فصل قاعدة في المقبوض بعقد فاسد
 
/ وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏
فصل
قاعدة في المقبوض بعقد فاسد
وذلك أنه لا يخلو‏:‏ إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه، أو لا يعتقد الفساد‏.‏
فالأول يكون بمنزلة الغاصب؛ حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه، لكنه لشبهة العقد، وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه‏؟‏ أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف‏؟‏ هذا فيه خلاف مشهور في الملك‏.‏ هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد‏؟‏وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد؛ مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام؛ مثل بيع الخمر، والربا، والخنزير؛ فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم الينا أمضيت لهم، ويملكون ما قبضوه بها بلا نزاع؛ لقوله تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏278‏]‏ ، فأمر بترك ما بقي‏.‏
وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسخ العقد، ووجب رد المال إن كان باقيا، أو بدله إن كان فائتا‏.‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278، 279‏]‏ ، أمر الله تعالى برد ما بقي من الربا في الذمم، ولم يأمر برد ما قبضوه قبل الإسلام، وجعل لهم مع ما قبضوه قبل الإسلام رؤوس الأموال‏.‏ فعلم أن المقبوض بهذا العقد قبل الإسلام يملكه صاحبه، أما إذا طرأ الإسلام وبينهما عقد ربا فينفسخ، وإذا انفسخ من حين الإسلام استحق صاحبه ما أعطاه من رأس المال، ولم يستحق الزيادة الربوية التي لم تقبض، ولم يجب عليه من رأس المال ما قبضه قبل الإسلام؛ لأنه ملكه بالقبض في العقد الذي اعتقد صحته، وذلك العقد أوجب ذلك القبض، فلو أوجبناه عليه لكنا قد أوجبنا عليه رده، وحاسبناه به من رأس المال الذي استحق المطالبة به، وذلك خلاف ما تقدم‏.‏
وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد؛ مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل، ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته، ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بعضها؛ فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة / لم تنقض بعد ذلك؛ لا بحكم، ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد‏.‏
وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل التقابض، أو استفتياه إذا تبين لهما الخطأ، فرجع عن الرأي الأول، فما كان قد قبض بالاعتقاد الأول أمضي‏.‏ وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال، وزيادة ربوية، أسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال‏.‏ ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول، كأهل الذمة وأولي؛ لأن ذلك الاعتقاد باطل قطعا‏.‏