الجدال والمراء واللدد
 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد

ومما يذم من الألفاظ المراء والجدال والخصومة قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله المراء طعنك في كلام لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وأظهار مزيتك عليه وقال وأما الجدال فعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها قال وأما الخصومة فلجاج في الكلام ليستوفي به مقصودا من مال أو غيره وتارة يكون ابتداء وتارة يكون اعتراضا والمراء لا يكون إلا اعتراضا هذا كلام الغزالي

وقال النووي رحمه الله اعلم أن الجدال قد يكون بحق وقد يكون بباطل قال الله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وقال تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن وقال الله تعالى ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا قال فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محمودا وإن كان في مدافعة الحق أو كان جدالا بغير علم كان مذموما وعلى هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه والمجادلة والجدال بمعنى واحد

قال بعضهم ما رأيت شيئا أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أشغل للقلب من الخصومة فإن قلت لا بد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقوقه فالجواب ما أجاب به الغزالي رحمه الله اعلم أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل وبغير علم كوكيل القاضي فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم ويدخل في الذم أيضا من يطلب حقه لأنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد والكذب والإيذاء والتسليط على خصمه كذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه كذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره فهذا هو المذموم وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعل هذا ليس حراما ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر والخصومة توغر الصدور وتهيج الغضب وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الأخر ويحزن لمسرته ويطلق لسانه في عرضه فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات وأقل ما فيها اشتغال القلب حتى أنه يكون في صلاته وخاطره متعلق بالمحاججة والخصومة فلا تبقى حاله على الاستقامة والخصومة مبدأ الشر وكذا الجدال والمراء فينبغي للإنسان ألا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها

روينا في كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما وجاء عن علي رضي الله عنه قال إن الخصومة لها قحم قلت القحم بضم القاف وفتح الحاء المهملة وهي المهالك فصل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط حتى ينزع

وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله قال ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال ثم تلا ما ضربوه لك إلا جدلا الآية وقال أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم وجدال منافق في القرآن ودنيا تقطع أعناقكم رواه ابن عمر وقال النبي المراء في القرآن كفر فصل يكره التغيير في الكلام بالتشدق وتكلف السجع بالفصاحة بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون فكل ذلك من التكلف لمذموم بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظا يفهمه جليا ولا يثقله

روينا في كتاب الترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة قال الترمذي حديث حسن وروينا فيه أيضا عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون قال المتكبرون قال الترمذي حديث حسن قال والثرثار هو كثير الكلام والمتشدق من يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم واعلم أنه لا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وأغراب إلا أن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر والله أعلم

 

كتاب الكبائر لمحمد بن عثمان الذهبي رحمه الله