فصل في زكاة الأموال التي بأيدي الأعراب المتناهبين
 
فصل
والأموال التي بأيدي هؤلاء الأعراب المتناهبين إذا لم يعرف لها مالك معين، فإنه يخرج زكاتها، فإنها إن كانت ملكا لمن هي في يده كانت زكاتها عليه، وإن لم تكن ملكا له، ومالكها مجهول لا يعرف، فإنه يتصدق بها كلها، فإذا تصدق بقدر زكاتها كان خيرًا من ألا يتصدق بشيء منها‏.‏ فإخراج قدر الزكاة منها أحسن من ترك ذلك على كل تقدير‏.‏
وإذا كان ينهب بعضهم بعضًا فإن كان النهب بين طائفتين معروفتين، فإنه ينظر قدر ما أخذته كل طائفة من الأخري، فإن كانوا سواء تقاضيا، وأقر كل قوم على ما بأيديهم، وإن لم يعرف عين المنهوب منه‏.‏ كما لو تقاتلوا قتال جاهلية وقتل هؤلاء بعض هؤلاء، وهؤلاء بعض هؤلاء، وأتلف هؤلاء بعض أموال هؤلاء، فإن الواجب القصاص بين الطائفتين، فتقابل النفوس بالنفوس، والأموال بالأموال، فإن فضل لإحدي الطائفتين على الأخرى شيء طالبتها بذلك‏.‏
/وعلى ذلك يدل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ ، قال غير واحد من السلف‏:‏ نزلت هذه الآية في قبيلتين من العرب كان بينهما قتال، فأمر الله تعالى أن يقاص من القتلي؛ الحر من هؤلاء بالحر من هؤلاء، والعبد بالعبد، والأنثي بالأنثي‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏178‏]‏ ‏.‏ يقول‏:‏ إن فضل لأحدهما على الآخر شيء فليؤده اليهم بمعروف، والتتبعة الأخري أن يطالبهم به بإحسان والإتباع هو المطالبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع‏)‏‏.‏
وهذا لأن الطوائف الممتنعة التي يعين بعضها بعضًا في القتال، ثم يكون الضمان فيها على الذي يباشر القتال والأخذ والإتلاف، وعلى الردء الذي يعينه عند جمهور العلماء‏.‏
ولهذا كان في مذهب الجمهور‏:‏ أن قطاع الطريق يقتل منهم الـردء، والمباشـر‏.‏ وعمـر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قتل ربيئة المحاربين، وهو الناظر الذي ينظر لهم الطريق‏.‏ فالمتعاونون على الظلم والعدوان تجب عليهم العقوبة بالضمان وغيره؛ ولهذا قال عامة الفقهاء‏:‏ إن الطائفتين المقتتلتين على عصبية ورياسة تضمن كل طائفة ما أتلفت للأخري؛ من /نفس ومال‏.‏ فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعرف عين المتلف‏.‏
وإن كان قدر المنهوب مجهولًا لا يعرف ما نهب هؤلاء من هؤلاء، ولا قدر ما نهب هؤلاء من هؤلاء، فإنه يحمل الأمر على التساوي؛ كمن اختلط في ماله حلال وحرام، ولم يعرف أيهما أكثر، فإنه يخـرج نصـف مالـه، والنصـف الباقي له حـلال كما فعــل عمـر ابن الخطاب بالعمال على الأموال؛ فإنه شاطرهم‏.‏ فأخذ نصف أموال عماله على الشام ومصر والعراق‏.‏ فإنه رأي أنه اختلط بأموالهم شيء من أموال المسلمين، ولم يعرف لا أعيان المملوك، ولا مقدار ما أخذه هؤلاء من هؤلاء، ولا هؤلاء من هؤلاء، بل يجوز أن يكون مع الواحد أقل من حقه، وأكثر، ففي مثل هذا يقر كل واحد على ما في يده إذا تاب من التعاون على الإثم والعدوان، فإن المجهول كالمعدوم يسقط التكليف به، ويزكي ذلك المال كما يزكيه المالك‏.‏
وإن عرف أن في ماله حلالًا مملوكًا، وحرامًا لا يعرف مالكه، وعرف قدره، فإنه يقسم المال على قدر الحلال والحرام، فيأخذ قدر الحلال، وأما الحرام فيتصدق به عن أصحابه، كما يفعل من عنده أموال مجهولة الملاك‏:‏ من غصوب وعواري وودائع؛ فإن جمهور العلماء، كمالك، /وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم يقولون‏:‏ إنه يتصدق بها‏.‏ وهذا هو المأثور في مثل ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وإن لم يعرف مقدار الحلال والحرام فإنه يجعل المال نصفين، يأخذ لنفسه نصفه، والنصف الثاني يوصله إلى أصحابه إن عرفهم، وإلا تصدق به‏.‏
وما تصدق به فإنه يصرف في مصالح المسلمين؛ فيعطي منه من يستحق الزكاة، ويقري منه الضيف، ويعان فيه الحاج، وينفق في الجهاد، وفي أبواب البر التي يحبها الله ورسوله، كما يفعل بسائر الأموال المجهولة، وهكذا يفعل من تاب من الحرام وبيده الحرام لا يعرف مالكه‏.‏