فصل إذا تغيب بعض الشركاء أو امتنع من الأداء
 
فصل
وعلى هذا، فإذا تغيب بعض الشركاء، أو امتنع من الأداء فلم يؤخذ منه وأخذ من غيره حصته، كان عليه أن يؤدي قدر نصيبه إلى من أدي عنه في أظهر قولي العلماء، كما يؤدي ما عليه من الحقوق الواجبة ويلزم بذلك ويعاقب على أدائه، كما يعاقب على أداء سائر الحقوق الواجبة عليه؛ كالعامل في الزكاة إذا طلب من أحد الشريكين أكثر من الواجب وأخذه بتأويل، فللمأخوذ منه أن يرجع إلى الآخر بقسطه‏.‏ وإن كان بغير تأويل فعلى قولين‏:‏
أظهرهما أن له أن يرجع أيضًا؛ كناظر الوقف، وولي اليتيم، والمضارب، والشريك، والوكيل، وسائر مـن تصرف لغيره بولايـة أو وكالـة إذا طلب منه مـا ينوب ذلك المـال مـن الكلف، مثل ما إذا أخذت منه الكلف السلطانية عن الأملاك، أو أخذ من التجار في الطرق والقري ما ينوب الأموال التي معهم؛ فإن لهم أن يؤدوا ذلك من نفس المال، بل يجب عليهـم إذا خافـوا إن لـم يؤدوه أن يؤخذ أكثر منه‏.‏ وإذا قـدر /أن المـال صـار غائبًا، فاقترضوا عليه وأدوا عنه أو أدوا من مال لهم عن مال الموكل، والمولي عليه، كان لهم الرجوع بقدر ذلك من ماله‏.‏ وعلى هذا عمل المسلمين في جميع الأعصار والأمصار‏.‏
ومن لم يقل بذلك فإنه يلزم قوله من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد؛ فإن الكلف التي تؤخذ من الأموال على وجه الظلم كثيرة جدًا‏.‏ فلو كان ما يؤديه المؤتمن على مال غيره عنه من تلك الكلف التي تؤخذ منه قهرًا بغير حق تحسب عليه، إذا لم يؤدها من غير مال المؤتمن لزم من ذلك ذهاب كثير من أموال الأمناء، ولزم ألا يدخل الأمناء في مثل ذلك لئلا تذهب أموالهم‏.‏
وحينئذ، يدخل في ذلك الخونة الفجار الذين لا يتقون الله، بل يأخذون من الأموال ما قدروا عليه، ويدعون نقص المقبوض المستخرج أو زيادة المصروف المؤدي، كما هو المعروف من حال كثير من المؤتمنين على الأموال السلطانية، لكن هؤلاء قد يدخل في بعض ما يفعلونه تأويل، بخلاف الوكيل والشريك والمضارب وولي اليتيم وناظر الوقف، ونحوهم‏.‏
وإذا كان كذلك، فالمؤتمن على المال المشترك بينه وبين شريكه إذا كان يعتد له بما أخذ منه، من هذه الكلف، فما قبضه عمال الزكاة باسم الزكاة أولي أن يعتد له به، وإن قبضوا فوق الواجب بلا تأويل،لا سيما وهذا /هو الواقع كثيرا أو غالبًا في هذه الأزمان،فإن عمال الزكاة يأخذون من زكوات الماشية أكثر من الواجب بكثير، وكذلك من زكوات التجارات، ويأخذون من كل من كان المال بيده، سواء كان مالكًا أو وكيلًا أو شريكًا أو مضاربًا، أو غيرهم‏.‏ فلو لم يعتد للأمناء بما أخذ منهم ظلمًا لزم من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد‏.‏
وأيضًا، فذلك الإعطاء قد يكون واجبًا للمصلحة؛ فإنه لو لم يؤده لأخذ الظلمة أكثر منه، ومعلوم أن المؤتمن على مال غيره إذا لم يمكنه دفع الظلم الكثير إلا بأداء بعض المطلوب وجب ذلك عليه؛ فإن حفظ المال واجب‏.‏ فإذا لم يمكن إلا بذلك وجب، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب‏.‏
