أحدها أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما
 
وهذا يتبين بذكر أصول‏:‏
أحدها‏:‏ أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك‏.‏ وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول‏.‏ ومن الناس / من يكون نشأ على مذهب إمام معين، أو استفتي فقهيًا معينًا، أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ، فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك، وهذا غلط، ولهذا نظائر‏.‏
منها‏:‏ ‏[‏مسألة المغانم‏]‏ ، فإن السنة أن تجمع وتخمس، وتقسم بين الغانمين بالعدل‏.‏ وهل يجوز للإمام أن ينفل من أربعة أخماسها‏؟‏ فيه قولان‏.‏ فمذهب فقهاء الثغور، وأبي حنيفة وأحمد، وأهل الحديث، أن ذلك يجوز، لما في السنن‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل في بدأته الربع بعد الخمس، ونفل في رجعته الثلث بعد الخمس‏.‏ وقال سعيد بن المسيب، ومالك، والشافعي‏:‏ لا يجوز ذلك، بل يجوز عند مالك التنفيل من الخمس، ولا يجوز عند الشافعي إلا من خمس الخمس‏.‏ وكان أحمد يعجب من سعيد بن المسيب، ومالك، كيف لم تبلغهما هذه السنة مع وفور علمهما ‏؟‏‏!‏‏.‏
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال‏:‏ بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سرية قبل نجد، فبلغت سهامنا اثنا عشر بعيرًا، ونفلنا بعيًرا بعيًرا‏.‏ ومعلوم أن السهم إذا كان اثني عشر بعيرًا لم يحتمل خمس الخمس أن يخرج منه لكل واحد بعير؛ فإن ذلك لا يكون إلا إذا كان السهم أربعة وعشرين بعيرًا‏.‏ وكذلك إذا فضل الإمام بعض الغانمين على بعض لمصلحة راجحة، كما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم / سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد سهم راجل وفارس، فإن ذلك يجوز في أصح قولي العلماء، ومنهم من لا يجيزه، كما تقدم‏.‏
وكذلك إذا قال الإمام‏:‏ من أخذ شيئا فهو له، ولم تقسم الغنائم‏.‏ فهذا جائز في أحد قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد، ولا يجوز في القول الآخر، وهو المشهور من مذهب الشافعي، وفي كل من المذهبين خلاف‏.‏
وعلى مثل هذا الأصل تنبني الغنائم في الأزمان المتأخرة؛ مثل الغنائم التي كان يغنمها السلاجقة الأتراك، والغنائم التي غنمها المسلمون من النصارى من ثغور الشام ومصر، فإن هذه أفتي بعض الفقهاء ـ كأبي محمد الجويني والنواوي ـ أنه لا يحل لمسلم أن يشتري منها شيئا، ولا يطأ منها فرجًا، ولا يملك منها مالًا، ولزم من هذا القول من الفساد ما اللّه به عليم‏.‏ فعارضهم أبو محمد بن سباع الشافعي، فأفتي‏:‏ أن الإمام لا يجب عليه قسمة المغانم بحال، ولا تخميسها، وأن له أن يفضل الراجل، وأن يحرم بعض الغانمين، ويخص بعضهم، وزعم أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي ذلك‏.‏ وهذا القول خلاف الإجماع، والذي قبله باطل ومنكر أيضا، فكلاهما انحراف‏.‏
والصواب في مثل هذه أن الإمام إذا قال‏:‏ من أخذ شيئا فهو له، /فإن قيل بجواز ذلك، فمن أخذ شيئا ملكه، وعليه تخميسه، وإن كان الإمام لم يقل ذلك، ولم يهبهم المغانم، بل أراد منها ما لا يسوغ بالاتفاق‏.‏ أو قيل‏:‏ أنه يجب عليه أن يقسم بالعدل، ولا يجوز له الإذن بالانتهاب‏.‏ فهنا المغانم مال مشترك بين الغانمين، ليس لغيرهم فيها حق‏.‏ فمن أخذ منها مقدار حقه جاز له ذلك وإذا شك في ذلك‏:‏ فإما أن يحتاط ويأخذ بالورع المستحب، أو يبني على غالب ظنه، ولا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها‏.‏
وكذلك ‏[‏المزارعة‏]‏ على أن يكون البذر من العامل التي يسميها بعض الناس المخابرة‏.‏ وقد تنازع فيها الفقهاء، لكن ثبت بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحيحة جوازها؛ فإنه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، على أن يعمروها من أموالهم‏.‏ وأما نهيه عن المخابرة فقد جاء مفسرًا في الصحيح؛ فإن المراد به أن يشترط للمالك زرع بقعة بعينها‏.‏ وكذلك كراء الأرض بجزء من الخارج منها‏.‏ فجوزه أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه‏.‏ ونهي عنه مالك وأحمد في رواية‏.‏ ونظائر ذلك كثيرة‏.‏ فهذا بين‏.‏