سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ‏}‏
 
/وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية وإليهودية‏:‏ فهل هما من المشركين أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد اللّه، نكاح الكتابية جائز بالآية التي في المائدة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم‏.‏ وقد روي عن ابن عمر‏:‏ أنه كره نكاح النصرانية، وقال‏:‏ لا أعلم شركا أعظم ممن تقول‏:‏ إن ربها عيسي ابن مريم ـ وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع ـ وقد احتجوا بالآية التي في سورة البقرة، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين، فجعل أهل الكتاب غير مشركين بدليل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17‏]‏‏.‏
/فإن قيل‏:‏ فقد وصفهم بالشرك بقوله‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏
قيل‏:‏ إن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك؛ فإن اللّه إنما بعث الرسل بالتوحيد، فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك ولكن النصاري ابتدعوا الشرك، كما قال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر اللّه به وجب تميزهم عن المشركين؛ لأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد، لا بالشرك‏.‏ فإذا قيل‏:‏ أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين؛ فإن الكتاب الذي أضيفوا إليه لا شرك فيه، كما إذا قيل‏:‏ المسلمون، وأمة محمد‏.‏ لم يكن فيهم من هذه الجهة، لا اتحاد، ولا رفض، ولا تكذيب بالقدر، ولا غير ذلك من البدع‏.‏ وإن كان بعض الداخلين في الأمة قد ابتدع هذه البدع، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد، بخلاف أهل الكتاب‏.‏ ولم يخبر اللّه ـ عز وجل ـ عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم، بل قال‏:‏ ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ بالفعل، وآية البقرة قال فيها‏:‏ ‏{‏الْمُشِرِكِينَ‏}‏ و‏{‏الْمُشْرِكَاتِ‏}‏ بالاسم‏.‏ والاسم أوكد من الفعل ‏.‏
/الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ إن شملهم لفظ‏:‏ ‏{‏الْمُشِرِكِينَ‏}‏ من سورة البقرة كما وصفهم بالشرك، فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفرداً ومقرونا؛ فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب، وإذا أقرنوا مع أهل الكتاب لم يدخلوا فيهم، كما قيل مثل هذا في اسم ‏[‏الفقير‏]‏ و‏[‏المسكين‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ فعلى هذا يقال‏:‏ آية البقرة عامة، وتلك خاصة‏.‏ والخاص يقدم على العام‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ آية المائدة ناسخة لآية البقرة؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء، وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها‏)‏، والآية المتأخرة تنسخ الآية المتقدمة إذا تعارضتا‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، فإنها نزلت بعد صلح الحديبية لما هاجر من مكة إلى المدينة، وأنزل اللّه ‏[‏سورة الممتحنة‏]‏ وأمر بامتحان المهاجرين‏.‏ وهو خطاب لمن كان في عصمته كافرة‏.‏ و ‏[‏اللام‏]‏ لتعريف العهد، والكوافر المعهودات هن المشركات، مع أن الكفار قد يميزوا من أهل الكتاب ـ أيضاً ـ في بعض المواضع كقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏، فإن أصل دينهم هو الإيمان، ولكنهم /كفروا مبتدعين الكفر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150، 151‏]‏‏.‏