وأيضًا، فالمنازع يسلم أنهم لو أكرهوا المؤتمن على أخذ غير المال لم يكن ضامنًا، وأن العامل الظالم إذا أخذ من المال المشترك أكثر من الواجب لم يكن ضامنًا، وإنما وقعت لهم الشبهة إذا أكره المؤدي على الأداء عنه، كيف كان، فأدي عنه مما اقترض عليه، أو من مال إنسان ليرجع عليه‏.‏ فيقال لهم‏:‏ أي فرق بين أن يكرهه على الأداء عنه من مال نفسه،أو من مال الغائب‏.‏ ومعلوم أن إلزامه بالأداء عن الغائب والممتنع أعظم ضررًا عليه من الأداء من عين مال الغائب والممتنع؛ فإن أداء ما يطلب من الغائب أهون عليه من أداء ذلك من مال نفسه، فإذا عذر فيما / يؤديه من مال الغائب لكونه مكرهًا على الأداء، فلأن يعذر إذا أكره على الأداء عنه أولى وأحرى‏.‏
فإن قال المنازع‏:‏ لأن المؤدي هناك عين مال المكره المؤدي فهو المظلوم‏.‏ فيقال لهم‏:‏ بل كلاهما مظلوم؛ هذا مظلوم بالأداء عن ذاك، وذاك مظلوم بطلب ماله‏.‏ فكيف يحمل كله على المؤدي، والمقصود بالقصد الأول هو طلب المال من المؤدي عنه‏؟‏ وإنما الأعمال بالنيات، والطالب الظالم إنما قصده أخذ مال ذلك لا مال هذا، وإنما طلب من هذا الأداء عن ذاك‏.‏
وأيضًا، فهذا المكره على الأداء عن الغائب مظلوم محض، بسبب نفسه وماله، وذاك مظلوم بسبب ماله فكيف يجعل مال هذا وقاية لمال ذاك لظلم هذا الظالم الذي أكرهه، أو يكون صاحب المال القليل قد أخذ منه أضعاف ما يخصه، وصاحب المال الكثير لم يؤخذ منه شيء‏؟‏
وغاية هذا أن يشبه بغصب المشاع؛ فإن الغاصب إذا قبض من العين المشتركة نصيب أحد الشريكين كان ذلك من مال ذلك الشريك في أظهر قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما؛ لأنه إنما قصد أخذ مال أحد الشريكين‏.‏
/ولو أقر أحد الابنين بأخ ثالث وكذبه أخوه، لزم المقر أن يدفع إلى المقر به ما فضل عن حقه، وهو السدس في مذهب مالك وأحمد بن حنبل‏.‏ وكذلك ظاهر مذهب الشافعي، وهو قول جمهور السلف‏.‏ جعلوا ما غصبه الأخ المنكر من مال المقر به خاصة؛ لأنه لم يقصد أن يأخذ شيئًا من حق المقر‏.‏
ولكن أبو حنيفة قال في غصب المشاع‏:‏ إن ما قبضه الغاصب يكون من الشريكين جميعًا، باعتبار صورة القبض من غير اعتبار نية‏.‏ وكذلك قال في الأخ المنكر‏:‏ إن ما غصبه يكون منهما جميعًا فيدفع المقر إلى المقر به نصف ما في يده وهو الربع، ويكون النصف الذي غصبه المنكر منهما جميعًا‏.‏ وهذا قول في مذهب أحمد والشافعي‏.‏ وقول الجمهور هو الصواب لأجل النية‏.‏ وكذلك هنا إنما قبض الظالم عن ذلك المطلوب، لم يقصد أخذ مال الدافع‏.‏
فإن قيل‏:‏ فلو غلط الظالم،مثل أن يقصد القطاع أخذ مال شخص فيأخذون غيره، ظنًا أنه الأول‏.‏ فهل يضمن الأول مال هذا الذي ظنوه الأول‏؟‏ قيل‏:‏ باب الغلط فيه تفصيل ليس هذا موضعه، ولكن الفرق بينهما معلوم، وليس هذا مثل هذا؛ فإن الظالم الغالط الذي أخذ مال هذا لم يأخذه عن غيره، ولكنه ظنه مال زيد فظهر أنه مال عمرو، فقد قصد أن يأخذ مال زيد،فأخذ مال عمرو،كمن طلب قتل معصوم فقتـل/معصومًا آخر ظنًـا منه أنه الأول‏.‏
