تابع إذا تعاقد المسلمون بينهم
 
وأما إن قيل‏:‏لابد من دليل شرعي يدل على حلها،سواء كان عامًا أو خاصًا، فعنه جوابان‏:‏
أحدهما‏:‏ المنع، كما تقدم‏.‏
والثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع‏.‏ وما عارضوا به سنتكلم عليه ـ إن شاء الله‏.‏ فلم يبق إلا / القول الثالث وهو المقصود‏.‏
وأما قوله صلى اله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط‏.‏ كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق‏)‏ فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخري‏.‏ وكذلك الوعد والخلف‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا ـ والله أعلم ـ المشروط، لا نفس المتكلم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏وإن كـان مائة شرط‏)‏ أي‏:‏ وإن كان مائة مشروط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنمـا المـراد تعديـد المشروط‏.‏ والدليـل على ذلك قولـه‏:‏ ‏(‏كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق‏)‏ أي‏:‏ كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه‏.‏ وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه؛ بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى‏.‏
وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتي يقال‏:‏ ‏(‏كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق‏)‏ فيكون المعني‏:‏ من اشترط أمرًا ليس في حكم الله أو في كتابه، بواسطة أو بغير واسطة، فهو باطل؛ لأنه لابد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتي يصح اشتراطه، ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدًا كان هذا المشروط ـ وهو ثبوت الولاء لغير المعتق ـ شرطا ليس في كتاب الله‏.‏
/فانظر إلى المشروط إن كان فعلاً أو حكمًا‏.‏ فإن كان اللّه قد أباحه، جاز اشتراطه ووجب‏.‏ وإن كان اللّه تعالى لم يبحه، لم يجز اشتراطه‏.‏ فإذا شَرَط الرجل ألا يسافر بزوجته، فهذا المشروط في كتاب اللّه؛ لأن كتاب اللّه يبيح ألا يسافر بها‏.‏ فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطاً مباحاً في كتاب اللّه ‏.‏
فمضمون الحديث‏:‏ أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال‏:‏ ليس في كتاب اللّه، أي‏:‏ ليس في كتاب اللّه نَفيْه، كما قال‏:‏ ‏(‏سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم‏)‏ أي‏:‏ بما تعرفون خلافه‏.‏ وإلا فما لا يعرف كثير‏.‏
ثم نقول‏:‏ لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعني‏:‏ أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم، فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام؛ فإن اللّه قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه ‏{‏مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏، ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة، ومن لم يعد، جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء وترك العقد‏.‏ وكذا النذر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة، وابن عمر وقال‏:‏ ‏(‏إنه لا يأتي بخير‏)‏ ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في / قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يَعْصِه‏)‏‏.‏
فالعقد المحرم قد يكون سبباً لإيجاب أو تحريم‏.‏ نعم لايكون سبباً لإباحة، كما أنه لما نهي عن بيع الغرر، وعن عقد الربا، وعن نكاح ذوات المحارم، ونحو ذلك، لم يستفد المنهي بفعله لما نهي عنه الاستباحة؛ لأن المنهي عنه معصية‏.‏ والأصل في المعاصي‏:‏ أنها لا تكون سبباً لنعمة اللّه ورحمته‏.‏ والإباحة من نعمة اللّه ورحمته، وإن كانت قد تكون سببًا للإملاء، ولفتح أبواب الدنيا، لكن ذلك قدر ليس بشرع، بل قد يكون سبباً لعقوبة اللّه تعالى‏.‏ والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عليهمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏، وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفية‏.‏
والمخالفون في هذه القاعدة ـ من أهل الظاهر ونحوهم ـ قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام،وكل عقد حرام فوجوده كعدمه،وكلا المقدمتين ممنوعة،كما تقدم‏.‏
وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية ـ إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن الشروط التي لم يبحها اللّه ، وإن كان لا يحرمها / باطلة ـ فنقول‏:‏
قد ذكرنا مافي الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموماً، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها‏.‏ وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة؛ فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة‏.‏ وذلك لأن قوله‏:‏ ‏(‏ليس في كتاب اللّه‏)‏ إنما يشمل ماليس في كتاب اللّه لا بعمومه ولا بخصوصه، فإن ما دل كتاب اللّه على إباحته بعمومه فإنه في كتاب اللّه؛ لأن قولنا‏:‏ هذا في كتاب اللّه، يعم ماهو فيه بالخصوص وبالعموم‏.‏ وعلى هذا معني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عليكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏89‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، على قول من جعل الكتاب هو القرآن‏.‏ وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ، فلا يجيء ههنا‏.‏
يدل على ذلك‏:‏ أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق، فيجب أن يكون في كتاب اللّه، وقد لا يكون في كتاب اللّه بخصوصه، لكن في كتاب اللّه الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين، فيكون في كتاب اللّه بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار‏.‏
/ يبقي أن يقال على هذا الجواب‏:‏ فإذا كان كتاب اللّه أوجب الوفاء بالشروط عموما، فشرط الولاء داخل في العموم‏.‏
فيقال‏:‏ العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص؛ فإن الخاص يفسر العام‏.‏ وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله‏:‏ ‏(‏من ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين‏)‏‏.‏
ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَاليكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4، 5‏]‏ ‏.‏ فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه، وحرم التبني‏.‏ ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخًا في الدين ومولي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة‏:‏ ‏(‏أنت أخونا ومولانا‏)‏0، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إخوانكم خَوَلكم ، جعلهم اللّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس‏)‏‏.‏
فجعل ـ سبحانه ـ الولاء نظير النسب، وبين سبب الولاء في قوله‏:‏ / ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ ، فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد‏.‏فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد، فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق؛ لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره‏.‏
وإلى هذا المعني أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏(‏إنما الولاء لمن أعتق‏)‏‏.‏
وإذا كان كتاب اللّه قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه، لم يدخل في العهود التي أمر اللّه بالوفاء بها؛ لأنه - سبحانه - لا يأمر بما حرمه فهذا هذا، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعني الأول، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب اللّه، والتحذير من اشتراط شيء لم يبحه اللّه‏.‏ فيكون المشروط قد حرمه؛ لأن كتاب اللّه قد أباح عمومًا لم يحرمه، أو من اشتراط ما ينافي كتاب اللّه، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق‏)‏‏.‏ فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان‏:‏ الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع / المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة‏:‏ هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم، أم لا ‏؟‏
أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي، فقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك؛ فإن جميع ما أوجبه اللّه ورسوله وحرمه اللّه ورسوله مغير لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل لذلك‏.‏ وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة، فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضًا لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة‏:‏ هل هي من المستخرج، أو من المستبقي‏؟‏ وهذا - أيضًا - لا خلاف فيه ‏.‏