فصل المحرمات في الشريعة ترجع إلى الظلم
 
وقـال‏:‏
فصل
قد ذكرت في غير موضع‏:‏ أن المحرمات في الشريعة ترجع إلى الظلم، إما في حق الله تعالى، وإما في حق العبد، وإما في حقوق العباد‏.‏ وكل ما كان ظلمًا في حق العباد، فهو ظلم العبد لنفسه، ولا ينعكس، فجميع الذنوب تدخل في ظلم العبد نفسه‏.‏
وأول من اعترف بهذا أبو البشر، لما تلقي من ربه الكلمات، فقال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ ، فكان في هذه الكلمات اعترافه بذنبه، وطلبه ربه على وجه الافتقار والمغفرة والرحمة‏.‏ فالمغفرة إزالة السيئات، والرحمة إنزال / الخيرات‏.‏ فهذا ظلم لنفسه، ليس فيه ظلم لغيره‏.‏ وقال موسي عليه السلام لما ذكر الذي هو من عدوه‏:‏ ‏{‏فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15، 16‏]‏ ، فاعترف بظلمه نفسه فيما كان من جناية على غيره لم يؤمر بها‏.‏ وقال يونس ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ ، وفي الصحيح الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يدعو به في صلاته‏:‏ ‏(‏اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏)‏، فهذا الدعاء مطابق لدعاء آدم في الاعتراف بظلم النفس، ومسألة المغفرة والرحمة‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوي على الدابة‏:‏ فحمد وسبح وكبر، قال‏:‏ ‏(‏لا إله إلا أنت، سبحانك ظلمت نفسي، فاغفر لي‏)‏ ثم يضحك‏.‏ وهو محفوظ من حديث على بن أبي طالب‏.‏
وإذا كان كذلك، فالظلم نوعان‏:‏ تفريط في الحق، وتعدي للحد، كما قد قررت ذلك في غير موضع؛ فإن ترك الواجب ظلم، كما أن فعل المحرم ظلم‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَطْل الغني ظلم‏)‏ متفق عليه‏.‏ فأخبر أن المطل ـ وهو تأخير الوفاء ـ ظلم، فكيف بتركه‏؟‏‏!‏
/وقد قررت في غير هذا الموضع أن أداء الواجب أعظم من ترك المحرم، وأن الطاعات الوجودية أعظم من الطاعات العدمية، فيكون جنس الظلم بترك الحقوق الواجبة أعظم من جنس الظلم بتعدي الحدود‏.‏
وقررت ـ أيضا ـ أن الورع المشروع هو أداء الواجب، وترك المحرم، ليس هو ترك المحرم فقط، وكذلك التقوي اسم لأداء الواجبات، وترك المحرمات‏.‏ كما بين الله حدها في قوله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ ‏.‏
ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما في الفعل، أو المال من كراهة توجب تركه، ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر يوجب فعله‏.‏ مثال ذلك ما سئل عنه أحمد‏:‏ عن رجل ترك مالًا فيه شبهة، وعليه دين، فسأله الوارث هل يتورع عن ذلك المال المشتبه‏؟‏ فقال له أحمد‏:‏ أتترك ذمة أبيك مرتهنة‏؟‏‏!‏ ذكرها أبو طالب وابن حامد‏.‏ وهذا عين الفقه؛ فإن قضاء الدين واجب، والغريم حقه متعلق بالتركة، فإن لم يوف الوارث الدين، وإلا فله استيفاؤه من التركة، فلا يجوز إضاعة التركة المشتبهة إلى تعلق بها حق الغريم، ولا يجوز ـ أيضا ـ إضرار الميت بترك ذمته مرتهنة‏.‏ ففي الإعراض عن التركة إضرار الميت، وإضرار المستحق، وهذان ظلمان محققان بترك واجبين‏.‏ وأخذ المال المشتبه / يجوز أن يكون فيه ضرر المظلوم‏.‏ فقال أحمد للوارث‏:‏ أبرئ ذمة أبيك‏.‏ فهذا المال المشتبه خير من تركها مرتهنة بالإعراض‏.‏ وهذا الفعل واجب على الوارث وجوب عين، إن لم يقم غيره فيه مقامه، أو وجوب كفاية، أو مستحب استح
بابا مؤكدًا، أكثر من الاستحباب في ترك الشبهة؛ لما في ذلك من المصلحة الراجحة‏.‏
وهكذا جميع الخلق عليهم واجبات؛ من نفقات أنفسهم، وأقاربهم، وقضاء ديونهم، وغير ذلك‏.‏ فإذا تركوها كانوا ظالمين ظلمًا محققًا‏.‏ وإذا فعلوها بشبهة لم يتحقق ظلمهم‏.‏ فكيف يتورع المسلم عن ظلم محتمل بارتكاب ظلم محقق‏؟‏‏!‏ ولهذا قال سعيد بن المسيب‏:‏ لا خير فيمن لا يحب المال‏:‏ يعبد به ربه، ويؤدي به أمانته، ويصون به نفسه، ويستغني به عن الخلق‏.‏ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة حق على الله عونهم‏:‏ الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغارم يريد الوفاء‏)‏ فذكر في هذا الحديث ما يحتاج إليه المؤمن‏:‏ عفة فرجه، وتخليص رقبته، وبراءة ذمته‏.‏ فأخبر أن هذه الواجبات من عبادة الله، وقضاء الديون، وصيانة النفس، والاستغناء عن الناس، لا تتمم إلا بالمال‏.‏ ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب‏.‏ ومن لا يحب أداء مثل هذا الواجب العظيم الذي لا يقوم الدين إلا به فلا خير فيه‏.‏ فهذه جملة، ولها تفاصيل كثيرة‏.‏ والله أعلم‏.‏