وهذا بخلاف من قصد مال زيد بعينه، وأن يأخذ من الشركاء ما يقسم بينهم بالعدل، وأخذ من بعضهم عن بعض؛ فإن هذا لم يغلط، بل فعل ما أراده قصد أخذ مال شخص، وطلب المال من المستولي على ماله من شريك أو وكيل، ونحو ذلك، ليؤديه عنه‏.‏ أو طلبوا من أحد الشركاء مالًا عن الأمور المشتركة تؤخذ من الشركاء كلهم، لم يغلطوا في ظنهم‏.‏ فإذا كانوا إنما قصدوا الأخذ من واحد، بل قصدوا العدل بينه وبين شركائه، ولكن إنما قدروا على الأخذ من شريكه، فكيف يظلم هذا الشريك مرتين‏؟‏
ونظير هذا أن يحتاج ولي بيت المال إلى إعطاء ظالم لدفع شره عن المسلمين؛ كإعطاء المؤلفة قلوبهم لدفع شرهم، أو إعطاء الكفار إذا احتاج ـ والعياذ بالله ـ إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء، واستسلف من الناس أموالًا أداها، فهل يقول عاقل‏:‏ إن تلك الأموال تذهب من ضمان من أخذت منه، ولا يرجع على بيت المال بشيء؛ لأن المقبوض كان عين أموالهم، لا عين أموال بيت المال‏؟‏‏!‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعطون ما يعطونه؛ تارة من عين المال‏.‏ وتارة مما يستسلفونه‏.‏ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستسلف على الصدقة، وعلى الفيء، فيصرفه في المصارف الشرعية؛ من إعطاء المؤلفة /قلوبهم، وغيرهم‏.‏ وكان في الآخذين من لا يحل له الأخذ، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، فلم تعطيهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البخل‏)‏‏.‏
ولا يقول عاقل‏:‏ إن ذلك المال يذهب من عين من اقترض منه، بل هو بمنزلة ما إذا كان عين مال الصدقة والفيء؛ لأن المعطي جاز له الإعطاء، وإن لم يجز للآخذ الأخذ‏.‏ هذا وهو يعطيه باختياره، فكيف بمن أكره على الإعطاء وجاز له الإعطاء، أو وجب عليه‏؟‏ ولا يقال‏:‏ ولي الأمر هنا اقترض أموال الناس منهم؛ لأنه يقال‏:‏ إنما اقترضها ليدفعها إلى ذلك الظالم الذي طلب أخذ أموال المسلمين، فأدي عنهم ما اقترضه ليدفع به عنهم الضرر، وعليه أن يوفي ذلك من أموالهم المشتركة مال الصدقات والفيء ولا يقال‏:‏ لا يحل له صرف أموالهم؛ فإن الذي أخذه ذلك الظالم كان مال بعضهم، بل إعطاء هذا القليل لحفظ نفوسهم وأموالهم واجب‏.‏
وإذا كان الإعطاء واجبًا لدفع ضرر هو ضرر أعظم منه، فمذهب مالك وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما‏:‏ أن كل من أدي عن غيره واجبًا فله أن يرجع به عليه إذا لم يكن متبرعًا بذلك، وإن أداه بغير إذنه؛ مثل من قضي دين غيره بغير إذنه‏.‏ سواء كان قد ضمنه بغير إذنه، وأداه بغير إذنه، أو أداه عنه بلا ضمان‏.‏
