سئل عن مدينة لا يذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها...ويبيعه
 
وسئل ـ قدس الله روحه ـ عن مدينة لا يذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها وكوارعها مكسا، ثم يضع ذلك، ويبيعه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمتنع من شراء ذلك وأكله من أهل المدينة، وغيرهم، وليس يباع في المدينة رؤوس وكوارع وأسقاط إلا على هذا الحكم، ولا يمكن غير ذلك، فهل يحرم شراء ذلك وأكله والحالة هذه أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
هذه حكمها حكم ما يأخذه الملوك من الكلف التي يضربونها على الناس؛ فإن هذه في الحقيقة تؤخذ من أموال أصحاب الغنم الذين يبيعونها للقصابين وغيرهم؛ فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك‏.‏ وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن كانت تؤخذ من المشتري، فهي في الحقيقة من مال البائع، وهذه الكلف دخلها التأويل والشبهة‏.‏ ومنها ما هو ظلم محض، ولكن تعذر معرفة أصحابه ورده إليهم، فوجب صرفه في مصالح المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم‏.‏
فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة اشتراء المغصوب/ المحض الذي لا تأويل فيه ولا شبهة، وليس لصاحبه ولاية بيعه،حتى يقال‏:‏ إنه فعل محرمًا يفسق بالإصرار عليه‏.‏وفي المنع من شرائها إضرار بالناس،وإفساد للأموال من غير منفعة تعود على المظلوم‏.‏
والمظلوم له أن يطالب ظالمه بالثمن الذي قبضه إن شاء، وبنظير ماله، والتورع عن هذا من التورع عن الشبهات، ولا نحكم بأنها حرام محض، ومن اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يقال‏:‏ إنه فعل محرمًا لا تأويل فيه‏.‏
فإن طائفة من الفقهاء أفتوا طائفة من الملوك بجواز وضع أصل هذه الوظائف‏.‏ كما فعل ذلك أبو المعالى الجويني في كتابه ‏[‏غياث الأمم‏]‏ ، وكما ذكر ذلك بعض الحنفية‏.‏ وما قبض بتأويل فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه، وإن كان المشتري يعتقد أن ذلك العقد محرم، كالذمي إذا باع خمرًا، وأخذ ثمنه، جاز للمسلم أن يعامله في ذلك الثمن، وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر ، كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ولوُّهم بيعها، وخذوا أثمانها‏.‏ وهذا كان سببه أن بعض عماله أخذ خمرًا في الجزية، وباع الخمر لأهل الذمة، فبلغ ذلك عمر، فأنكر ذلك‏.‏ وقال‏:‏ ولوهم بيعها، وخذوا أثمانها‏.‏ وهذا ثابت عن عمر، وهو مذهب الأئمة‏.‏
وهكذا من عامل معاملة يعتقد جوازها في مذهبه، وقبض المال،/ جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه، وإن كان لا يري جواز تلك المعاملة‏.‏
فإذا قدر أن الوظائف قد فعلها من يعتقد جوازها؛ لإفتاء بعض الناس له بذلك، أو اعتقد أن اعتقاد أخذ هذا المال وصرفه في الجهاد وغيره من المصالح جائز، جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه، وإن كان لا يعتقد جواز أصل القبض‏.‏
وعلى هذا فمن اعتقد أن لولاة الأمر فيما فعلوه تأويلا سائغا، جاز أن يشتري ما قبضوه، وإن كان هو لا يجوز ما فعلوه، مثل أن يقبض ولي الأمر من الزكاة قيمتها فيشتري منها، ومثل أن يصادر بعض العمال مصادرة يعتقد جوازها، أو مثل أن يرى الجهاد وجب على الناس بأموالهم، وأن ما أخذوه من الوظائف هو من المال الذي يجوز أخذه، وصرفه في الجهاد، وغير ذلك من التأويلات التي قد تكون خطأ، ولكنها مما قد ساغ فيه الاجتهاد‏.‏ فإذا كان قبض ولي الأمر المال على هذا الوجه، جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من نائبه الذي أمره أن يقبضه، وإن كان المشتري لا يسوغ قبضه، والمشتري لم يظلم صاحبه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضًا يعتقد جوازه‏.‏
وإن كان على هذا الوجه فشراؤه حلال في أصح القولين، وليس من الشبهات؛ فإنه إذا جاز أن يشتري من الكفار ما قبضوا بعقود يعتقدون جوازها ـ وإن كانت محرمة في دين المسلمين ـ فلأن / يجوز أن يشتري من المسلم ما قبضه بعقد يعتقد جوازه ـ وإن كنا نراه محرمًا ـ بطريق الأولى، والأحرى، فإن الكافر تأويله المخالف لدين الإسلام باطل قطعًا، بخلاف تأويل المسلم‏.‏
ولهذا إذا أسلموا وتحاكموا إلينا،وقد قبضوا أموالًا بعقود يعتقدون جوازها؛كالربا، وثمن الخمر،والخنزير،لم تحرم عليهم تلك الأموال،كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الإسلام؛لقوله تعالى‏:‏‏{‏اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ ‏.‏ولم يحرم ما قبضوه‏.‏
وهكذا من كان قد عامل معاملات ربوية يعتقد جوازها، ثم تبين له أنها لا تجوز، وكانت من المعاملات التي تنازع فيها المسلمون، فإنه لا يحرم عليه ما قبضه بتلك المعاملة على الصحيح‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن ما قبضه الملوك ظلمًا محضًا، إذا اختلط بمال بيت المال، وتعذر رده إلى صاحبه، فإنه يصرف في مصالح المسلمين؛ فإن المجهول كالمعدوم، فما عرف أنه قبض ظلمًا، ولم يعرف صاحبه، صرف في المصالح، وما قبض من بيت المال المختلط حلاله بحرامه لم يحكم بأنه حرام؛ فإن الاختلاط إذا لم يتميز المال يجري مجري الإتلاف، وصاحبه يستحق عوضه من بيت المال‏.‏ فمن قبض ثمن مبيع من مال بيت المال المختلط جاز له ذلك في أصح الأقوال‏.‏ والله أعلم‏.‏