهد غدر‏.‏ وإذا خاصم فجر‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قـــال‏:‏ قال رســول الله صلى اله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عـن أبي سعيـد، عن النبي صلى اله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لكل غادر لواء عند اسْــتِه يوم القيامة‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته، ألا ولا غــادر أعظم غدرة من أمير عامة‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال‏:‏ كان رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا أَمَّرَ أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي الله، وفيمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قــال‏:‏ ‏(‏اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله‏.‏ اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا‏.‏ وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال‏.‏ فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم‏)‏ الحديث‏.‏ / فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول‏.‏
وفي الصحيحين عن ابن عباس، عن أبي سفيان بن حرب ـ لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى اله عليه وسلم‏:‏ هل يغدر‏؟‏ ـ فقال‏:‏ لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها‏:‏ قال‏:‏ ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة‏.‏وقال هرقل في جوابه‏:‏ سألتــك هل يغدر‏؟‏ فذكرت أنه لا يغدر،وكذلك الرسل لا تغدر‏.‏فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين‏.‏
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أحق الشروط أن توفوا به‏:‏ ما استحللتم به الفروج‏)‏ فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها‏.‏
وروى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى اله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى‏:‏ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة‏:‏ رجل أعطي بي، ثم غدر‏.‏ ورجل باع حرًا، ثم أكل ثمنه‏.‏ ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يُعْطه أجره‏)‏ فذم الغادر‏.‏ وكل من شرط شرطًا ثم نقضه فقد غدر‏.‏
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق/ والعقود،وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك‏.‏
ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع، لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبًا؛ كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقا‏.‏ وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس، ونحو ذلك‏.‏ وكذلك الصدق في الحديث مأمور به، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض، ويجب السكوت أو التعريض‏.‏
وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط؛ إذ لا معني للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده‏.‏ ومقصود العقد‏:‏ هو الوفاء به‏.‏ فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة‏.‏
وقد روى أبو داود، والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال‏:‏ / قال رسول الله صلى اله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حـلالا، والمسلمون على شروطهم‏)‏ وكثير بن زيد قال يحيي بن معين في رواية‏:‏ هو ثقة‏.‏ وضعفه في رواية أخري‏.‏
وقد روى الترمذي، والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وروي ابن ماجه منه اللفظ الأول، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة‏.‏ وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به‏.‏ فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه‏.‏ وقد روي أبو بكر البزار ـ أيضا ـ عن محمد بن عبد الرحمن ابن السلماني، عـن أبيه، عن ابن عمر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الناس على شروطهم ما وافقت الحق‏)‏‏.‏ وهذه الأسانيد ـ وإن كان الواحد منها ضعيفا ـ فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا‏.‏
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب؛ فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما / أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله‏.‏ وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله،وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط مالم يكن واجبًا بدونه‏.‏ فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبًا ولا حرامًا، وعدم الإيجاب ليس نفيًا للإيجاب،حتي يكون المشترط مناقضًا للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب مالم يكن واجبًا؛ فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض مالم يكن واجبا؛ ويباح ـ أيضا ـ لكل منهما مالم يكن مباحًا، ويحرم على كل منهما مالم يكن حرامًا‏.‏ وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين‏.‏ وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رَهْنا،أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛فإنه يجب،ويحرم ويباح بهذا الشرط مالم يكن كذلك‏.‏
وهذا المعنى هو الذي أَوْهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال‏:‏ لأنها إما أن تبيح حرامًا، أو تحرم حلالًا، أو توجب ساقطًا، أو تسقط واجبًا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع‏.‏ وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتي توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حرامًا بدون الشرط، فالشرط لا يبيحه؛ كالربا، وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح، أو ملك يمين‏.‏ فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة، فإنه جائز‏.‏ وكذلك الولاء،/ فقد نهى النبي صلى اله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته‏.‏ وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد‏.‏ وقال صلى اله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا‏)‏ وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، أو انتساب المعتق إلى غير مولاه‏.‏ فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما‏.‏
وأما ما كان مباحًا بدون الشرط، فالشرط يوجبه؛ كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء؛ فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبًا، وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالًا وحرامًا مطلقًا فالشرط لا يغيره‏.‏
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحْهُ مطلقًا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله‏.‏ وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقًا، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة / والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب‏.‏ وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب‏.‏
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع‏.‏ وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ مقاطع الحقوق عند الشروط‏.‏