/وكذلك من أفتك أسيرًا من الأسر بغير إذنه يرجع عليه بما أفتكه به‏.‏ وكذلك من أدي عن غيره نفقة واجبة عليه؛ مثل أن ينفق على ابنه أو زوجته أو بهائمه، لا سيما إذا كان للمنفق فيها حق؛ مثل أن يكون مرتهنًا أو مستأجرًا‏.‏ أو كان مؤتمنًا عليها؛ مثل المودع، ومثل راد العبد الآبق، ومثل إنفاق أحد الشريكين على البهائم المشتركة‏.‏ وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏ ، فأمر بإيتاء الأجر بمجرد إرضاعهن، ولم يشترط عقد استئجار، ولا إذن الأب لها في أن ترضع بالأجر، بل لما كان إرضاع الطفل واجبًا على أبيه، فإن أرضعته المرأة استحقت الأجر بمجرد إرضاعها‏.‏ وهذا في الأم المطلقـة قـول أكثـر الفقــهاء، يقولـون‏:‏ إنها تستحـق الأجـر بمجـرد الإرضاع‏.‏ وأبو حنيفة يقول بذلك في الأم، وإن كان لا يقول برجوع المؤدي للدين، وخالفه صاحباه‏.‏
والمفرق يقول‏:‏ الأم أحق برضاع ابنها من غيرها، حتي لو طلبت الإرضاع بالأجر لقدمت على المتبرعة‏.‏ قيل‏:‏ فكذلك من له حق في بهائم الغير؛ كالمستأجر، والمرتهن، يستحق مطالبة المالك بالنفقة على بهائمه، فذلك أحق من الأم بالإرضاع‏.‏
وأيضًا، فلا يلزم من كونه يستحق ذلك بعقد المعاوضة أن يستحقه بدون عقد، إلا أن يكون الإرضـاع واجبًا على الأب، وإذا كـان إنمـا /أداه لكونـه واجبًا عليه، فهكذا جميع الواجبات عليه أن يؤديها إلى من أدي عنه وأحسن اليه بالأداء عنه‏.‏ وهذا إذا كان المعطي مختارًا، فكيف إذا أكره على أداء ما يجب عليه‏؟‏ فإن الظالم القادر إذا لم يعطه المطلوب الذي طلبه منه ضره ضررًا عظيمًا؛ إما بعقوبة بدنية، وإما بأخذ أكثر منه‏.‏ وحينئذ يجب عليه دفع ما يندفع به أعظم الضررين بالتزام أدناهما، فلو أدي الغير عنه بغير إكراه لكان له أن يرجع عليه بما أداه عنه، فكيف إذا أكره على الأداء عنه‏؟‏‏!‏
وأيضًا، فإذا كان الطلب من الشركاء كلهم فقد تقدم أنه ليس لبعضهم أن يمتنع مما عليه امتناعًا يستلزم تكثير الظلم على غيره‏.‏ وحينئذ فيكون الأداء واجبًا على جميع الشركاء؛ كل يؤدي قسطه الذي ينوبه إذا قسم المطلوب بينهم بالعدل‏.‏ ومن أدي عن غيره قسطه بغير إكراه كان له أن يرجع به عليه، وكان محسنًا اليه في الأداء عنه، ومباشرة الظالمين دونه؛ فإن المباشر يحصل له ضرر في نفسه وماله، والغالب إنما يحصل له الضرر في ماله فقط، فإذا أدي عنه لئلا يحضر كان محسنا اليه في ذلك، فيلزمه أن يعطيه ما أداه عنه، كما يوفي المقـرض المحسن؛ فإن جزاء القـرض الوفـاء والحمـد، ومـن غـاب ولم يؤد حتي أدي عنه الحاضرون لزمه أن يعطيهم قدر ما أدوه عنه، ويلزم بذلك، ويعاقب إن امتنع عن أدائه، ويطيب لمن أدي عنه أن يأخذ نظير ذلك من ماله، كما يأخذ /المقرض من المقترض نظير ما أقرضه‏.‏ ومن قبض ذلك من ذلك المؤدي عنه، وأداه إلى هذا المؤدي جاز له أخذه، سواء كان الملزم له بالأداء هو الظالم الأول أو غيره‏.‏
ولهذا له أن يدعي بما أداه عنه عند حكام العدل، وعليهم أن يحكموا على هذا بأن يعطيه ما أداه عنه، كما يحكم عليه بأداء بدل القرض ولا شبهة على الآخذ في أخذ بدل ماله‏.‏ ولا يقال‏:‏ إنه أخذ أموال الناس؛ فإنه إنما أخذ منهم ما أداه عنهم، وبدل ما أقرضهم إياه من مال، وبدل ما وجب عليهم أداؤه، فإنه ليس لأحد الشركاء أن يمتنع عن أداء ما ينوبه إذا علم أن ذلك يؤخذ من سائر الشركاء، كما تقدم‏.‏ وإذا لم يكن له هذا الامتناع كان الأداء واجبًا عليه، فمن أدي عنه ناويًا للرجوع فله الرجوع إذا أداه طوعًا؛ لإحسانه اليه بالأداء عنه‏.‏ فكيف إذا أكره على الأداء عنه‏؟‏‏!‏ ولو لم يكن الأداء واجبًا عليه، بل قد أكره ذلك الرجل على الأداء عنه رجع عليه، فإنه بسببه أكره ذاك، وأخذ ماله‏.‏وهذا كمن صودر على مال فأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقاؤه أو شركاؤه على أن يؤدوا عنه، ويرجعوا عليه، فلهم الرجوع؛ فإن أموالهم إنما أخذت بسببه، وبسبب الدفع عنه‏.‏
فإن الآخذ منه إما أن يأخذ لاعتقاده أنه ظالم، كما يصادر ولاة الأمور بعض نوابهم، ويقولون‏:‏إنهم أخذوا من الأموال أكثر مما /صودروا عليه؛وإما أن يكون صاحب مال كثير، فيطلب منه الطالب ما يقول‏:‏ أنه ينوب ماله‏.‏ فأقاربه وجيرانه وأصدقاؤه وغيرهم ممن أخذ ماله بسبب مال هذا أو بسبب أعماله إنما ظلموا لأجله، وأخذت أموالهم لأجل ماله وصيانة لماله، والطالب إنما مقصوده ماله لا أموال أولئك، وشبهته وإرادته إنما هي متعلقة بماله دون أموالهم‏.‏ فكيف تذهب أموالهم هدرًا من غير سبب منهم، ويبقي مال هذا محفوظًا، وهو الذي طولبوا لأجله‏؟‏‏!‏ ولو لم يستحق هؤلاء المؤدون عن غيرهم الرجوع لحصل فساد كثير في النفوس والأموال؛ فإن النفوس والأموال قد يعتريها من الضرر والفساد ما لا يندفع إلا بأداء مال عنهم، فلو علم المؤدون أنهم لا يستحقون الرجوع بما أدوه إلا إذا أذن ذلك الشخص لم يؤدوا، وهو قد لا يأذن، إما لتغيبه، أو لحبسه، أو غير ذلك، وإما لظلمه نفسه وتماديه على ما يضر نفسه وماله سفها منه، وظلمًا حرمه الشارع عليه‏.‏
ومعلوم أن الناس تحت أمر الله ورسوله، فليس لأحد أن يضر نفسه وماله ضررًا نهاه الله عنه، ومن دفع ذلك الضرر العظيم عنه بما هو أخف منه، فقد أحسن اليه، وفي فطر الناس جميعهم أن من لم يقابل الإحسان بالإحسان فهو ظالم معتد، وما عده المسلمون ظلمًا فهو ظلم‏.‏كما قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند /الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح‏.‏
وأصل هذا‏:‏ اعتبار المقاصد والنيات في التصرفات، وهذا الأصل قد قرر وبسط في كتاب‏:‏ ‏[‏بيان الدليل على بطلان التحليل‏]‏ ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في ابن اللتبية العامل الذي قبل الهدايا لما استعمله على الصدقات، فأهدي اليه هدايا فلما رجع حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم على ما أخذ وأعطي، وهو الذي يسميه أهل الديوان الاستيفاء، كما يحاسب الإنسان وكيله وشريكه على مقبوضه ومصروفه، وهو الذي يسميه أهل الديوان المستخرج والمصروف، فقال ابن اللتبية‏:‏ هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول‏:‏ هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدي اليه‏؟‏ أم لا‏؟‏ والذي نفسي بيده، ما من رجل نستعمله على العمل فيغل منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر‏)‏‏.‏ ثم رفع يديه إلى السماء ثم قال‏:‏ ‏(‏ألا هل بلغت‏؟‏‏)‏ أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والحديث متفق على صحته‏.‏
فلما كان المعطون المهدون إنما أعطوه وأهدوا اليه لأجل ولايته، جعل ذلك من جملة المال المستحق لأهل الصدقات؛ لأنه بسبب /أموالهم قبض، ولم يخص به العامل الذي قبضه، فكذلك ما قبض بسبب أموال بعض الناس فعنها يحسب، وهو من توابعها، فكما أنه أعطي لأجلها، فهو مغنم ونماء لها، لا لمن أخذه، فما أخذ لأجلها فهو مغرم ونقص منها لا على من أعطاه‏.‏
وكذلك من خلص مال غيره من التلف بما أداه عنه يرجع به عليه؛ مثل من خلص مالًا من قطاع أو عسكر ظالم أو متول ظالم، ولم يخلصه إلا بما أدي عنه، فإنه يرجع بذلك، وهو محسن اليه بذلك، وإن لم يكن مؤتمنًا على ذلك المال، ولا مكرهًا على الأداء عنه، فإنه محسن اليه بذلك، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏.‏ فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف أداها عنه كان من المحسنين، فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه، وبقي عمله وسعيه في تخليص المال إحسانًا اليه لم يجزه به‏.‏ هذا أصوب قولي العلماء‏.‏
ومن جعله في مثل هذا متبرعًا ولم يعطه شيئًا، فقد قال منكرًا من القول وزورًا، وقد قابل الإحسان بالإساءة‏.‏
ومن قال‏:‏ هذا هو الشرع الذي بعث الله به رسوله، فقد قال على الله غير الحق؛ لكنه قول بعض العلماء، وقد خالفهم آخرون‏.‏ ونسبة مثل هذه الأقوال إلى الشرع توجب سوء ظن كثير من الناس في الشرع وفرارهم منه، والقدح في أصحابه‏.‏ فإن من العلماء من قال قولًا برأيه، /وخالفه فيه آخرون، وليس معه شرع منزل من عند الله، بل الأدلة الشرعية قد تدل على نقيض قوله، وقد يتفق أن من يحكم بذلك يزيد ذلك ظلمًا بجهله وظلمه، ويتفق أن كل أهل ظلم وشر يزيدون الشر شرًا، وينسبون هذا الظلم كله إلى شرع من نزهه الله عن الظلم وبعثه بالعدل والحكمة والرحمة، وجعل العدل المحض الذي لا ظلم فيه هو شرعه‏.‏
ولهذا كان العدل وشرعه متلازمين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏58‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏42‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ ‏.‏
فما أنزل عليه والقسط متلازمان، فليس فيما أنزل الله عليه ظلم قط، بل قد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ ، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